Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

يرجى الاشتراك في الموقع ليصلكم جديد الموقع

يرجى الاشتراك في الموقع ليصلكم جديد الموقع

الموقع الرسمي للإمام المهدي ( المسيح الموعود )
ميرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام

الموقع الرسمي للإمام المهدي ( المسيح الموعود )
ميرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام

خطبة بتاريخ 25 ديسمبر 1897م

 الحث على التقوى

قال الامام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام :  أرى أن الأهم والَأولى هو أن أَعِظَ جماعتي بالتقوى نصحًا لهم، إذ ليس خافيًا على عاقل أن الله تعالى لا يرضى إلا بالتقوى، قال الله تعالى : “إِنَّ اَلله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُْحسِنُون”  (النحل:128).

إن جماعتنا بأمسّ الحاجة إلى التقوى بوجه خاص، فإنهم قد بيًعوا وانتموا إلى شخص يدّعي أنه مأمور من الله تعالى، ذلك لينجوا من الآفات كلها، سواء أكانوا مصابين بأنواع الضغائن والأحقاد وصنوف الشرك، أو كانوا متكالبين على الدنيا إلى أبعد الحدود.

 تعلمون أن المرء إذا أصيب بمرض خطير أو بسيط، فلا يُشفى ما لم يخضع للمداواة وما لم يتكبّد عناء العلاج. فمثلًا لو ظهرت على وجهه بقعة سوداء قلق قلقا شديدا مخافة أن تكبر وتسوِّد الوجه كله. كذلك فإن المعصية تترك بقعة سوداء على قلب الإنسان، والصغائر تتحول إلى الكبائر نتيجة التساهل والتهاون. والصغائر هي تلك البقعة السوداء التي تكبر حتى تسوّد الوجه كله.

 إن الله كما هو رحيم وكريم، فإنه قهار ومنتقم أيضا، وعندما يرى جماعة تدّعي ادعاءاتٍ واسعة لكن أعمالاُ لا تتفق مع دعاواها، فيثور غيظه وغضبه، فيسلط عليها الكفار عقاباً لهم. إن الملمّين بلًتاريخ يعلمون أن المسلمين دُمّروا بأيدي الكفار مرارا، مثل جنكيز خان وهولاكو خان. كان الله تعالى قد وعد المسلمين بالنصرة والحماية، ومع ذلك صاروا مغلوبين. وقد وقعت مثل هذه الأحداث مرارا، وليس ذلك إلا لأن الله حين يرى أن هذه الجماعة تشهد بأن “لا إله إلا الله”، ولكن قلوبها معرضة عنه، ومتكالبة على الدنيا عمليًّا، فيحلّ عليهم قهره وغضبه.

ضرورة توافق القول والفعل

إنما خشية الله تعالى أن يفحص المرء مدى توافق فعله مع قوله، فلو وجد فعلَه غير منسجم مع قوله فليعلم أنه سيكون عرضة لغضب الله تعالى، إذ لا قيمة لصاحب القلب النجس مهما كان قولُه طيبًا، بل إنه سوف يثير غضب الله تعالى. فلتعلم جماعتي أنهم جاءوني لأنميهم كالبذر، ليكونوا شجرةً مثمرة، لذا فليفحصْ كلُّ واحد منكم نفسه ليعلم حالة بطًنه وقلبه. إذا كان أبناء جماعتي يقولون خلاف ما يُخفون في قلوبهم- لا سمح الله- فلن تكون عاقبتهم محمودة، لأن الله تعالى حين يرى جماعةً تدّعي ادعاءات واسعة وقلوبها فارغةٌ، فلا يعبأ بها، لأن الله غنّي. كان النبي – صلى الله عليه وسلم- قد تلقى نبوءة النصر بوقعة بدر، وكان النصر مأمولًا ومؤكدا، ومع ذلك دعا الله تعالى متضرّعًا باكياً، فقال له أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- إذا كان وعدُ الفتح مؤكدا فما الحاجة لهذا البكاء والابتهال؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- إن الله غني، وقد يكون الفتحُ مشروطا بشروط خفية.

بركات التقوى

لذا فعلينا أن نفحص دائما مدى تقدّمنا في الطهارة والتقوى، والمعيار لاختبار ذلك هو القرآن الكريم. لقد بيَّن الله تعالى أن من علامات المتقين أن الله ينجيهم من مكاره الدنيا ويتكفل أمورهم، حيث قال تعالى : “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ”  (الطلاق:2-3) ، أي أن الذي يتقي الله يجعل الله له مخرجًا من المصائب والأزمات، ويهيئ له أسباب الرزق من حيث لا يحتسب.

أي أن من علامات المتقي أن الله تعالى لا يجعله يضطرّ لحاجات لا طائل منها. فمثلًا يزعم التاجر أن تجارته لن تزدهر بدون كذب وزور، فلا يتورع عن الكذب بحجة أنه مضطر لذلك. ولكن هذا باطل تماما، فإن الله نفسه يتولى المتقي ويحميه من مواقف تضطره لقول ما ليس بحق. اعلموا أن مَن ترك الله تركَه الله، ومن تركه الرحمن والاه الشيطان يقينا.

لا تظنوا أن الله تعالى ضعيف، كلا، بل هو شديدُ القُوى المتين، فلو توكلتم عليه في أموركم لأعانكم حتمًا : ” وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ” (الطلاق:3) . كان أوّل المخاطَبين في هذه الآيات أهل صلاح ودين، وكانت جلُّ همومهم عن الدين، وقد فوّضوا أمر دنياهم إلى الله تعالى، فطمأنَهم الله بأني معكم. باختصار، إن من بركات التقوى أن الله تعالى ينجي الإنسان المتقي من الصعاب التي تعيقه عن خدمة الدين.

الرزق الروحاني للمتقي

ثم إن الله تعالى يرزق المتقي خاصة. وسوف أتحدث هنا عن رزق المعارف. ومع أن النبي – صلى الله عليه وسلم-  كان أُمّيًّا إلا أنه كان عليه أن يواجه العالم كله بمن فيهم أهل الكتاب والفلاسفة والمثقفين الكبار والعلماء الأفذاذ، فأعطاه الله الرزق الروحاني حتى غلب الجميعَ ونبّههم إلى أخطائهم. كان هذا رزقًا روحانيا لا نظير له.

يقول الله تعالى في عظمة المتقي في آية أخرى: ” إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ” (الانفال:34)، أي ليس أصدقاء الله إلا المتقون. يا لها مِن نعمة حيث يُدعى الإنسان مقربًً عند الله جزاءً على تعرُّضه لأذى بسيط. لقد صار الناس في هذا العصر قليلي الهمة جدا، فلو قال لأحدهم حاكم أو مسؤول إنك صديقي، أو قدّم له الكرسي وأكرمه، فإنه يتكبر ويتفاخر، فما أعظمَه درجةً مَن يدعوه الله وليًا أو

صديقًا له. لقد وعد الله على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم- في حديث في البخاري: “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه “. أي أن الله تعالى يقول: إن وليّي يتبوأ هذا المقام العظيم من قربي من خلال النوافل.

الفرائض والنوافل

كل الصالحات التي يقوم بها المرء تنقسم إلى قسمين؛ الفرائض والنوافل. والفرائض واجبات لا بد له منها كسداد دينٍ أو ردِّ معروفٍ بمعروف. وهناك النوافلُ إلى جانب الفرائض، أي ثمة حسنات إضافية إلى ما هو فرض على الإنسان، كأن يردّ على الآخر بمعروف أكبر مما صُنع به. والنوافل متمِّماتٌ للفرائض. والحديث المذكور آنفًا يبين أن فرائض أولياء الله الدينية تكتمل بالنوافل، فمثلا إنهم يُخرجون الصدقات علاوةً على أداء الزكاة. والله تعالى يوالي مثل هؤلاء الأولياء، ويقول إن هذه الولاية والصداقة تتعاظم حتى يصبح الله تعالى يدَ عبده ورجله ولسانه الذي يتكلم به.

ضرورة توافق كل فعل مع مشيئة الله

الحق أن الإنسان حين يتطهّر من أهواء النفس ويتّبع مشيئة الله متخليًا عن أنانيته، فلا يصدر عنه ما ليس بجائز، بل تكون أفعاله كلها تابعة لمشيئة الله تعالى. إنما يقع الإنسان في الابتلاء والعثار حين لا يكون عمله موافقًا لمشيئة الله، بل يكون خلاف مرضاته تعالى، ومِثل هذا الإنسان يتّبع أهواءه، فيرتكب في ثورة الغضب ما يجرّه إلى المحاكم مثلًا، فيعاقَب. ولكن لو صمم المرء على ألا يعمل عملًا إلا باستشارة كتاب الله وألا يتخذ خطوة إلا بعد الرجوع إلى كتاب الله، فلا بد أن يرشده كتاب الله، لأن الله تعالى يعلن: “وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِيٍن” (الأنعام:59). فلو عقدنا العزم على استشارة كتاب الله فلا بد أن يرشدنا. ولكن الذي يتّبع أهواءه فلا بد أن يتضرر، وفي أحيان كثيرة يؤاخَذ في هذه الدنيا نفسها. وعلى النقيض إيقول الله تعالى إن أوليائي الذين يعملون معي ويمشون معي ويتكلمون معي فكأنهم فانون فّي. وكلما كان المرء أقلَّ تفانيًا في الله تعالى كان بعيدًا عن الله، ولكنه لو تفانى في الله كما وصف الله أولياءه، فاق إيمانُه التقديرَ، وقد قال الله تعالى في مثل هذا في حديث قدسي: “مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ”  أي من يتصدى لولٍّي لي فإنما يتصدى لي أنا.

فانظروا كم هي سامية درجة المتقيّ ، وما أعلاه مكانةً! فمَن بلَغ في قرب الله تعالى بحيث صار إيذاؤه كإيذاء الله تعالى فيمكنكم أن تتصوَّروا كيف ينصره الله ويعينه.

من التحق بالمتقي نجا

يُلقَى الناس في مصائب كثيرة، ولكن المتقي يُنجّى منها، بل ينجّى منها من يكون معه. المصائب لا حد لها، حتى إن بطًن الإنسان مليء بمصائب بلا حدود. خذوا مثلًا الأسقام وحدها، فإنها تجلب على الإنسان آلاف الآفات، ولكن الذي يكون في حصن التقوى يُحفَظ منها، أما الذي يكون خارجه فهو في غابة مليئة بالوحوش الضارية.

يتلقى المتقي البشارات في هذه الحياة الدنيا

وهناك وعد آخر للمتقين : “لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ” (يونس:64)، أي أن المتقين يتلقّون البشارات في هذا العالم نفسه عبر الرؤى الصالحة، بل يحظون بالمكاشفات، ويتشرفون بمكالمة الله، ويرون الملائكة في زيّ البشر، كما قال الله تعالى: “إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ” (فصلت:30).  وهم قوم يقولون ربُّنا اُلله، ثم يتحلّون بالاستقامة، أي يوفون بعَملهم الوعد الذي قطعوه بلسانهم.

الابتلاء ضروري

والابتلاء ضروري كما تشير هذه الآية : “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت:2) وقال الله تعالى : “إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ” (فصلت:30) لقد أخطأ المفسرون إذ قالوا إن نزول الملائكة هذا يكون وقت الاحتضار. وهذا قول باطل، وإنما معنى هذه الآية أن الذين يطهّرون قلوبهم وينأون بنفوسهم عن النجاسة التي تُبعد عن الله تعالى، يصبح لهم الانسجام مع الوحي، فيبدأ نزوله عليهم.

ثم قال الله تعالى في بيان عظمة المتقي في آية أخرى : “أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (يونس:62). ومَن كان الله كفيلَه فلا يصيبه أذى، ومَن كان الله وليَّه فلا يقدر الخصم على الإضرار به.

ثم قال الله تعالى لهم: “وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون” (فصلت:30)، أي افرحوا بالجنة التي وُعدتم بها.

يتضح من هدي القرآن الكريم أن للإنسان جنتين. فمَن أحبّ الله تعالى فكيف يمكن أن يعيش عيشة الحرقة والألم؟ ما دام صديق بعض الحكام في الدنيا يعيش بسبب صداقته عيشة كالجنة فيما يتعلق بدنياه، فما بلًك بأولياء الله تعالى، أفلا تكون أبواب الجنة مفتوحة لهم؟ لا جرم أن الدنيا مليئة بالمصائب والخطوب، ولكن ما يدريكم كم يستمتع هؤلاء القوم بحلول هذه الشدائد والآلام عليهم. الإنسان لا يصبر على الأذى لنصف ساعة، أما هؤلاء القوم فيصبرون على الأذى طوال حياتهم. ولو عُرض عليهم مُلك عظيم على أن يتركوا عملهم فلا يرضون بذلك. كذلك لو صُبّت عليهم جبال المصائب فلا ينثنون عن إرادتهم.

الأسوة الكاملة في الأخلاق

لقد مرّ النبي – صلى الله عليه وسلم- بالظرفين كليهما . فقد أتى عليه زمان رُشق فيه بالحجارة بالطائف، وآذاه جمع كبير أشد الأذى، لكن لم تتزعزع عزيمته. ولما رأى القوم أنه لا يعبأ بالمصائب والشدائد، اجتمعوا وجاءوه يعدونه بالملك والسيادة، ويعرضون عليه كل أنواع الراحة والرخاء وحتى أجمل النساء، على أن يكفّ عن ذمّ آلهتهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يحفل بوعد الملك مثلما لم يبال بالأذى الشديد الذي حل به في الطائف بل آثر أن يرشق بالحجارة. فإن لم يكن يجد فيها متعةً عظيمة فأنّى له أن يقع في الآلام تاركًا الراحة؟

هذه الفرصة لم تتيسر لأي نبي سوى نبينا عليه الصلاة والتحيات حيث أُغري بوعود كبيرة على أن يتخلى عن أداء مهام النبوة. لم يتيسر هذا الأمر للمسيح عليه السلام أيضا، وإنما نبينا صلى الله عليه وسلم هو الوحيد في تاريخ العالم الذي وُعد بالملك على أن يتخلى عن القيام بمهمته. لقد خُصَّ  النبي صلى الله عليه وسلم  وحده بهذا الشرف. كما أن هادينا الكامل هو الوحيد الذي تيسرت له الفترتان: فترة الأذى وفترة النصر، ليكون أسوة كاملة في الأخلاق في الظرفين كليهما.

لقد أراد الله تعالى للمتقين أن يستمتعوا باللذتين كلتيهما، فحينًا يستمتعون بمتع الدنيا وراحتها وطيباتها، وحينًا آخرَ يستمتعون بمتع المحن والمصائب، ذلك ليقدّموا أسوة كاملة في الأخلاق في الظرفين، فمِن الأخلاق ما ينكشف عند القوة والقدرة، ومنها ما يتجلى وقت المحن والخطوب. وقد تيسّر الأمرانِ لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ليس بوسع أية أُمةٍ تقديم أخلاق نبيها بقدر ما نستطيع تقديم أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم فمثلًا لم يظهر للناس من أخلاق المسيح عليه السلام إلا صبره، حيث ظل عرضة للضرب والإهانة، فأين الدليل على أنه نال القوة والسلطة أيضا. لا شك أنه عليه السلام نبي حق، ولكن ما تجلّت أخلاقه بكل أنواعها، فلأن القرآن الكريم يذكره نبيًا فنؤمن به، وإلا لم يثبت له من الإنجيل أي من الأخلاق التي تحلى بها أولو العزم من الرسل. لو أن هادينا الكامل صلى الله عليه وسلم مات في فترة الثلاث عشرة سنة الأولى، وهي فترة المحن والشدائد، لما تجلى كثير من أخلاقه الفاضلة الأخرى كما حصل مع المسيح، ولكن لما أتت على نبينا الفترة الثانية فترةُ النصر، وعُرض عليه المجرمون، تجلى خُلق رحمته وعفوه تجليًا كاملا. كما ثبت من هذا أن أفعاله ما كانت صادرة عن جبر وإكراه، بل تم كل أمر له بشكله الطبيعي. وهناك أخلاق كثيرة أخرى ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.

فقول الله تعالى : “نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ” (فصلت:31)  يكذّب أيضا أولئك الجاهلين الذين أنكروا نزول الملائكة في هذه الحياة. إذا كانت الملائكة تنزل عند سكرات الموت، فكيف ثبتت ولاية الله لعباده هؤلاء في الحياة الدنيا؟

يرى المتقي حياة الآخرة في الدنيا نفسها

فمِن نعمة الله على أوليائه أنهم يرون ملائكته. إن الحياة الآخرة مجرد إيمان بالغيب، ولكن المتقي يُرَى الحياةَ الآخرة في هذه الحياة نفسها، فأولياء الله يلقونه في هذه الحياة نفسها ويرونه ويكلّمهم، ومَن لم يحظ بهذا فموتُه ورحيله من هذه الحياة شرُّ رحيل. لقد قال أحد أولياء الله تعالى إن الذي لم يحظ في حياته برؤيا صالحة واحدة فعاقبته غير محمودة. لقد جعل القرآن الكريم هذا الأمر علامة للمؤمن، فمن خلا من هذه العلامة فلا تقوى فيه. لذا فعلينا جميعًا أن ندعو الله تعالى لنفي هذا الشرط، فنحظى بفيض الوحي والرؤيا والمكاشفات من عند الله تعالى، فإن هذه ميزة خاصة للمؤمن، ويجب أن توجد فينا.

وهناك بركات كثيرة أخرى ينالها المتقي، فمثلًا يعلّم الله تعالى المؤمن في سورة الفاتحة التي هي في مستهلّ القرآن الكريم أن يدعو الله قائلا: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ  * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ” (الفاتحة:6-7)، أي دُلَّنا على صراط الذين أنعمتَ وتفضلتَ عليهم. لقد علّم الله تعالى هذا الدعاء ليشحذ المرء همته ويفهَم مشيئة خالقه، ألا وهي ألا تعيش هذه الأمة عيشة البهائم، بل تزول عنها الحجب كلها. فمثلًا يؤمن الشيعة أن الولاية انتهت بعد اثني عشر إمامًا، ولكن يتضح من هذا الدعاء أن الله تعالى قد قضى سلفًا أن الذي يكون تقيًّا ويعيش تابعًا للمشيئة الإلهية، فسيحوز تلك المراتب التي يحوزها الأنبياء والأصفياء. وهذا يكشف أيضا أن الإنسان قد وُهب كفاءات كثيرة قُدّر لها أن تنمو وتتطور جدا. لكن قوى الكبش غير قابلة للتطور لأنه ليس بإنسان. فصاحب الهمة العالية عندما يسمع أحوال الرسل والأنبياء يتمنى ألا يكتفي بالإيمان بتلك الإنعامات التي نالتها تلك الجماعة الطاهرة فحسب، بل ينالها هو أيضا ليبلغ عِلمُه بتلك الإنعامات درجةَ علم اليقين وعيِن اليقين وحق اليقين بالتدريج.

ثلاثة مدارج للعلم

هناك ثلاثة مدارج للعلم: علم اليقين، عين اليقين وحق اليقين؛ فمثلًا حين يرى المرء دخانا مرتفعا من مكان يوقن بوجود النار، وهذا يسمى علمَ اليقين، وحين يراها بأم عينه فهذا عيُن اليقين، ولكن مرتبة حق اليقين هي فوق ذلك، وهي أن يُدخل يده في النار ويوقن بوجودها بإدراك حرقتها. فيا لشقاوة إنسان لا يحوز أيًّا من هذه المراتب الثلاث. إن هذه الآية تكشف أن المحروم من فضل الله تعالى يقلّد تقليدا أعمى فحسب، بينما يقول الله تعالى : “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت:69)، أي أن الذين يجاهدون في سبيلنا سوف نهديهم إليها. فهذا وعد من الله تعالى، وهناك دعاء : “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة:5)، لذا فعلى المرء أن يدعو بإلحاح آخذًا هذا الوعد في الحسبان، ويتمنى أن يكون من الحائزين على الرقي والبصيرة، كيلا يرحل من هذه الدنيا أعمى عديَم البصيرة، فقد قال الله تعالى : “وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا” (الاسراء:72). والمقصود من قول الله هذا أن علينا أن نأخذ من هذا العالم عيونًا لمشاهدة عالم الآخرة. الحواسّ التي تصلح لاستيعاب ذلك العالم سيتم إعدادها في هذه الدنيا نفسها، إذ كيف يصحّ أن يعِدنا الله وعدًا ثم لا يفي به؟

من هو الأعمى؟

والمراد من الأعمى هنا مَن لا حظَّ له من المعارف الروحانية واللذّات الروحانية. يولد المرء في بيت مسلم فيسمى مسلمًا نتيجةَ تقليده الأعمى لأهله، ويولد غيُره في بيت مسيحي فيصير مسيحيا، ومن أجل ذلك لا يكنّ هذا المسلم أيَّ احترام لله ولا لرسوله ولا للقرآن الكريم، بل إن حبه للدين أيضا أمرٌ مشكوك فيه، إذ يتردد إلى قوم يسيئون إلى الله ورسوله، وليس سببه إلا أنه لا يملك عيونا روحانية، ولا حبًّا للدين، وإلا فمتى يرضى المحبّ بشيء لا يحبُّه حبيبه؟

باختصار، لقد أخبرنا الله تعالى هنا أنه مستعد للعطاء إن كنتم مستعدين للتلقّي، والقيام بهذا الدعاء هو بمنزلة الاستعداد لتلقّي هذا الهدى.

المتقي

ثم بعد هذا الدعاء قال الله تعالى في بداية سورة البقرة : “هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” (البقرة:2)، وكأن هذا إعداد ربَّاني لمنح الهداية للناس، بمعنى أن هذا الكتاب يَعِدُ المتقي بإيصاله درجةَ الكمال. وهذا يعني أن هذا الكتاب نافع للذين هم مستعدّون للاتّقاء وللإصغاء إلى النصح. والمتقي بهذه المرتبة هو من يكون مستعدا لسماع الحق، متخليًا عن أفكاره المسبقة، ومثاله أن يدخل أحد في الإسلام فيصبح متقيا. عندما تأتي أيام خير لأحد من أتباع دينٍ غيِر الإسلام تتولد فيه التقوى، فيتخلى عن العُجب والكبر والأنانية. هذه كانت العوائق، فزالت، وبزوالها فُتحت نوافذ قلبه المظلم ودخلت فيه الأشعّة.

لقد قال الله تعالى هنا : “هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ”، واعلم أن الاتّقاء من باب الافتعال، ومن خواص هذا الباب التكلّفُ ، وعليه فهذه إشارة ربَّانية إلى أن مرتبة التقوى التي نطلبها في هذه المرحلة لا تخلو من التكلف، وفي هذا الكتاب تعليمات تحافظ على هذا النوع من التقوى. وكأنما قيل هنا أنه لابد للمتقي من تكبّد المشاقّ في فعل الخيرات.

العبد الصالح

وبعد عبور هذه المرحلة يصبح السالك عبدًا صالحا، أعني أنه يتخلص من التكلف في فعل الخيرات، ويبدأ بفعلها طبعًا وفطرة. إنه يكون في دار الأمان الذي لا خطر عليه فيها، وتنتهي حربه تمامًا ضد أهواء النفس، ويدخل في مكان آمن، وينجو من المخاطر كلها. وإلى هذا الأمر نفسه قد نبّهَنا هادينا الكامل صلى الله عليه وسلم إذ قال إن لكل إنسان شيطانا، ولكن شيطاني قد أسلم. فالمتّقي يكون في حرب ضد الشيطان كل حين، ولكنه حين يصبح صالًحا تنتهي حروبه كلها، إذ كان عليه قبْل هذه المرحلة أن يحارب الرياء مثلًا كل حين. الحق أن المتقي يكون في موطن الحرب دائما، ولا ينتصر فيها إلا إذا حالفه التأييد الإلهي. خذوا مثلًا الرياء الذي يدبّ دبيب النمل، والذي يدَعه الإنسانُ أحيانًا ليأخذ طريقه إلى قلبه من حيث لا يحتسب. فمثلًا لو فقد المرء سكّينًا له، وسأل عنها غيَره، لكانت هذه فرصة سانحة لنشوب الحرب بين هذا المسؤول المتقي والشيطان، إذ يوسوس له الشيطان أن سؤال صاحب السكين عنها بهذا الأسلوب يمثّل إساءةً له، فقد يفقد أعصابه ويخاصم صاحبَ السكين. لكن المتّقي يحارب أهواء نفسه السيئة في مثل هذا الموقف، فإن كان متحليا بالأمانة والصلاح لوجه الله حقا، فما الداعي لأن يثور غضبًا؟ لأن إخفاء الأمانة والصلاح عن الناس قدر الإمكان خيٌر. فمثلا لو مرّ تاجر الجواهر بلصوص، فتشاوروا فيما بينهم بشأنه، فقال بعضهم إنه ثري، وقال آخرون إنه فقير صفر اليدين، فلا شك أن التاجر سيحبّ قول الذين يظنون أنه فقير خاوي الوفاض.

إخفاء الأعمال خير

ثم ما هي هذه الدنيا؟ إنْ هي إلا دار ابتلاء. فالذي يخفي كل أمر من أموره متجنّباً الرياء فهو الأفضل. إن الذين يعملون الصالحات لوجه الله خالصة إنهم لا يَدَعونها تظهر لأحد، وأولئك هم المتقون. لقد قرأت في كتاب “تذكرة الأولياء” أن أحد الصالحين قال في جمعٍ من الناس أنه بحاجة إلى المال وطلب منهم المساعدة، فآتاه أحدهم مئة ألف روبية نظرًا إلى صلاحه، فأخذ منه المال وأثنى على سخائه وكرمه، فانزعج المعطي من المدح ظنًّا منه أنّ مدْحه سيحرمه الثوابَ في الآخرة، فجاءه بعد قليل وقال إنّ المال الذي أعطيتك هو لأمي وهي لا تريد أن أعطيك إياه. فردّ له المال، فأخذ الناس يلومونه وينعتونه بالكذب فيما قال وبأنه كان لا يريد أن يعطيه المال أصلا. ولما عاد الرجل الصالح إلى بيته ليلًا أتاه صاحب المئة ألف روبية وقال له: لقد استرددت منك المال متحايلا لأنك كنتَ أثنيت عليَّ أمام الناس وحرمتَني ثواب الآخرة، فخُذْه الآن فهو لك، ولكن لا تذكر اسمي لأحد. فبكى الرجل الصالح وقال: الآن ستظل عرضةً للَوْم الناس وطعنهم إلى يوم القيامة، لأن الجميع عرفوا ما جرى وقت النهار، ولكن لا أحد منهم يعرف أنك قد رددت لي المال الآن.

فالمتقي يخفي أفكاره أيضا محاربًً نفسه الأمّارة، ولكن الله تعالى يكشف للناس أفكاره الخفية هذه دائما. فكما أن الطالح يريد أن يتوارى عن الناس بعد ارتكاب السيئة، كذلك يصلي المتقي متخفيا مخافة أن يُرى وهو يصلي. المتقي الحقيقي يريد نوعا من الستر. والتقوى مراتب كثيرة، ولكنها تتطلب نوعًا من التكلف في كل حال. المتقي في حالة حرب دوما، أما الصالح فهو قد تجاوز مرحلة الحرب هذه، كما بينت آنفًا بضرب مثال الرياء الذي يظل المتقي في حرب مستمرة ضده كل حين.

حرب بين الرياء والحلم

في أحيان كثيرة تنشب الحرب بين الرياء والحلم. فحينًا يغضب الإنسان خلاف ما يأمره به كتاب الله، كأن يسمع السباب فتثور نفسه، ولكن التقوى تعلّمه ألا يغضب كما قال القرآن الكريم : ” وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا” (الفرقان:72).

ويحارب الإنسان قلة الصبر في معظم الأحيان. أعني أنه يجد في سبيل التقوى عوائق جّمة تصعّب عليه الوصول إلى غايته، فيفقد الصبر. فمثلًا لو كان علينا حفر بئر إلى عمق 50 ذراعا لنجد الماء، ونترك الحفر بعد عمق بضعة أذرع لكان هذا سوء ظن من جانبنا، كذلك فمن مقتضى التقوى أن يظل يعمل بأوامر الله تعالى إلى آخر الحدود ولا يفقد الصبر.

فئتان مباركتان في سبيل السلوك

هناك فئتان مباركتان في السلوك والطريقة؛ فئةٌ دينُهم “دينُ العجائز”، فيعملون بالأحكام البيّنة الواضحة، ويلتزمون بأحكام الشرع فينالون النجاة، وفئة أخرى يتقدمون أكثرَ ويمضون قدمًا ولا يسأمون ولا يملّون أبدًا، حتى يصلوا الغاية. أما الفرقة الشقيّة فهم قوم يتقدمون مرحلة “دينَ العجائز”، ولكن لا يكملون رحلة السلوك والطريقة، ومصيرهم الإلحاد حتمًا، حيث يقولون لقد ظللنا نصلي ونقوم بالاعتكافات الأربعينية، ولكنها لم تنفعنا شيئا، كما قال المدعو “منصور مسيح” أن سبب تنصُّره ليس إلا أنه ذهب إلى كثير من المرشدين وظل يقوم بالاعتكافات، ولكن بدون جدوى، فأساء الظن بالاسلام وتنصّرَ.

الصدق والصبر

فالذين يفقدون الصبر يقعون في قبضة الشيطان. فالمتقي يحارب قلة الصبر أيضا. ورد في كتاب “بوستان” أن أحد العابدين كلما قام بالعبادة سمع هاتفا: إنك مردود ومخذول. وذات يوم سمع أحد مريديه صوت الهاتف هذا وقال له: لقد حُسم الأمر الآن، فماذا ينفعك بعد ذلك ضربُ الرأس على الأرض؟ فبكي العابد كثيرا وقال أين أذهب بعد ترك الله تعالى، إذا كنتُ ملعونا عنده فلا ضير، إذ يعتبرني ملعونا على الأقل. وبينما هو يحاور مريده إذ جاءه صوت من الغيب: إنك من المقبولين. فكل هذا كان ثمرة الصدق والصبر اللذينِ لا بد منهما للمتقي.

الاستقامة

أما قول الله تعالى : “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” ( العنكبوت:69)، فيعني أنه لا بد لهم من المجاهدة مع النبي في هذه السبيل. الفرار بعد ساعة أو ساعتين ليس من دأب المجاهد، بل من واجبه أن يكون مستعدا لفداء نفسه كل حين. فعلامة المتقين الاستقامة كما قال الله تعالى : “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا” (فصلت:30)،  أي الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وثَبَّتوا ورغبوا في الله تعالى معرضين عن كل ما سواه. والمراد أن النجاح موقوف على الاستقامة التي تعني معرفةَ الله وعدم الخوف من أي ابتلاء وزلزال وامتحان، والنتيجة الحتمية للاستقامة أن صاحبها يصبح مهبطًا لمكالمة الله ومخاطبته كالأنبياء.

لابد من الابتلاء للولاية

كثير من الناس يأتوننا ويريدون أن يبلغوا بنفخة واحدة إلى العرش ويكونوا من الواصلين بلًله تعالى. ومثل هؤلاء إنما يستهزئون. عليهم أن ينظروا في أحوال الأنبياء. القول بأن مئات الناس صاروا أولياء بمجرد وصولهم إلى صحبة ولي لقولٌ باطل. كيف هذا وإن الله تعالى يعلن: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون ” (العنكبوت:2)  فأَنَّى للإنسان أن يكون وليًّا مِن دون أن يُختبر ويلقى في الفتن؟ كان بايزيد البسطامي -رحمه الله- يَعِظُ الناس ذاتَ يوم، وكان في المجلس شخص منحدر مِن عائلة صوفية قديمة، وكان يكنّ البغض لبايزيد. ومِن سنة الله تعالى أن يتخلى عن العائلات القديمة ويصطفي أحدًا من خارجها، كما ترك الله تعالى بني إسرائيل واختار بني إسماعيل، لأن الأولين نسوا الله تعالى منغمسين في متع الدنيا وملذاتها، “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” (آل عمران:140) فقال هذا في نفسه إن البسطامي ينحدر من عائلة بسيطة، فمن المحال أن تظهر على يده الخوارق حتى ينجذب إليه الناس دوننا، فكشف الله تعالى أفكاره على بايزيد رحمه الله، فأخذ يعِظ على النحو التالي: في إحدى الليالي كان يضيء مجلسًا سراجٌ بزيت مختلط بالماء، فبدأ النقاش بين الزيت والماء، فقال الماء للزيت: أنت كثيف ووسخ، فكيف تطفو عليّ مع كثافتك ووسخك؟ إني شيء مصفى وأُستَعمَل للطهارة ومع ذلك أنا تحتك، فما السبب في ذلك؟ فقال الزيت: متى تعرضتَ للمشاق التي تعرضت لها، والتي بسببها كُتبتْ لي هذه الرفعة. لقد أتى عليَّ زمان بُذرت فيه في الأرض، وظللت فيها مستورًا وذليلا، ثم أنبتَني الله بمشيئته، إلى أن حصدت بعد فترة قليلة، ثم تمتْ تصفيتي بإلقائي في صنوف المشاق، وعُصرت في المعصرة عصرًا، ثم صرت زيتًا وأُحرقت. فكيف لا أنال الرفعة بعد تعرضُّي لذُه المصائب كلها؟

هذا مثال لبيان أن أهل الله ينالون الدرجات بعد مواجهة المصائب والشدائد. يظن الناس خطأً أن فلانًا ذهب إلى فلان وصار من الصِّدّيقين في لمح البصر بدون أدنى مجاهدة وتزكية نفس. انظروا في القرآن الكريم لتعلموا أن الله تعالى لن يرضى عنكم حتى تحلّ بكم المصائب والزلازل كما حلّت بأنبياء الله الذين اضطروا أحيانا ليقولوا ما قالوا؛ إذ ورد “حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ” (البقرة:214). فعباد الله أُلقوا في المحن في أول أمرهم دائما، ثم قبِلهم الله تعالى.

طريقان للرقي

 لقد ذكر الصوفية طريقين للرقي: السلوك، والجذب.

السلوك

أما السلوك فهو أن يختار الناس سبيل الله ورسوله بعد التفكير بعقولهم وذكائهم، كما قال الله تعالى: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” (آل عمران:31)، أي إن كنتم تريدون أن تكونوا من المحبوبين عند الله تعالى فاتّبعوا الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام. إن ذلك الهادي الكامل هو ذلك الرسول الذي قد كابد المصائب والشدائد التي لا نظير لها في العالم، إذ لم يذق طعم الراحة في يوم من الأيام، ولن يُعَدّ مِن أتباعه حقًّا إلا أولئك الذين يبذلون قصارى جهدهم في اتّباعه في كل قوله وفعله. إنما المتّبع الحقيقي مَن يتبع المتبوعَ في كل شيء، أما الذي يتساهل ويتسلل عند الشدائد فلا يحبه الله تعالى، بل يحل عليه غضبه. فما دام الله تعالى قد أمرنا هنا بتًباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمن واجب السالك أن يرى كل تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم أولًا ثم يتّبعه، فهذا ما يسمَّى السلوك. وهذا السبيل يعترضه كثير من المصائب والمحن، ولا يُعَدّ المرء من السالكين إلا بعد تحمُّلها.

الجذب

أما أهل الجذب فهمْ أعظمُ درجة من أهل السلوك. فإن الله تعالى لا يتركهم على درجة السلوك، بل يلقيهم بنفسه في المصاعب ويجذبهم إليه بالجذبات الأزلية. وكل الأنبياء مجذوبون. عندما تتعرض الروح الإنسانية للمصائب تخرج لامعةً نتيجة هذا الاختبار، شأنها شأن الحديد أو المرآة، إذ تكمن فيها صفة اللمعان ولكنها لا تلمع إلا بعد الصقل والَجلْي حتى يرى فيها الرائي وجهه. المجاهدات أيضا تعمل عمل الصقل والجلي. ينبغي صقْل القلب بحيث يُرى فيه الوجه. ما هو المراد من رؤية الوجه؟ إنما المراد منه: “تََخلّقوا بأخلاق الله”. إن قلب السالك مرآة تجليها المصائب بحيث تنعكس فيه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتيسر هذه الدرجة إلا بعد كثير من المجاهدات والتزكية حين لا تبقى في القلب أي نوع من الكدورة واللوثة. كل مؤمن بحاجة إلى هذه التصفية إلى حد ما. لن ينجو أي مؤمن بدون أن يكون كالمرآة. والسالك يجلي هذه المرآة بنفسه، ويتحمل المصائب بيده، أما المجذوب فيُلقَى في المصائب بيد الله، فالله تعالى نفسه يقوم بصقله، فيجليه بإلقائه في صنوف المصائب والمحن حتى يجعله بمن.زلة المرآة. والحق أن السالك والمجذوب نتيجتهما واحدة. باختصار، إن الاتقاء جزءان: السلوك والجذب.

الإيمان بالغيب

وتتطلب التقوى قدرًا من التكلف كما ذكرت آنفا، ولذلك قال الله تعالى: “هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ” (البقرة:2-3)، ففيه نوع من التكلف. إن الإيمان بالغيب يقتضي نوعًا من التكلف خلاف المشاهدة، لذا فالمتقي بحاجة إلى التكلف نوعًا ما، لأنه حين يحوز درجةَ “الصالح” لا يعود له الغيب غيبًا، لأن الصالح تجري من نفسه قناة تصل إلى الله تعالى. إنه يرى الله وحبه بعينه لقول الله تعالى: “مَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ” (الإسراء:72). وهذا يبين أن الإنسان لن يرى وجه الله أبدًا ما لم يحرز النور الكامل في هذه الدنيا نفسها. فواجب المتقي ألا يبرح يُعِدّ أنواع الكُحل الذي يشفي عينه من مرض إعتام العدسة.

لقد تبين من هنا أن المتقي يكون أعمى في أول الأمر، وينال النور ببذل أنواع الجهد والتزكية، فإذا أصبح بصيرا وصالحا لم يعد إيمانه إيمانا بالغيب، وزال عنه التكلف، وذلك كما جعل الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم يرى في هذه الدنيا نفسها الجنةَ والنار وغيَرهما رأيَ العين. فكل ما يصدقه المتقي من خلال إيمانه بالغيب قد شاهده النبُّي صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية إشارة إلى أن المتقي يكون أعمى ومتكلفا، أما الصالح فيكون واصلًا إلى دار الأمان وصارت نفسه مطمئنة. المتقي يكون في حالة الإيمان بالغيب، ويقلّد تقليدا أعمى، فليس عنده خبر ولا علم، وإنما يؤمن بكل شيء إيمانًا بالغيب، وهذا هو الدليل على إخلاصه وصدقه، وقد وعده الله تعالى إزاء صدقه بالفلاح : “وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (البقرة:5).

إقامة الصلاة

ثم بعد ذلك ورد في شأن المتقين: “وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ” (البقرة:3). ولفظ الإقامة هذا أيضا يشير إلى التكلف الذي هو من صفات المتقي، أعني أنه حين يبدأ الصلاة تنتابه صنوف الوساوس التي لا تفتأ تهدم صلاته التي يريد إقامتها. فما إن قال “الله أكبر” حتى هاجَمه فوج من الوساوس التي تشتت عليه تركيزه وخشوعه، فتذهب به كل مذهب. فيصاب بالقلق ويبذل كل ما في وسعه للتركيز والخشوع، ويسعى بمنتهى المشقة لإقامة الصلاة التي قد تهدمت، ويدعو الله تعالى مرة بعد أخرى لإقامة صلاته قائلا: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” (الفاتحة:4)، ويسأله الهداية إلى “الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة:5) الذي يساعده على إقامة صلاته. ويكون المتقي إزاء هذه الوساوس كالطفل الذي يبكي ويتضرع إلى الله تعالى قائلا: رب لقد صرتُ كمَنْ “أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ” (الأعراف:176) فهذه هي الحرب التي يخوضها المتقي في الصلاة ضد نفسه، وبسببها يكتب له الثواب.

ومن الناس من يريد أن يتخلص فورًا من الوساوس في الصلاة، مع أن مشيئة الله في قوله: “يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ” (البقرة:3) هي خلاف ذلك. ألا يعلم الله الواقع؟ يقول حضرة الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه إن الثواب يكون ما دامت المجاهدات، وإذا انتهت المجاهدات سقط الثواب. وهذا يعني أن الصوم والصلاة تُعَدّان أعمالًا ما دام المرء يكافح فيهما الوساوس جاهدا، ولكنه حين يرتقي ويبلغ درجة أعلى ويتصبغ بصبغة الصلاح بدلًا من التكلف، فلا يعود صومه ولا صلاته أعمالًا. وهنا أثار حضرة الجيلاني رحمه الله سؤالًا وقال: فهل يعني ذلك أن المرء يُعفَى من الصوم والصلاة بعدها، إذ كان يثاب عليهما طالما كان يتكلف فيهما؟ والجواب أن صلاته في هذه الحالة لا تعود عملًا، بل تصبح إنعاما وجزاء. إن صلاته تصبح غذاء له، وقرة عين له، وكأنه ينال الجنة نقدًا.

الذين هم في المجاهدات فهم لا يزالون في صراع، أما هذا فقد نال النجاة. وهذا يعني أن انتهاء سلوك المرء يعني انتهاء المصائب أيضا. فمثلًا لو قال أحد الخناثى بأنه لن ينظر إلى امرأة قط، فهل يستحق إنعاما وثوابً؟ كلا، فإنه لا يقدر على النظر إليها بشهوة، ولكن الذي عنده الرجولة لو امتنع عن النظر إلى المرأة فلا بد أن يثاب عليه. كذلك فعلى الإنسان أن يقطع آلاف المراحل والمنازل، وإن كثرة الممارسة والتمرين تجعله قادرا على بعض الأمور، ويُعقَد الصلح بينه وبين نفسه، فيكون بعدها في الجنة، إلا أنه لن ينال الثواب الذي كان يناله من قبل. لقد قام بتجارة ويأخذ الآن أربحًها، ولكن لن يكون الأمر كالسابق. لا يزال المرء يقوم بعمل ما تكلفًا حتى يصير طبعًا فيه، ومَن وجد في عملٍ متعة طبيعية فلا يمكن فصله عنه، إذ من المحال أن ينفصل عنه بطبعه. فالحق أن الانكشاف التام لا يتمّ في مرحلة التقوى والاتقاء، وإنما هو نوع من الدعوى.

الإنفاق من رزق الله

ثم ورد في صفة المتقين: “وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ” (البقرة:3). والملاحظ هنا أن الله تعالى قد ذكر أن المتقي ينفق (مما) رزقه الله، ذلك لأنه يكون أعمى في تلك المرحلة، ولذلك قيل: إنه ينفق في سبيل الله بعض ما رزقه الله تعالى. الحق أنه لو كان بصيرا لأدرك أنْ لا شيء له، بل كل شيء هو لله تعالى. فهذا الحجاب لا بد له منه في مرحلة الاتقاء. في حالة الاتقاء دفعتْه تقواه لإنفاق بعض ما رزقه الله تعالى. سأل النبي صلى الله عليه وسلم في أيام وفاته عائشةَ رضي الله عنها: هل في البيت شيء. قيل: هناك دينار واحد. قال :صلى الله عليه وسلم ليس من شيمة المتّحد مع ربه المتفاني فيه تعالى أن يحتفظ عنده بشيء. كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تجاوز مقام الاتقاء ووصل مقام الصلاح، ولذلك لم يقل الله فيه أنه ينفق “مما”، أي مِن بعض ما عنده، لأن مَن احتفظ ببعض وأنفق بعضا فهو أعمى، وهذا من مواصفات المتقي، لأن عليه أن يحارب نفسه في الإنفاق في سبيل الله أيضا، فيعطي بعضا ويحتفظ ببعض. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفق كل شيء في سبيل الله ولم يحتفظ لنفسه بشيء.

وكما ذكرتُ في مقالي الذي قُرئ في مؤتمر الأديان الأعظم ثلاثَ حالات للنفس التي يمر بها الإنسان منذ البداية حتى النهاية، كذلك فإن القرآن الكريم الذي جاء ليطور الإنسان في كل مراحل الرقي قد بدأ الكلام هنا بالاتقاء. إن الاتقاء سبيله التكلف. إنه مجال محفوف بالأخطار. بيد المتقي سيف، وهناك سيف مسلول إزاءه أيضا، فلو نجا نال النجاة، وإلا رُدَّ أسفلَ السافلين. ومن أجل ذلك لم يصف الله المتقي هنا بأنه ينفق كل ما رزقناه. المتقي لا يملك من القوة الإيمانية ما يملكه النبي لينفق كل ما آتاه الله في سبيله كما فعل هادينا الكامل صلى الله عليه وسلم، ولذلك فُرضت عليه ضريبة قليلة ليتذوق طعم الإنفاق في سبيل الله ويستعدّ للإيثار والتضحية أكثر.

وقول الله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )البقرة(4: لا يراد به الإنفاق من المال فحسب، بل يراد به كل ما أُعطوه. فالعلم والحكمة والطبّ كل ذلك مشمول في الرزق، وعليهم أن ينفقوا منها كلها في سبيل الله تعالى.

المراد من الرزق

وعلى الإنسان أن يرتقي في هذا المجال درجةً فدرجة، ولو أمر القرآن الكريم كالإنجيل أن {مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الَأيَْمنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا} (انجيل مَتَّى 5 :39)، أو: أَنْفِقْ كل ما تملكه في سبيل الله، لُحرم المسلمون من الثواب كالنصارى، لأن العمل بهذا الحكم محال. إن القرآن يطوّر تدريجيا كما تقتضيه الفطرةُ الإنسانية. إن مثل الإنجيل كطفل يُجبَر على قراءة كتاب صعب جدًّا بمجرد  دخوله المدرسة. ولكن الله حكيم، وحكمته تقتضي أن يكتمل التعليم بالتدريج.

تكميل التعليم تدريجيا

ثم بعد ذلك قال الله تعالى في صفة المتقين: “وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ” (البقرة:4) ، أي أن المتقين هم أولئك الذين يؤمنون بالكتب المنزلة من قبل وبالكتاب الذي نزل عليك، ويوقنون بالآخرة. وهذا الأمر أيضا لا يخلو من التكلف حيث يكون إيمان المتقي حتى هذه المرحلة في نوع من الحجاب، وتفتقر عيونه إلى المعرفة والبصيرة، كل ما في الأمر أنه قد آمن بشيء حتى الآن نتيجة تصديه للشيطان بالتقوى. وهذا هو حال جماعتنا الآن، فإنهم قد آمنوا لما عندهم من تقوى، ولكنهم لا يدرون مدى التطور والتقدم المقدَّر لهذه الجماعة بيد الله تعالى. فإنه إيمان سوف ينفع في نهاية المطاف.

علمًا أنه إذا استُعمل اليقين عمومًا فيراد به أدنى درجاته، أعني أن العلم له ثلاث مراتب أدناها علم اليقين، وصاحب التقوى يتبوّأ هذه المرتبة، إلا أنه يبلغ مرتبة عين اليقين وحق اليقين أيضا بعد ترقيه في مراحل التقوى.

التقوى ليست بأمرٍ هيّن. بالتقوى يقاوم المرء كل أولئك الشياطين المسيطرين على كل كفاءة وقوة بداخله. إن كل هذه القوى والكفاءات إنما هي شياطين بداخل الإنسان حين يكون في حالة النفس الأمّارة، وإنْ لم تُعدَّل هذه الكفاءات جعلته عبدًا لها. فالعلم والعقل نفسهما يصبحان شياطين إذا أسيء استخدامهما، ومن واجب المتقي تعديلهما وكذلك تعديل كافة الكفاءات الأخرى.

الدين الحق يربي القوى الانسانية

كذلك فإن الذين يستنكرون الانتقام والغضب والنكاح في كل حال، فهم أيضا يخالفون نواميس الطبيعة، ويحاربون القوى الإنسانية. إنما الدين الحق ما يربي القوى الإنسانية، ولا يستأصلها. إن إلغاء قوة الرجولة أو الغضب التي قد أودعها الله فطرة الإنسان إنما هو حرب على الله تعالى.كذلك فإن ترك الدنيا والرهبانية وما إلى ذلك من أمور إنما هو إتلاف لحقوق العباد. لوكان الأمر كما يظنون لوقع الاعتراض على الله الذي خلق فينا هذه القوى. فمثل هذه التعاليم الإنجيلية التي تستلزم القضاء على القوى الإنسانية تؤدي إلى الضلال في نهاية المطاف. إنما يأمر الله تعالى بتعديلها ولا ينبغي إهدارها كما قال تعالى : “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل:90).  العدل شيء ينبغي أن ينتفع به الجميع. أما تعليم المسيح :عليه السلام {وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا}ِ(إنجيل مَتَّى 18:9) ، فهو أيضا إهدار للقوى، إذ لم ينه عن النظر إلى امرأة أجنبية، بل سمح وقال انظر إليها حتما ولكن لا تنظر إليها بنظرة الزنا والشهوة. فليس في قوله أيُّ نهي عن النظر مطلقا. وما دام المرء سينظر إليها، فيجب أن نرى كيف يكون تأثير ذلك على قواه. لماذا لم يمنع الإنجيل كالقرآن الكريم من النظر إلى أماكن العثار أصلا، بدلًا من أن يأمر بإضاعة عضو عظيم النفع والقدر كالعين للأسف.

الحجاب الاسلامي

في هذه الأيام يُهاجَم الحجاب الإسلامي بشدة، ولكن هؤلاء الناس لا يعرفون أن الحجاب الإسلامي لا يعني السجن، بل هو نوع من الستر لكيلا يرى الرجال والنساء من غير المحارم بعضهم بعضا، لأن وجود الحجاب بينهم يجنبهم العثار. يمكن للعادل أن يقول كيف لا تتعثر العواطف الإنسانية بين قوم يختلط رجالهم ونساؤهم من غير المحارم بحرية ويتلاقون ويخرجون معًا للنزهة دون وازع ورادع؟ نسمع كثيرا بل نرى أيضا أن هذه الأقوام لا ترى عيبًا في مجالسة المرأة والرجل من غير المحارم في غرفة واحدة مغلَق بابها، وكأن ذلك تحضُّرٌ عندهم. ودرءًا لهذه العواقب لم يسمح شارع الإسلام أصلًا بتصرفات تكون مدعاة للعثار لأحد، بل قال عن مثل هذه المناسبات: “لَا يَْخلُوَنَّ رَجُلٌ بِمًْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ”. تأمّلوا في النتائج السيئة التي يقاسيها أهل أوروبا من جراء هذا التعليم الإنجيلي الخليع. يعيشون في بعض الأماكن حياة مخجلة  تماما على غرار المومسات، وليس ذلك إلا نتيجة هذا التعليم. إنكم إن أردتم ألا يخان في شيء فعليكم حفظه وحمايته، أما إذا لم تحفظوه وقلتم إن الناس طيبون، فاعلموا أنه سيدمَّر حتما. ما أطهرَ تعاليمَ الإسلام حيث أنقذ الجنسين من العثار بالفصل بينهما، ولم يجعل حياة المرء مُرّةً لا تطاق، الأمر الذي بسببه تشهد أوروبا كل يوم خصومات عائلية وانتحارات. إن عيش بعض النساء الشريفات بينهم عيشةَ المومسات لوُ نتيجةٌ عَملية لسماح رؤية الرجال النساءَ من غير المحارم.

تعديل القوى الإنسانية واستعمالها الجائز

كل القوى التي أعطانا الله إياها لم يعطنا لنضيّعها، بل إن تعديلها واستعمالها الجائز هو تنميتها وتطويرها، ومن أجل ذلك لم يأمر الإسلام بالقضاء على قوة الرجولية أو قَلْعِ العين، بل حثّنا على استعمالها الجائز وتزكية النفس، كما قال الله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ” (المؤمنون:1)، وكذلك هنا أيضا رسم الله أولًا حياة المتقين ثم ذكر النتيجة وقال: “وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (البقرة:5)، أي أن الذين يسلكون سبل التقوى، ويؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة حين انهيارها، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بالكتب السابقة وكتاب الله هذا بدون تردد وتفكير رغم ما يساور نفوسهم من أفكار، ويصلون أخيرا إلى درجة اليقين، فأولئك هم على الهدى، وسائرون على طريق يؤدي بالإنسان إلى الأمام باستمرار حتى يوصله إلى الفلاح، فأولئك هم المفلحون الذين سيصلون إلى غايتهم والذين قد صاروا في مأمن من أهوال الطريق. ومن أجل ذلك قد أمرنا الله بالتقوى منذ البداية، وأعطانا كتابً فيه الوصايا بالتقوى. فحريٌّ بجماعتنا أن يفحصوا أنفسهم ليروا ما إذا كانوا من أهل التقوى أم لا، ويجب أن يجعلوا هذا الهم أكبَر من همومهم الدنيوية كلها.

عيشوا في تواضع ومسكنة

ومن الشروط التي يجب على أهل التقوى الالتزام بها أن يقضوا حياتهم بتواضع ومسكنة، هذا فرع من التقوى نحارب به الغضب في غير محله. ذلك أن اجتناب الغضب في غير محله هو المرحلة الأخيرة والأصعب لكبار العارفين والصِّدّيقين.

فالعُجب والغرور يتولدان من الغضب، وبالمثل، فإنّ الغضب في بعض الأحيان يكون نتيجة للزهو والغرور، إذ ينشأ الغضب فقط عندما يظن المرء أنه أفضل من غيره. إنني لا أرضى بأن يعدّ بعض أفراد هذه الجماعة أنفسهم أفضل مِن سواهم، أو أن يفاخر أو يزدري بعضُهم بعضًا. الله أعلم بمن هو أعظم ومن هو أصغر. إن هذه النزعة نوع من التحقير الذي يتضمن الازدراء، وأخشى أن ينمو هذا الازدراء نماء البذرة ويُهلِك صاحبَه. إن بعض الناس يلتقون كبار القوم بفائق الاحترام، ولكن الكبير مَن يستمع إلى المسكين بمسكنة وتواضع، ويواسيه ويقيم لحديثه وزنا، ولا ينطق بما يستفزّه ويؤلمه. يقول الله تعالى: “وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الحجرات:11). فلا ينادِ بعضكم بعضا بما يستفزه، فإن هذا دأب الفسّاق والفجّار. إن الذي يستفزّ غيره لن يموت حتى يتعرض لمثله. فلا تحتقروا إخوانكم، فما دمتم جميعا تنهلون من نبع واحد، فما يدريكم أيّكم أكثرُ حظًّا من هذا الشراب. لا يكون أحد مكرما ولا معظما بحسب القواعد الدنيوية، إنما كبيركم عند الله التقيُّ: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات:13).

التمييز العشائري والقبلي

إن هذه العشائر والقبائل المختلفة ليست سبب شرف وكرامة. إنما جعلها الله للتعارف فقط. ثم فمن الصعب في هذه الأيام معرفة النسب الحقيقي بعد بضعة أجيال. لا يليق بالإنسان التقي أن يخوض في النقاش المبني على القبلية والعشائرية. فما دام الله قد حكم بأن القبيلة والعشيرة ليست ذات قيمة عندي، فليست المكرمة والعظمة الحقيقية إلا بالتقوى.

من هو المتقي؟

نجد في كلام الله تعالى أن المتقين هم أولئك الذين يمشون بحلم ومسكنة، ولا يتكلمون بكلام ينمّ عن الزهو والغرور، بل يكون حديثهم كحديث الصغير مع الكبير. علينا أن نعمل في كل حال ما فيه فلاحنا. إن الله تعالى ليس حكرًا على أحد، وإنما يريد التقوى خاصة، فمن اتقى بلغ الدرجة العليا. لم يرث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام العزة من أحد. لا شك أننا نؤمن أن عبد الله والدَ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا، إلا أنه لم يورثه النبوة، وإنما تشرّف بها بفضل من الله تعالى. إن أنواع الصدق الذي كان في فطرته هو الذي كان وراء نزول هذا الفضل عليه. وإن صدق وتقوى إبراهيم عليه السلام، أبي الأنبياء، هو ما جعله لا يتردد في ذبح ابنه، ثم هو نفسه أُلقي في النار. انظروا إلى صدق ووفاء سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تعرّضَ لأنواع الهجمات الشريرة، وكابد صنوف المصائب والآلام، ولكنه لم يكترث لها بتاتا، وبسبب هذا الصدق والوفاء أنزل الله عليه فضله، ومن أجل ذلك قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” (الأحزاب:56).

تتضح من هذه الآية أن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغت من العظمة بحيث لم يستخدم الله للإشادة بها وتحديد وصفها كلمة معينة. لا شك أنه كان بالإمكان استخدام كلمات لائقة بها، ولكن الله لم يستخدمها قصدًا، ذلك لأن أعماله الصالحة فاقت الوصف. ولم يستخدم الله تعالى مثل هذه الآية بحق أي نبي آخر. كانت روحه صلى الله عليه وسلم متحلية بالصدق والوفاء، وكانت أعماله مرضية عند الله تعالى بحيث أمَر الناسَ بالصلاة عليه للأبد شكرًا على هذه النعمة. لقد بلغ من الهمة والصدق بحيث لا نجد له نظيرا ولو أجلْنا النظر في كل طرف وصوب. انظروا إلى المسيح عليه السلام مثلا لتعرفوا مدى تأثير همته أو روحانية صدقه ووفائه في أتباعه. يعرف الجميع كم هو صعب إصلاح إنسان سيئ السلوك، وكيف يبدو تطهير المرء من عاداته الراسخة أمرًا شبهَ مستحيل، ولكن نبينا المقدس صلى الله عليه وسلم قد قام بإصلاح آلاف الناس الذين كانوا أسوأ من الوحوش. كان بعضهم لا يفرقون كالبهائم بين الزوجات والأمهات والبنات، وكانوا يأكلون أموال اليتامى وأموال الأموات. وكان بعضهم عَبَدة النجوم، وبعضهم ملحدين، وبعضهم كانوا يعبدون أشياء أخرى. ماذا كانت حالة الجزيرة العربية؟ كانت مجموعة أديان شتى.

القرآن هديٌ كامل

وكان أكبر منافع هذا الوضع أن القرآن الكريم جاء حاويًا كل نوع من الهدى. ففيه تعاليم كافية للقضاء على كل عقيدة باطلة وتعليم سيئ يمكن أن يوجد في العالم. فهذه حكمة إلهية عميقة وتصرف ربَّاني عظيم. فلأن الكتاب الكامل كان عليه أن ينزل ويقوم بإصلاح كامل، فكان لزاما أن يوجد عند نزوله وفي مهد نزوله الأمراض بكل أنواعها وأشكالها، ليتيسر لكل مرض وسقم علاجٌ كامل. ومن أجل ذلك وُجد في هذه الجزيرة مرضى بكل تلك الأسقام الروحانية التي كانت متفشية في ذلك العصر أو كانت ستصيب الأجيال في المستقبل، ومن أجل ذلك أكمل القرآن الكريم الشريعة من كل النواحي. أما الكتب الأخرى فلم تمسّ الحاجة إلى ذلك في زمن نزولها، كما لم تحتوِ تلك الصحف على مثل هذا الهدي الكامل.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة

لو تركنا جانبًا كل ما ظهر على يد نبينا الأكمل صلى الله عليه وسلم من بركات وخوارق، فإن الإصلاح الذي قام به هو وحده يشكّل معجزة عظيمة. لو فكر المرء في الأوضاع التي بُعث فيها، ثم نظر في الأوضاع التي خلّفها، لما وسعه إلا الاعتراف بأن هذا إعجاز في حد ذاته. لا شك أن الأنبياء كلهم أهل للتكريم والتعظيم إلا أن “ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ” (الجمعة:4)

لو لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بأيدينا برهان على وجود البارئ، ناهيك على النبوة. لقد علِمنا بتعليمه :صلى الله عليه وسلم ” قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)”  (سورة الاخلاص). لو كان في التوراة تعليم كهذا، ولو اكتفى القرآن بلًإشارة إليه فقط، لما وُجد مسيحيون في الدنيا.

في القرآن المجيد كل الحقائق

فالقرآن الكريم قد أرشد إلى سبل التقوى كلها، وعلّم الطرق لتربية الناس كلهم على تبايُن طبائعهم واختلاف مستوى عقولهم، حيث هدى إلى الطرق التي تساعد على تربية الجاهل والعالم والفيلسوف، وأجاب على أسئلة كل شريةُ من البشر. باختصار، لم يترك القرآن فئة ولا فرقة إلا وبيّن سبل إصلاحها، كما قال الله تعالى: “فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ” (البينة:3)، أي أنها صحف تحوي الحقائق كلها. فكم هو مبارك هذا الكتاب إذ تتوفر فيه جميع الأسباب الموصلة إلى الدرجات العلى.

المسيح والمهدي

ولكن المؤسف أنه قد تحقَّق ما ورد في الحديث بأنه سيأتي في الوسط زمن الفيج الأعوج، أعني أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان قد تنبأ أن عصره عصر مبارك، ثم عصر المسيح المهدي القادم. علمًا أن المسيح والمهدي ليسا شخصين، بل يراد بهما شخص واحد. والمراد من المهدي من نال الهدى. وليس بوسع إنسان أن يقول أن المسيح ليس بمهدي. بغض النظر عما إذا كان المهدي مسيحا أم لا، إلا أنه ليس بوسع مسلم أن ينكر أن المسيح يكون مهديا. الواقع أن الله تعالى قد اختار هذين اللقبين ذبًًّ للسبّ والشتم عنه، وليبين للناس أنه ليس بكافر ولا ضال ولا مضل، بل هو مهدي. فلأن الله تعالى كان يعلم أن المسيح والمهدي الآتي سيدعى دجالًا وضالا، فسمّاه مسيحا ومهديا. الدجال صفته “أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ” (الأعراف:176)، وأما المسيح فكان مقدرًا له أن يُرفَع إلى السماء.

فكان المقدر أن تكتمل مشيئة الله في عصرين، أحدهما عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر العصر الأخير؛ عصر المسيح والمهدي. أعني في العصر الأول نزل القرآن والهدي الحق، ولكن في عصر الفيج الأعوج جُعل على هذا الهدي غطاء، وكان كشف الغطاء عنه مقدرا في زمن المسيح الموعود، حيث صرح الله تعالى في القرآن بأن هذا الرسول قد زكّى هذه الجماعة، أي الصحابة الكرام، كما قد زكّى جماعةً قادمةً فيما بعد صِفتها: “لَمَّا يَلْحَقُوا بِِهمْ” (الجمعة:3) والواضح أن الله تعالى قد بشّر أنه لن يدَعَ هذا الدين يضيع في عصر الضلال، بل سوف يكشف حقائق القرآن في الزمن الآتي أيضا. فقد ورد في الآثار أن من فضائل المسيح الآتي أنه سيؤتى فهم القرآن الكريم ومعارفه، وسوف يستنبط من القرآن وحده لينبّه الناس إلى أخطاء تسربت إليهم لجهلهم بحقائق القرآن.

المماثلة بين الأمتين : الموسوية والمحمدية

لقد عدَّ الله تعالى في القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثيلًا لموسى عليه السلام، فقال: “إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا” (المزمل:15)، أي أن رسولنا هذا مثيل لموسى، وقال تعالى في آية أخرى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ” (النور:55)، أي أن خلفاء هذا الذي هو مثيل لموسى سيأتون من أمته هو، كما جاء خلفاء موسى من أمته هو واحدًا تلو الآخر، وكانت مدة تلك الأمة أربعة عشر قرنا تعاقَب فيها الخلفاء. وكانت هذه نبوءة من عند الله تعالى أن بداية هذه الأمة ستكون كما كانت بداية الأمة الأولى، بمعنى أنه كما أرى موسى الآيات الجلالية في بداية أمر تلك الأمة وأنقذها من فرعون، كذلك سيفعل النبي القادم؛ قال الله تعالى: “فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُْم يَوْمًا يَْجعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا” (المزمل:17-18)، أي كما كانت الأوضاع في زمن موسى، كذلك كان العرب الكفار عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا متغطرسين كفرعون، فلم يرتدعوا كفرعون حتى رأوا الآية الجلالية.كانت أعمال النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة لأعمال موسى عليه السلام. إن أعمال موسى لم تكلل بالنجاح الكامل، أما القرآن الكريم فقد جعل القوم يقتنعون. لا شك أن بني إسرائيل نجوا من فرعون في زمن موسى، ولكنهم لم ينجوا من المعاصي، فقد جادلوا وزاغت قلوبهم، حتى هاجموا موسى، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فنجّى قومه نجاة كاملة. فلولا أن نبينا صلى الله عليه وسلم حقق للإسلام القوةَ والشوكة والُحكم لظل المسلمون مظلومين مقهورين، ولم ينجوا من أيدي الكفار، ولكن الله تعالى كتب لهم نوعين من النجاة أولهما أقام لهم سلطنة إسلامية مستقلة، وثانيتها نّجاهم من الذنوب نجاة كاملة. لقد رسم الله تعالى حالة العرب في أول الأمر وما صاروا عليه فيما بعد، ولو جمعنا بين هذين الرسمين لعرفنا حالته الأولى المزرية. إذن قد آتاهم الله النجاة بنوعيها: النجاة من الشيطان والنجاة من الطاغوت.

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

لن يوجد في العالم نظير للصدق والصفاء اللذينِ تحلى بهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، إذ لم يترددوا في نذر أرواحهم أيضا. أما عيسى عليه السلام فلم تكن مهمته صعبة ولم يكن في قومه من ينكر الإلهام والوحي. فأي مشكلة في نصح أفراد من العشيرة. كان اليهود يقرأون التوراة، وكانوا مؤمنين بها، ويؤمنون بالله وحده لا شريك له. يتساءل المرء أحيانا ما هي المهمة التي جاء المسيح عليه السلام من أجلها؟ فإن اليهود يكنّون الغيرة من أجل التوراة حتى اليوم. غاية ما يمكن أن يقال هو أنهم ربما كانوا مصابين بضعف خُلقي، ولكنّ التعاليم كانت موجودة في التوراة، وكان القوم مؤمنين بالتوراة، وكان المسيح عليه السلام قد قرأ هذا الكتاب على يد معلِّم درسًا درسا. أما سيدنا ومولانا وهادينا الكامل صلى الله عليه وسلم فكان أمّيًّا محضا، ولم يكن له أي معلّم، الأمر الذي لا يسع المعارضين إنكاره. فكان عمل المسيح سهلًا من ناحيتين: فأولًا كان القوم قبيلته، وثانيا كانوا مؤمنين به سلفًا بأكبر ما كان عليه أن يُقنعهم به. نعم،كان لديهم ضعف خُلقي إلى حد ما، ومع سهولة المهمة إلى هذه الدرجة لم يقدر على إصلاح حوارييه أيضا، إذ ظلوا طامعين جشعين. كان عيسى عليه السلام يحتفظ بالمال معه، وكان بعض حوارييه يسرقونه أيضا، حتى قال :عليه السلام ليس عندي مكان أسند إليه رأسي. إننا نستغرب من قول المسيح هذا، فماذا كان يقصد منه يا ترى وعنده بيت ومال كثير حتى يُسرَق منه بدون أن ينتبه له. كانت هذه جملة معترضة، وما أود قوله هو أن المسيح عليه السلام لم يقدر على أي إصلاح يُذكَر رغم توافر كل هذه الإمكانيات. فبطرس هذا قد وُعد بمفاتيح الجنة، ومع ذلك لم يرتدع عن أن يلعن معلِّمَه!

وعلى النقيض، فلينظر القارئ بعدل إلى التضحيات التي قدّمها صحابة هادينا الأكمل صلى الله عليه وسلم في سبيل الله ورسوله. لقد أُخرجوا من ديارهم، واضطُهدوا بصنوف المصائب والمحن وقُتلوا، ومع ذلك لم يبرحوا يمضون قدمًا بصدق وصفاء. فما الذي جعلهم يفدون بأرواحهم هكذا؟ إنما سبب ذلك أن لمعان فورة حبّ الله الصادق كان قد وقع على قلوبهم. ولذلك لو قارنتم النبي صلى الله عليه وسلم بأي نبي، فلن تجدوا له مثيلًا من حيث التعاليمُ، وتزكيةُ النفس، وتكريهُ أتباعِه الدنيا وحطامَها، وجعلِهم ينذرون نفوسهم في سبيل الحق بشجاعة. هذه هي مكانة أصحاب الرسول .صلى الله عليه وسلم أما المحبة والألفة المتبادلة بينهم فقد رسمها الله تعالى في كلمتين إذ قال: “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ” (الأنفال:63)، أي: لولا أن الله ألّف بين قلوبهم لاستحال عليك تأليفها ولو بإنفاق جبلٍ من ذهب.

والآن هناك جماعة أخرى، وهي جماعة المسيح الموعود، والتي عليها أن تتصبغ بصبغة الصحابة. كان الصحابة قومًا أطهارًا والقرآن الكريم حافل بالثناء عليهم، فهل أنتم مثلهم؟ يخبر الله تعالى أنه سيكون مع المسيح الموعود قوم يكونون أمثال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. لقد ضحى الصحابة بأموالهم وأوطانهم في سبيل الله تعالى، وتخلوا عن كل غال ونفيس. لا شك أنكم سمعتم كثي القصة الشهيرة لسيدنا الصديق الأكبر رضي الله عنه؛ ذات مرةٍ أُمر الناس بالإنفاق في سبيل الله، فجاء رضي الله عنه بكل ما في بيته، ولما سأله النبي :صلى الله عليه وسلم ماذا تركت في البيت، أجاب: الله ورسولَه. لقد كان من رؤساء مكة، ومع ذلك اكتفى من اللباس برداء من الصوف كالفقراء. وكأن هؤلاء القوم قد تفانوا واستُشهدوا في سبيل الله. لقد قيل لهم: إن الجنة تحت ظلال السيوف، أما نحن فلم نعامَل بهذه الشدة، إذ ورد فينا: “يضع الحرب”، أي لن تكون الحروب في زمن المهدي.

حقيقة الجهاد

يفعل الله تعالى في وقت معين أمراً معيّناً لبعض المصالح والِحكم، ثم لا يفعله حين يصبح ذلك الأمر مثار الاعتراض. فلم يرفع نبيُّنا صلى الله عليه وسلم السيفَ في أول الأمر، وتعرض لأشد أنواع العنف والأذى. إن 13 عاما مدّةٌ يصبح فيها الطفل بلًغًا. حتى ولو طرحنا من هذه المدة 10 سنوات لكانت أيضا مثل فترة معاناة المسيح عليه السلام. تعرض نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة الطويلة لكل نوع من الأذى، وفي نهاية المطاف حين خرج من وطنه مهاجرا قام الأعداء بمطاردته، ولما أوى صلى الله عليه وسلم إلى بلد آخر لم يتركوه أيضا. فلما بلغ السيل الزُّبى نزل الأمر بإنقاذ المظلومين من أيدي الظالمين، فقال الله تعالى: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ” (الحج:39-40)، أي لقد أذن الله بالقتال للذين فُرضت عليهم الحرب بغير حق وأُخرجوا من بيوتهم ظلمًا لمجرد قولهم: ربنا الله. فهذه هي الحاجة التي ألجأت النبي صلى الله عليه وسلم لرفع السيف وإلا فما كان ليرفعه أبدا. أما عصرنا هذا فقد رُفع فيه القلم ضدنا، وأوذينا بالقلم إيذاء شديدا، ولذلك فالسلاح الذي حملناه ضد العدو هو القلم.

نصيحة للجماعة

لقد قلت مرارًا وتكرارًا إن المرء كلما كان أكثر قربًا من الله تعالى كان أكثرَ عرضة للمؤاخذة. كان أهل البيت أكثرَ عرضة للمؤاخذة. القوم الذين هم بعيدون عنا هم ليسوا عرضة للمؤاخذة، ولكنكم عرضة للمؤاخذة حتما. إذا لم يكن لكم من فضل عليهم من حيث الإيمان، فما الفرق بينكم وبينهم؟ إن آلاف الناس يراقبونكم. إنهم يراقبون حركاتكم وسكناتكم كجواسيس الحكومات، وهم محقّون فيما يفعلون. فما دام أتباع المسيح الموعود يُعَدّون اليوم بمنزلة الصحابة، فيجب أن يكون عيانًا للقوم ما إذا كان هؤلاء يسيرون سيرة الصحابة أم لا؟ فإن لم تكونوا مثل الصحابة فإنكم تحت طائلة المؤاخذة. لا شك أن حالتكم هذه حالة بدائية، ولكن أي ضمان للموت. إن الموت يهدد كل إنسان، فلماذا أنتم إذن غافلون؟ إن الذي لا تربطني به أيةُ أواصر أمرُه مختلف، أما أنتم فقد جئتموني، وصدّقتموني، وآمنتم بي مسيحا موعودا، فكأنكم قد ادعيتم أنكم بمنزلة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فأخبِروني الآن هل تردّدَ الصحابة في الصدق والوفاء مرةً؟ هل كان فيهم أي نوع من الكسل؟ هل كانوا يجرّحون مشاعر الآخرين؟ هل كانوا عصبيين يفقدون السيطرة على أنفسهم؟ هل كانوا غير متواضعين؟ كلا، بل كانوا متواضعين إلى أقصى الحدود. فادعوا الله تعالى أن يهبكم التوفيق مثلهم، إذ ليس بمقدور أحد أن يعيش عيشة التذلل والتواضع بدون معونة الله. فافحصوا أنفسكم، فإذا وجدتم أنفسكم ضعفاء كالطفل فلا تقلقوا، بل داوِموا كالصحابة على ترديد دعاء “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة:6)

فاستيقِظوا في جوف الليالي، وادعوا الله تعالى أن يهديكم صراطه. لقد تربّى صحابةُ النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بالتدريج. ماذا كانوا في أول أمرهم؟ كانوا كبذرة يبذرها الفلاح، فسقى النبي صلى الله عليه وسلم هذه البذرة، ودعا لهم كانت البذرة جيدة والأرض خصبة، فجاءت الثمار طيبة نتيجة رَيِّه لها. كانوا يتبعون خطوات النبي صلى الله عليه وسلم تماما، ولم يبالوا بأن الوقت ليل أم نهار. فتوبوا بصدق القلب، واستيقظوا لصلاة التهجد وادعوا، وأصلحوا قلوبكم، وتخلَّصوا من أنواع الضعف والتقصير، واجعلوا قولكم وفعلكم تابعًا لرضوان الله تعالى. واعلموا يقينا أن الذي سيعمل بنصحي هذا دوما، ويدعو الله فعلا، ويتوسل إليه حقا، سوف يتفضل الله عليه، ويبدل قلبه تبديلا. فلا تيأسوا من روح الله.

أي: لا شيء عسيٌر على الكرام.

يقول البعض: هل علينا أن نكون أولياء الله؟ من المؤسف أن مثل هؤلاء ما قدروا الله حق قدره. نعمْ، يجب على الإنسان أن يكون وليا لله تعالى. لو سلك المرء الصراط المستقيم فإن الله تعالى أيضا سوف يأتي إليه، فيلتقيان. حتى وإن كانت حركة الإنسان إلى الله تعالى بطيئة، فإنه تعالى يأتيه بسرعة فائقة، وإليه يشير قولُ الله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت:69)

فاحفظوا كل ما أوصيتكم به اليوم، فإن هذه الأمور مدار النجاة. لتكنْ معاملاتكم مع الله ومع الَخلق لابتغاء مرضاة الله كليةً، لأن هذا سيجعلكم مصداقا لقول الله تعالى:”َآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ” (الجمعة:3).

بعثة المسيح في الأمتين الإسرائيلية والإسماعيلية

وكما قلت آنفًا، لقد شاءت حكمة الله البالغة أن يقيم في العالم سلسلتين: الإسرائيلية والإسماعيلية. بدأت السلسلة الأولى من موسى وانتهت بعيسى عليهما السلام بعد استمرارها 14 قرنا.كذلك هناك إشارة إلى مجيء مسيح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة عشر قرنا التي اكتملت اليوم. ورقمُ 14 بلًغ الأهمية، فالإنسان مثلًا يصل سن البلوغ بعد 14 عاما. لقد أُنبِئَ موسى عليه السلام أن المسيح سيظهر حين يفترق اليهود فِرقًا كثيرة، ويختلفون في عقائدهم اختلافا شديدا، فبعضهم سينكر وجود الملائكة، وبعضهم سينكر القيامة وحشر الأجساد، فعندما يكثر فيهم سوء العمل والاعتقاد أشكالا وألوانا، سيُبعث المسيح حَكَمًا بينهم. كذلك أخبَرنا هادينا الكامل صلى الله عليه وسلم وقال إنكم ستفترقون فرقًا كثيرة كاليهود، وتبدأون مثلهم في سوء العمل والاعتقاد أنواعًا وأشكالا، ويكفّر علماؤكم بعضهم بعضا كاليهود، وعندها سيأتي مسيح هذه الأمة المرحومة حَكَمًا فيكم، فيفصل كل أمر بناء على القرآن الكريم، وأنه سيتعرض للأذى والتكفير بأيدي القوم كما أوذيَ وكُفّر المسيح عليه السلام. فإذا كان هؤلاء المعارضون قد سّموا هذا الشخص لغبائهم دجالا وكافرا، فإن هذا كان قدرًا مقدورا، إذ ورد في الحديث الشريف أن المسيح الآتي سيُسمّى كافرا ودجّالًا. أما أنتم يا أتباعي فإن العقيدة التي تُعلَّمونها فهي واضحة وجلية تماما، وليست بدون دليل، بل هي مدعمة ببرهان قاطع.

وفاة المسيح عليه السلام

إن أول الخصومات هي قضية وفاة المسيح عليه السلام، وهناك آيات بينة عليها، كقول الله تعالى : “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” (آل عمران:55)، وقوله تعالى: “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ” (المائدة:117). ومِن الأعذار الواهية الباطلة أن “التوفي” هنا لا يعني الإماتة، فإن ابن عباس رضي الله عنه، بل إن هادينا الكامل صلى الله عليه وسلم نفسه قد فسّر التوفي بمعنى الإماتة. ثم إن هؤلاء أنفسهم كلما استخدموا لفظ التوفي أرادوا به دومًا الإماتة وقبض الروح. والقرآن الكريم أيضا قد ذكر هذا المعنى للتوفي في كل مكان، لذا لم يجد هؤلاء في القرآن أي دليل لصالحهم. فما دامت وفاة المسيح الناصري عليه السلام ثابتة، فلا بد أن يكون المسيح الآتي واحدًا من هذه الأمة كما صرّح بذلك الحديثُ الشريف: “وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ”. (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى)

ومِن حسن حظ فرقة الطبيعيين من المسلمين أنهم نجوا من هذا الابتلاء إذ كانوا يؤمنون بوفاة المسيح سلفًا.

أما قضية مجيء المسيح الموعود فقد تواترَ ذكرها بحيث يستحيل إنكارها. كما أن الدلالات القرآنية شاهدة على مجيء الموعود القادم، لذا فلا يسع العاقلَ إنكارُ مجيء المسيح الموعود.

خصوصية المسيح بهذا العصر

نعم، يحق لهم أن يقولوا: ما هي خصوصية المسيح بهذا العصر؟ والجواب أن القرآن الكريم قد أشار بوضوح إلى وجود مماثلة بين خلافة السلسلتين الإسرائيلية والإسماعيلية كما هو واضح من هذه الآية: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ” (النور:55). وآخرُ خلفاء السلسلة الإسرائيلية الذي جاء بعد موسى بأربعة عشر قرنا هو المسيح الناصري عليهما السلام، فكان لزامًا أن يظهر مسيح هذه الأمة أيضا على رأس القرن الرابع عشر. هذا، وإن أصحاب الكشوف من صلحاء الأمة قد حددوا هذا القرن لبعثة المسيح الموعود، فمثلا إن حضرة الشاه ولي الله وغيره من أهل الحديث متفقون على أن كل العلامات الصغرى ومعظم العلامات الكبرى قد تحققت إلى حد ما. غير أنهم مخطئون في هذا القول، إذ قد تحققت العلامات كلها. فإن أكبر علامة أو آية لهذا الموعود مذكورة في البخاري كالآتي: “يَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الِْخنْزِيرَ… إلخ” (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى)، أي أن غلبة النصارى وعبادة الصليب تكون في قمّتها في زمن ظهور المسيح الموعود. أفليس هذا هو ذلك الزمن؟ هل يوجد منذ آدم إلى هذا اليوم نظير للضرر الذي حل بالإسلام بأيدي القساوسة؟ لقد حلت الفوضى في كل بلد، وما من عائلة مسلمة إلا ووقع شخص أو أكثر منها فريسة في أيدي هؤلاء القوم. إن أوان هذا الموعود إنما هو أوان غلبة عبادة الصليب، وما أدلَّ على غلبة الصليب مِن أن أهله قد هجموا كالسباع على الإسلام حاقدين هجمة تلو هجمة. فهل هناك فئة من معارضي الإسلام لم تذكر رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بكلمات بذيئة وبسباب قذر للغاية؟ فإذا لم يكن هذا هو وقت هذا الموعود فلن يأتي إلا بعد قرن من الزمان لو افترضنا مجيئه عاجلًا، فهو مجدد هذا العصر، وزمنُ بعثته هو رأس القرن، فهل تظنون أن الإسلام لا يزال به في الوقت الراهن من القدرة والقوة ما يجعله صامدا لقرن من الزمان أمام غلبة القساوسة التي تشتدّ باضطراد؟ لقد بلغت غلبتهم المنتهى، والآتي قد أتى. نعم، إنه سيقتل الدجال بإقامة الحجة عليه، إذ سبق القول في الحديث الشريف أن هلاك كل الملل -وليس هلاك الناس أو هلاك أهل الملل- مقدَّرٌ على يده، وقد تحقق كما قيل.

الآيات الآفاقية لتأييد المسيح الموعود

ومن آيات هذا الموعود وقوعُ الكسوف والخسوف في شهر رمضان في ذلك الزمان. والذي يستهزئ بآية الله إنما يستهزئ بلًله تعالى. وإن وقوع ا لكسوفوالخسوف بعد إعلان هذا الموعود دعواه لأمرٌ بعيدٌ عن الافتراء والاختلاق. والكسوف والخسوف على هذا النحو لم يقع من قبل قط. إنها آية أراد الله تعالى بها أن ينادي في العالَم كله بظهور هذا الموعود. فالعرب أيضا لما رأوا هذه الآية صدقوا بها حسب أسلوبهم ومذاقهم. لقد صار هذا الكسوف مناديًا عن ظهور هذا الموعود في كل مكان تعسّرَ وصول إعلاناتنا إليه. لقد كانت آية ربَّانية، وكانت أسمى من تخطيط البشر تماما. على كل إنسان، مهما كان فيلسوفا، أن يفكر في الأمر ويرى أنه ما دامت الآية الموعودة قد ظهرت، أفليس لزامًا أن يكون مصداقها أيضا موجودا في مكان ما في العالم. لم يكن هذا الأمر ليقع بحسب تقدير شخص وتخمينه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه سيقع حين يكون مدعي المهدوية قد ظهر. وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضا أنه لم يقع حادث كهذا منذ آدم إلى ذلك المهدي. ولو أثبت أحد الآن من التاريخ أن هذا قد وقع من قبل فسوف نصدق قوله.

ومن تلك العلامات طلوعُ المذنَّب المسمّى “ذو السنين”، أي نجمُ السنين الماضية، بمعنى أنه ذلك النجم الذي طلع في أيام المسيح الناصري عليه السلام. فها قد طلع أيضا الآن النجم الذي كان قد دلّ على ظهور مسيح اليهود دلالة سماوية.

كذلك نقرأ في القرآن الكريم: “وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ” (التكوير:4-10)، أي ستتعطل في ذلك العصر النياق التي كانت أفضل وسائل الركوب والنقل والمواصلات في الأيام الغابرة، بمعنى أنه ستُخترع عندها مطايا أفضل من النياق بحيث تصبح هذه عاطلة. والمراد منه زمن اختراع القطار. أما الذين يظنون أن هذه الآيات تتعلق بالقيامة فإنهم لا يفكرون كيف تبقى النوق حوامل يوم القيامة، لأن العشار هي النوقُ الحوامل.

ثم ورد أن القنوات سوف تُفجَّر في كل طرف وصوب في ذلك العصر، وأن الكتب تشاع بكثرة. فكل هذه العلامات تتعلق بهذا العصر.

مكان ظهور المسيح الموعود

أما مكان ظهور المسيح الموعود فاعلموا أنه قد ورد أن خروج الدجال يكون في الشرق، والمراد منه بلادنا، فقد قال صاحب كتاب “حِجَج الكرامة” إن فتن الدجال ستظهر في الهند؛ وعليه فتبين أن المسيح أيضا سيظهر حيث يكون الدجال.

ثم ورد أن قرية ذلك الموعود تُسمّى “قدعة”، وهي اختزال لقاديان. قد يكون في اليمن قرية بهذا الاسم، ولكن يجب ألا يغيبّن عن البال أن اليمن يقع في جنوب الحجاز لا في شرقها. ثم هناك قرية أخرى في ولايتنا البنجاب باسم قاديان وتقع قريبا من مدينة “لدهيانه.”

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاسم الذي أطلقه عليّ قضاءُ الله وقدره ينطوي على إشارة لطيفة إلى هذا الأمر، ذلك أن القيمة العددية لألفاظ “غلام أحمد قادياني” وفقًا لحساب الجمّل هي 1300 بالضبط، وفيه إشارة إلى أن إمامًا بهذا الاسم سيبعث في بداية القرن الرابع عشر. باختصار قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر نفسه.

الكوارث السماوية والأرضية

ومن هذه العلامات الكوارثُ . لقد نزلت الكوارث السماوية على شاكلة القحط والطاعون والكوليرا في هذا العصر. إن الطاعون عذاب خطير بحيث قد أصاب الدولةَ أيضا بزلزال، ولو اشتدت وطأته فإنه يكتسح البلاد كلها. أما الكوارث الأرضية فهي الحروب والزلازل التي دمرت البلاد.

ولزام على هذا المأمور الربَّاني أن يُري الآيات السماوية دليلا على صدقه. ألا تكفي آيةُ هلاك ليكهرام الهندوسي دليلا على صدقي؟كان هناك شرط طال بسببه هذا الصراع خمس سنوات، ودار الخصام كالقتال بين الطرفين بدون انقطاع، ونشر الفريقان الإعلانات في هذه الفترة، وذاع الخبر على نطاق واسع بما يستحيل نظيره، ثم حلّ القدر كما تنبأتُ . فهل هناك نظير لهذا الحادث؟

ثم قبل انعقاد مؤتمر الأديان الأعظم بأيام عديدة كنت تنبأت أن الله تعالى قد أخبرني أن محاضرتي ستكون هي الغالبة على سائر المحاضرات. يمكن لمن حضروا هذا المؤتمر العظيم المليء بالهيبة أن يتدبروا ويعرفوا ما إذا كان التنبؤ عن غلبتي في هذا المؤتمر حتى قبل انعقاده تخمينا وحدسا؟ لكن قد وقع ما قلتُ . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

(المصدر: تقرير الجلسة السنوية عام 1897م، ترجمة ص33-61 )

هذا الموقع هو موقع علمي لا يتبع الجماعة الإسلامية الأحمدية التي تسمىى الطائفة القاديانية ولا يتبع أي فرقه من الفرق المنتسبه للإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني

 MirzaGhulamAhmed.net © 2025. All Rights Reserved.

 MirzaGhulamAhmed.net © 2025.

All Rights Reserved.

E-mail
Password
Confirm Password