قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني في كتاب إزالة الأوهام:
(1) الآية الأولى : “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (آل عمران:55).
(2) الآية الثانية الدالة على موت المسيح ابن مريم عليه السلام هي: “بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ” (النساء:158).
أيْ لم يمت المسيح ابن مريم مقتولا ولا مصلوبا، فلم يمت ميتة المردودين والملعونين كما يظن اليهود والنصارى، بل رفعه الله إليه بالعزة.
فليكن معلوما أن المراد من الرفع هنا هو الموت بالعزة والإكرام، وذلك كما تدل الآية: “وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا” (مريم:57). التي وردت بحق النبي إدريس عليه السلام، ولا شك أنه ليس معناها إلا: إننا رفعنا إدريس بعد إماتته إلى مكان أعلى، لأنه لو صعد إلى السماء بغير الموت، فلا بد من الإقرار أنه سيموت في حين من الأحيان؛ إما في السماء، أو يُعاد إلى الأرض ويموت فيها – لأن الموت أمرٌ لا مناص منه للإنسان – ولكن كلًّا من هذين الاحتمالين محال، لأنه يثبت من القرآن الكريم أن الجسم المادي يُدفن في التراب بعد الممات، ويعود ترابا، وسيُحشر من التراب. وإن نزول إدريس من السماء وعودته إلى الأرض مرة ثانية، لا تثبت من القرآن الكريم ولا من الأحاديث الشريفة. فمن المتحقق أن المراد من الرفع هنا هو الموت، ولكنه الموت الذي تصحبه العزة والإكرام، وذلك مثلما يقدَّر للمقربين؛ إذ توصَل أرواحهم بعد الممات إلى العِلِّيِّينَ كما يقول تعالى: “فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ” (القمر:55).
(3) الآية الثالثة التي تشهد شهادة بينة على موت عيسى ابن مريم عليه السلام هي: “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ” (المائدة:117).
لقد أثبتنا من قبل أن معنى “التوفِّي” المستخدَم في القرآن كله هو قبض الروح وترك الجسد على حاله، وذلك كما في قوله تعالى: “قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ” (السجدة:11)، ويقول أيضا: “وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ” (يونس:104). وقوله: “حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ” (النساء:15)، وقوله: “حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ” (الأعراف:37)، وقوله أيضا: “تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا” (الأنعام:61). لقد جاء فعل “التوفِّي” في 23 آية من القرآن الكريم، بمعنى الإماتة وقبض الروح فقط. ولكن من المؤسف حقا أن بعض المشايخ قد استنبطوا في هذا المقام من “تَوَفَّيْتَنِي” معنى “رفعتَني” إلحادا وتحريفا، ولم يعبأوا بأن هذا المعنى لا يتعارض مع اللغة فقط، بل يتنافى مع القرآن كله أيضا. فهذا هو الإلحاد بعينه؛ إذ تركوا بغير قرينة قوية معنى معينًا التزم به القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته. إن معنى كلمة “التوفِّي” الإماتةُ وقبض الروح لم يرد في القرآن الكريم وحده، بل ورد بكثرة في الأحاديث الشريفة أيضا. فحين تعمّقتُ في الصحاح الستة وجدتُ أنه كلما استخدم نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة كلمة “التوفِّي” كانت مقصورة على هذا المعنى فقط. فأقول بكل تحدٍّ إنكم لن تجدوا كلمة “التوفِّي” بأي معنى آخر في أيّ حديث صحيح. لقد توصّلتُ إلى نتيجة أن هذه الكلمة قد حُدِّدت كاصطلاح في الإسلام بمعنى قبض الروح فقط، وذلك لتدل على بقاء الروح.
من المؤسف حقًّا أن بعض المشايخ حين يرون أن معنى “التوفِّي” هو الإماتة في الحقيقة، يلجأون إلى تأويل آخر ويقولون إن الوفاة التي وردت في الآية: “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي” سوف تحدث بعد نزول عيسى. وما يبعث على الاستغراب هو أنهم لا يستحيون من اللجوء إلى تأويلات ركيكة. ولا يتأملون في أن آية “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي” قد سبقتها الآية: “وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ…” (المائدة:116).
والمعلوم أن “قَالَ” فعل ماضٍ وقد سبقه: “إِذْ” الذي يدل على فعل ماض بوجه خاص، ويبرهن على أن هذا الحادث عند نزول الآية كان قد صار في طيات القصص الماضية، ولا علاقة له بالمستقبل. كذلك إن الجواب على لسان عيسى عليه السلام أيضا جاء بصيغة الماضي؛ أي: “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي”. والقصص التي ذُكرت في القرآن الكريم قبل هذه القصة، جاءت أيضا بالأسلوب نفسه، وتؤيد المعنى نفسه؛ ومنها مثلا: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة:30)، فهل يجوز الاستنباط من هذه الآية أن الله تعالى سيسأل الملائكة في المستقبل؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم زاخر- وتصدقه في ذلك الأحاديث أيضا – بأن الأسئلة مثلها، تُطرح بعد الموت وقبل القيامة.
(4) الآية الرابعة التي تدل على موت المسيح عليه السلام هي: “إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ” (النساء:159).
وشرحتها في هذا الكتاب من قبل.
(فيما يلي ننقل شرح هذه الآية)
السؤال 4: إن الآية: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء:159) تدل على حياة المسيح ابن مريم لأنها تعني أن جميع أهل الكتاب سيؤمنون بالمسيح قبل موته. فيبدو من هذه الآية أن المسيح سيعيش حتما إلى أن يؤمن به أهل الكتاب جميعا.
أما الجواب: فليكن واضحا أن السائل مخطئ في ذلك إذ يزعم أن الآية تعني أنه لا بد أن تؤمن جميع فِرق أهل الكتاب بالمسيح قبل موته، لأنه لو قبلنا جدلا أن هذا ما تعنيه الآية كما فهم السائل، لاستلزم ذلك أن يؤمن به جميع أهل الكتاب الذين خلَوا منذ زمن صعوده والموجودون حاليا والذين سيأتون في المستقبل إلى زمن نزوله، وهذا باطل بداهةً. يعرف الجميع جيدا أن عددا هائلا لا يُعدُّ ولا يُحصى من أهل الكتاب قد وصلوا جهنمَ إلى الآن لإنكارهم نبوةَ المسيح، ويعلم اللهُ وحده كم منهم سيدخلون أتون هذه النار لكفرهم به – عليه السلام – في المستقبل أيضا. لو كان في مشيئة الله أن يؤمن بالمسيح كافةُ أهل الكتاب الذين ماتوا أيضا عند نزوله، لأبقاهم – سبحانه وتعالى – جميعا على قيد الحياة ما لم ينزل المسيح من السماء. أما الآن فكيف يمكن أن يؤمنوا به بعد موتهم؟
يردّ على ذلك بعض الناس بتجشّمِ كثير من التكلُّف أنه من الممكن أن يُحيِي اللهُ كافة أهل الكتاب الذين ماتوا في كفرهم منذ زمن بعثة المسيح إلى نزوله الثاني. وجوابه: لا شك أنه لا شيء مستحيل على الله، ولكن الموضوع قيد البحث هو: هل يوجد لمثل هذه الأفكار أيّ أثر في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة؟ وإذا كان موجودا فلِم لا يُقدِّمونه؟
يقدّم البعض بصوت خافتٍ وبشيء من الاستحياء تفسيرا أن المراد من أهل الكتاب هم أولئك الذين سيكونون موجودين في الدنيا عند عودة المسيح، فسيؤمنون به فور رؤيتهم إياه، وسينضمون إلى فوج المؤمنين قبل موت المسيح. لكن هذه الفكرة أيضا باطلة بحيث لا حاجة للإسهاب فيها أكثر من ذلك، لأنه أولا وقبل كل شيء: إن الآية قيد البحث تفيد العمومَ بوضوح تام، وهذا يعنى أن المراد من أهل الكتاب هم أهل الكتاب جميعا الذين كانوا في زمن المسيح – عليه السلام – أو سيأتون بعده. ولا توجد في الآية كلمة تجعل زمنها مقتصرا على زمن محدد.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا المعنى باطل بداهةً لأن الأحاديث تعلن بأعلى صوتها أن منكري المسيح – سواء أكانوا من أهل الكتاب أو غيرهم – سيموتون بنَفَسه في حالة كفرهم. وليس ضروريا أن نكرر نقل تلك الأحاديث، إذ يمكن قراءتها في مكانها في هذا الكتاب. ( لقد بيّنتُ من قبل المعنى الحقيقي لموت الناس بنَفَس المسيح، أي أن المراد من ذلك موتهم بالحجة والبيِّنة، وإلا فبعيدٌ من الأدب القول بأن مادةً سُمِّيَّة أو وبائية ستخرج من فم المسيح وتختلط بالهواء وتقتل الكفار الضعفاء فقط، ولن تقدر على قتل الدجال ).
إضافة إلى ذلك، فمن معتقدات المسلمين المسلَّم بها أن الدجال أيضا سيكون من أهل الكتاب، ويعتقدون أيضا أنه لن يؤمن بالمسيح! الآن لا يسعني أن أتصور مدى الخجلِ الذي سيصيب أصحاب تلك الفكرة باطلاعهم على هذه الأحاديث. ومن المسلَّم به أيضا والوارد في صحيح مسلم أن القيامة ستقوم على شِرَار الناس الذين سيبقون بعد المسيح. فلو لم يبق أحد كافرا فكيف ستقوم القيامة؟
والآن سيطرح سؤالٌ طبيعي نفسه بأنه إذا كان معنى الآية المذكورة آنفًا غير صحيح، فما هو معناها الصحيح إذن؟
فليتضح في الجواب أن المعنى الصحيح هو ذلك الذي يتحتم التسليم به بالنظر إلى جميع الآيات الواردة في هذا الموضوع، ولا يستلزم التسليم به أيّ عيب أو نقيصة. فأولا وقبل كل شيء أنقل فيما يلي تلك الآيات، ثم سأتطرق إلى إثبات معانيها الصحيحة. ففيما يلي تلك الآيات: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (النساء: 157 – 159). أي أن سبب حرمان اليهود من رحمة الله والإيمانِ كان نتيجة أعمالهم السيئة التي ارتكبوها. ومن جملتها قولهم: انظروا، قد قتلنا المسيح ابن مريم الذي كان يدّعي أنه رسول الله. إن قولهم هذا لا يعني أنهم كانوا يؤمنون بالمسيح رسولاً، وإلا لما علّقوه على الصليب. بل إن قولهم إننا قتلنا الرسولَ كان استهزاءً وسخريةً، لأنه قد ورد في التوراة أن المعلَّق ملعون من الله، أي بعيدٌ من رحمة الله وقربه. كان اليهود يقصدون من وراء قولهم هذا أنه إذا كان عيسى بن مريم رسولا صادقا لما قدرنا على صلبه؛ لأن التوراة تعلن بأعلى صوتها أن المصلوب ملعون. ثم يقول القرآن بعد ذلك إن اليهود ما قتلوا المسيح ابن مريم وما صلبوه، بل هذا الأمر مشبوه فيه في قلوبهم وليس يقينيا، وقد جعل اللهَ الأمرَ مشتبَهًا عليهم ليُظهِر عليهم غباءهم وقدرتَه. ثم يقول تعالى بأن الذين يشكّون في كون المسيح قد صُلب فعلا، ليس لديهم دليل قطعي ويقيني على أنه مات على الصليب، بل الأمر اليقيني هو أنه مات ميتة طبيعية، ثم رفعه الله تعالى إليه كما يرفع عباده الصالحين. إن الله عزيز ويرزق العزة للذين يصبحون له، وهو حكيم فيفيد بحِكَمه أولئك الذين يتوكّلون عليه. ثم قال تعالى: ما من أهل الكتاب إلا ويؤمن ببياننا الذي ذكرناه آنفا عن أفكار أهل الكتاب أنفسهم، قبل أن يؤمن بحقيقة أن المسيح قد مات موتا طبيعيا.
أيْ بيّنّا من قبل أنه لا أحد من أهل الكتاب يؤمن من أعماقه بأن المسيح قد مات على الصليب في الحقيقة، بل إن اعتقاد اليهود والنصارى كلهم بموته على الصليب مبني على الظن والشك فقط، وإن بياننا هذا صحيح تماما ولا يسع أحدا إنكاره. غير أنهم لا يعرفون عن موعد موته، فها نحن نخبرهم بذلك بأنه قد مات، وأن روحه قد رُفعتْ إلينا بإكرام.
ليكن معلوما هنا أن قول الله تعالى بأنه ما من أهل الكتاب إلا ويؤمن ببيان الله عن أفكارهم إنما هو بيان إعجازي ومطابق تماما لما قاله الله تعالى لليهود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:94). فالمراد من هذا القول هو أن اليهود يقولون بأنهم قَتلوا المسيح على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه ملعون وليس نبيا صادقا – والعياذ بالله – وكذلك يقول النصارى إن المسيح قد مات على الصليب، ويستنتجون من ذلك أنه صار كفّارة عن ذنوبهم، ولكن الحق أن كِلا الفريقين مخطئ في أفكاره، ولا أحد من كِلا الفريقين يؤمن في قرارة قلبه بهذه الأفكار. بل اعتقادهم القلبي هو أن المسيح ما مات على الصليب يقينا. لقد أراد الله تعالى من هذا الكلام أن يدرك المنصفون على وجه القطعية من سكوت اليهود والنصارى أنه ليس في أيديهم بهذا الصدد شيء إلا الشك. ولمّا لزم اليهود والنصارى الصمتَ بعد الاطلاع على هذه الآية ولم يبرزوا في الميدان للإنكار، اتّضح أن السبب في ذلك أنهم كانوا يعرفون جيدا أنهم لو برزوا للمواجهة وادَّعَوا بما ليس في قلوبهم، لواجهوا ذلة وخزيا، ولسوف تظهر من الله آيةٌ تُثبت كذبهم، لذا لم ينبسوا ببنت شفة، بل لزموا الصمت. مع أنهم كانوا يعرفون جيدا أن سكوتهم سيُثبت إقرارهم بالأمر، وهذا سيؤدي من ناحية إلى استئصال عقيدة هؤلاء الكافرين، ومن ناحية أخرى يُبطِل اعتقاد اليهود أن المسيح ليس رسولا صادقا من الله وليس من الذين يُرفعون إلى الله – سبحانه وتعالى – بالإكرام. ولكن السيف اللامع لصدق محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يبهر أبصارهم. فكما قيل لهم في القرآن الكريم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ولكن لم يفعل ذلك أحد لخوفهم، كذلك لا يسع أحدا الإنكار هنا أيضا لشدة خوفه، أي لم يستطيعوا القول بأننا نوقن بموت المسيح على الصليب، فلماذا نُعد من غير الموقنين؟ فإن سكوتهم في زمن النبي صار حجة إلى الأبد، وأثّرت أعمالهم وتصرفاتهم على ذرياتهم المقبلة أيضا، لأن السَّلَف يكونون بمنزلة الشهود للخلَف، ولا بد للأجيال القادمة من أن تقبل شهاداتهم.
والآن يمكن للقراء أن يدركوا أن البحث الذي بدأه الله تعالى – وهو أن المسيح لم يمت على الصليب بل مات موتا طبيعيا – كان الهدف من ورائه أن الفئتين المختلفتين (أي اليهود والنصارى) كانوا يستنتجون من موته على الصليب نتيجتين مختلفتين لدعم موقفهما: قال اليهود إنه مات على الصليب، والمصلوب ملعون حسب التوراة، أي يُحرَم من قرب الله ومن شرفِ الرفع إلى الله، وإن شأن النبوة أرفع وأعلى من أن يصيبها هذا النوع من الذلة، أما المسيحيون فقد ابتدعوا – خشيةَ طعن اليهود- أن موت المسيح على الصليب لا يضره بشيء، بل قبِل لنفسه هذه اللعنة برغبته ليخلِّص منها المذنبين. فقد أراد الله أن يثبت بطلان موقف كِلتا الفئتين، وبيّن أنه لا أحد منهم يوقن بموت المسيح على الصليب، وإذا كان منهم من يوقن بذلك فليخرج للعيان. فلاذوا بالفرار ولم ينبسوا ببنت شفة. وإنها لمعجزة عظيمة للنبي – صلى الله عليه وسلم – وللقرآن الكريم، ولكنها خافية عن أعين المشايخ المعاصرين قليلي الفهم.
وأقسم بالذي نفسي بيده أن هذه الحقيقة قد كُشفت عليّ في هذه اللحظة بالذات، بالكشف، وكلّ ما كتبتُه آنفا فقد كتبتُه بتعليم ذلك المعلِّم الحقيقي، فالحمد لله على ذلك.
ولو اختُبر الموضوع على محك العقل لشهد كل عقل سليم على صدق هذا البيان، لأن كلام الله نزيهٌ من اللغو. ولكل عاقل أن يفهم أنه لو لم يشمل هذا البحث تلك المقاصد العظيمة، لكان البيان كله لغوا لا حقيقة فيه، لأنه لو كان الأمر كذلك لصار النقاش – هل مات نبي من الأنبياء على الصليب أو موتا طبيعيا – عقيما لا يسفر عن نتيجة مُرضية.
لذا يجب التأمل جيدا؛ ما هو الهدف السامي الذي يريد الله تحقيقه ببيانه بهذه القوة والشدة بأنه ما من يهودي أو مسيحي يعتقد يقينا بموت المسيح على الصليب؟ أو ما هو الهدف العظيم الذي لإثباته، أسكت اللهُ كِلا الفريقين من اليهود والنصارى وأفحمهما؟ إنه الهدف نفسه الذي أظهره الله بواسطة كشفه الخاص على هذا العبد الضعيف الذي هو كافر وملحد في نظر المشايخ.
“يا رب، نفسي فداء أسرارك، فقد رزقتَ الأميين فهمًا وذكاء، أين أُمِّيٌّ مثلي في كونك كله؟ فقد نشأتُ وترعرعت في بيئة يسودها الجهل. كنت دودةً صغيرة، فجعلتَني بشرا، إن شأني أغرب من مسيح كان بلا أب” (ترجمة أبيات فارسية)
إذا طُرح سؤال: هل يمكن الاستدلال من الإنجيل على عدم موت المسيح على الصليب أم لا؟ أي هل يثبت أن عملية الصلب لم تكتمل وإن كان قد عُلّق على الصليب في الظاهر، بمعنى: هل لم يمت المسيح على الصليب؟
فجوابه أن الأناجيل الأربعة تشهد بكل جلاء على بيان القرآن الكريم: {مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} لأن القرآن لا يقصد قط من: {مَا صَلَبُوهُ} أنه ما عُلِّق على الصليب، بل المراد منه أن الله – سبحانه وتعالى – نجّاه من الهدف من الصلب، أي أنقذه من الموت عليه. وقد أقدم اليهود على هذه الفعلة – أيْ تعمّدوا قتله – ولكن قدرة الله وحكمته حالت دون تكميلها. وكما ورد في الأناجيل أنه قد حدث أن اليهود طلبوا من “بيلاطس” أن يسلِّمهم المسيحَ -الذي كان في السجن- ليصلبوه، فبذل بيلاطس قصارى جهده ليُطلق سراحه لأنه لم يجد فيه علة، ولكن اليهود أصروا وألحّوا عليه كثيرا أن يصلبه. وقال الكهنة والفرِّيسيّون كلهم أجمعون إنه كافر، ويصرف الناسَ عن أوامر التوراة. بينما كان بيلاطس يعرف جيدا من الأعماق أن قتل إنسانٍ صادق بناء على الاختلافات الفرعية ذنب كبير بلا أدنى شك، لذلك كان يبحث عن أعذار لإطلاق سراحه. ولكن الكهنة ما كانوا ليرتدعوا عن موقفهم، فاختلقوا أمرا آخر وقالوا بأن هذا الشخص يدّعي أنه ملك اليهود، وهو متمرد على حكومة “قيصر” سِرًّا، وإذا أَطلقتَ سراحه فاعلمْ أنك قد حَمَيتَ متمردا. فخاف بيلاطس لأنه كان خاضعا لأمر قيصر. ولكن يبدو أنه مع ذلك ظل خائفا من سفك الدم بغير حق. ولقد رأت امرأته في الحُلم أن المسيح صادق، ولو قتله بيلاطس لكان ذلك مجلبة دمارٍ له، فخاف بيلاطس أكثر بسماع الحُلم. فلكل قارئ لبيب أن يفهم من التأمل في هذه الرؤيا المسجّلة في الإنجيل أن إنقاذ المسيح من القتل كان من مشيئة الله. فأول إشارة إلى مشيئة الله هذه تُستدلّ من الرؤيا نفسها، فتدبروها جيدا.
ثم حدث أن عقد بيلاطس اجتماعا لاتخاذ القرار النهائي، وحاول قدر المستطاع أن يُقنع الكهنة والكتبة الأشقياء أن يرتدعوا عن طلب قتل المسيح، ولكنهم لم يتراجعوا عن موقفهم بل ازدادوا صراخا قائلين “ليُصلَب، ليُصلَب” لأنه منحرف عن الدين. عندها طلب بيلاطس ماءً وغسل يديه أمام الجميع قائلا: إني بريء من دمه. فقال اليهود والشيوخ والكتبة: “دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا”. عندها سُلِّم المسيح إليهم فجُلِد، وتعرَّض لكل ما كان في نصيبه من السباب والضرب واللطم والاستهزاء والسخرية بإيعاز من الشيوخ والكهنة حتى استعدوا لصلبه. كان الوقت عصرا يومَ الجمعة وكان عيد الفصح أيضا عند اليهود، فالوقت كان ضيقا، إذ كان يوم السبت- الذي يبدأ بغروب الشمس- على وشك الحلول، لأن اليهود – مثل المسلمين – يعُدُّون الليل الذي قبل النهار، جزءا من اليوم التالي. وكان هناك أمرٌ شرعيٌّ مؤكد ألا تبقى جثة معلَّقة على الصليب يوم السبت. فأسرع اليهود في تعليق المسيح – مع لصَّين- على الصليب، وذلك كي يتم إنزال الجثث قبل حلول المساء. ثم اتفق أن هبت عاصفة شديدة في الحال وعمّ ظلام حالكٌ. فقلق اليهود على أنه لو حلّ المساء في تلك العاصفة لارتكبوا الجريمة المذكورة. فأنزلوا المصلوبِين الثلاثة عن الصُّلبان بناء على ذلك الخوف.
وليكن معلوما أنه من المتفق عليه أن الصليب في تلك الأيام ما كان مثل المشنقة المعروفة في العصر الراهن حيث يُقضَى على المزمَع قتلُه خلال ساعة واحدة بشدِّ الحبل على عنقه. ففي تلك الأيام ما كان يُوضع في العنق حبل، بل كانوا يدقُّون المسامير في بعض الأعضاء. وكان المصلوبون يُترَكون على الصليب إلى ثلاثة أيام جياعا وعطاشى، ثم تُكسَر عظامهم للتأكد من موتهم. ولكن شاءت مشيئة الله ألا يحدث كل هذا مع المسيح. فقد اجتمعت الأسباب كلها في آن معا؛ مثل عيد الفصح، وضيق الوقت، أي وقت العصر، وخوفهم من حلول السبت، وهبوب العاصفة. وقد أدّت هذه الأمور كلها إلى إنزال المسيح واللصين عن الصُّلبان في وقت قصير.
ثم حين جاء الأمر بكسر العظام أظهر الله تعالى نموذج قدرته الكاملة؛ إذ أن بعضا من جنود بيلاطس الذين كانوا قد أُفهِموا سرًّا هَوْلَ عاقبة الرؤيا، كانوا موجودين آنذاك، وكانوا يرغبون في أن يزول هذا البلاء عن المسيح حتى لا تتحقق بقتله الرؤيا التي رأتها زوجة بيلاطس، فيحلّ ببيلاطس بلاء، فكسروا عظام اللصَّينِ أولا. ولما كانت العاصفة شديدة وعمّ الظلام، قلق الناس للعودة فعادوا إلى بيوتهم مسرعين. فوجد الجنود فرصة مواتية، وحين فرغوا من كسر عظام اللصينِ وجاء دور المسيح، قال أحدهم بعدما لمسه باليد: إنه قد مات، فلا حاجة لكسر عظامه. وقال آخر: أنا سأتولّى دفن جثته. وكانت العاصفة من الشدة والقوة بحيث دفعت اليهود لمغادرة ذلك المكان. وهكذا أُنقذت حياة المسيح، ثم قابلَ الحواريين وأكل معهم السمك. وحين وصل اليهود إلى بيوتهم وتوقّفت العاصفة، ارتابوا في عدم اكتمال خطتهم، وانتابهم الشك في تصرفات الجنود أيضا.
إذن، فلا يزال اليهود والنصارى على الحال نفسها، إذ لا يستطيع أحد منهم أن يقول حالفا بالله أو مؤكدا البلاءَ أو العذابَ لنفسه بأنه واثق ومتيقّن أن المسيح قد قُتل في الحقيقة. والحق أن هذه الشكوك قد أطلّت برأسها في ذلك الوقت نفسه. ولقد حاول “بولُس” بحذلقته أن يزيل تلك الشكوك، ولكنها ظلت تزداد وتتفاقم. فمن الواضح تماما من بعض رسائل بولُس أنه لما أُنزل المسيح عن الصليب، ظهرت حجة قوية أخرى للعيان على كونه حيا، وهي أنه عندما طُعن بحربة في جنبه، تدفق منه على الفور دم. فلا يزال اليهود في شك بسبب عجلتهم، وأما النصارى فيشاركون في هذا الشك بناء على بيان الإنجيل. الحق أنه لا يسع مسيحيا يتدبر الإنجيل أن يعتقد على وجه اليقين أن المسيح مات على الصليب في الحقيقة، بل لا تزال قلوبهم في شك من أمره إلى يومنا هذا. والكفارة التي يشيعونها مبنية على تلة رملية قد ذَرَتها بيانات الإنجيل نفسه. فإن الآية القرآنية: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1) لا تتضمن نبوءة كما يزعم إخواننا المشايخ الذين يدّعون أنهم علماء كبار، بل تبيِّن واقع الحال الذي كان موجودا في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم -. بمعنى أن الله تعالى يسرد ماهيّة أفكار اليهود والنصارى السائدة آنذاك إتماما للحجة، ويُظهر عليهم حقيقة قلوبهم، ويُدينهم ويفهِّمهم أنه إذا كان بيانه – سبحانه وتعالى – هذا غير صحيح، فليبرُزوا في الميدان وليعلنوا بوضوحٍ أن هذا الخبر ليس صحيحا، ولم تتطرق الشكوك والشبهات إلى قلوبهم، بل يوقنون بأن المسيح قد مات مصلوبا في الحقيقة.
هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن الله جلّ شأنه يهدف من قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} الوارد في نهاية الآية أنه يجب ألا يستنتج أحد من عدم موت المسيح على الصليب إنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب، لذا فإنه لم يمت إلى الآن. فقال تعالى: إن هذا بيانٌ لما جرى قبل موته ميتة طبيعية، فلا تستنبطوا من ذلك عدم موته، إذ قد مات المسيح بعد ذلك ميتة طبيعية. فقد قال – سبحانه وتعالى – في هذه الآية بأن اليهود والنصارى يؤمنون ببياننا هذا بالاتفاق على أن المسيح لم يمت حتما على الصليب، وليس لديهم إلا الشكوك والشبهات فقط بهذا الصدد. فإنهم يؤمنون بالأحداث التي سبقت موتَه – قبل أن يؤمنوا بموت المسيح الطبيعي الذي حدث في الحقيقة -؛ لأنه ما دام المسيح لم يمت على الصليب – الأمر الذي كان اليهود والنصارى يريدون أن يستنتجوا منه نتائج معينة لتحقيق أهدافهم – صار إيمانهم بموته الطبيعي محتوما عليهم، لأن الذي يولَد سيموت حتما. فإن تفسير العبارة: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هو: قبل إيمانه بموته.
ومن ناحية ثانية يُستنبَط من الآية معنًى آخر أيضا وهو أن هذه الأفكار والشكوك والشبهات لا تزال تراود قلوب اليهود والنصارى منذ وقتٍ لم يكن المسيح قد مات فيه بعد. فمن منطلق هذا المعنى يشهد القرآن الكريم ضمنيًّا على موت المسيح.
فباختصار، قد ذُكر موت المسيح في ثلاث آيات من القرآن الكريم، ولكن من المؤسف حقا أن المشايخ لا يقرؤون هذه الآيات. يقول بعضهم بمنتهى الحذلقة: حسنا، قبِلنا أن القرآن الكريم يقول بموت المسيح، ولكن أليس الله جلّ شأنه قادرا على أن يُحييه مرة أخرى ويعيده إلى الدنيا؟ الحق أن عقول هؤلاء المشايخ وأفهامهم تدعو للرثاء والبكاء فعلا.
أيها السادة، نحن نؤمن بأن الله قادر على كل شيء، وقادر على أن يحيي الأنبياء جميعا إذا شاء ذلك. ولكن السؤال المطروح أمامكم هو أن القرآن الكريم قد حكى قصة المسيح – عليه السلام – إلى موته ثم سكت، فإذا كنتم تعرفون آية قال الله تعالى فيها بأنه قد أحيا المسيحَ بعد موته فأخرِجوها لنا، وإلا فإنكم تتصدَّون للقرآن الكريم كالأعداء حيث أعلن موته، وأنتم تدّعون – على عكس ذلك – أنه لم يمت، بل لا يزال حيا.
إن بعض المشايخ يقول بمنتهى البساطة إن قوله تعالى {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}، وقوله {رَافِعُكَ} بعد قوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يدل على عودته إلى الحياة. ثم يقولون بأنه إذا لم يكن هذا المعنى صحيحا، فلمَ لم ترد كلمة: {رَافِعُكَ} بحق أحد غير المسيح؟
لقد سبق أن كتبتُ ردًّا مفصلا في كتاب “إزالة الأوهام” هذا نفسه على كل هذه الوساوس، وقلت إن المراد من الرفع هو رفع الروح بعزة وإكرام؛ إذ تُرفع روح كل مؤمن بعد وفاته إلى الله تعالى بعزة وإكرام بحسب نصوص القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة. أما السبب وراء ذكر رفع المسيح هنا، فلأن مهمته لتبليغ الدعوة كانت شبه فاشلة، وزعم اليهود أنه كاذب، لأنه كان ضروريا حسب زعمهم أن ينزل “إيليا” من السماء قبل المسيح الصادق. فأنكروا رفعَ المسيح إلى الله تعالى بالعزة والإكرام مثل بقية الأنبياء، بل اعتبروه ملعونا، والعياذ بالله. وملعونٌ مَن لا يُرفع بالعزة والإكرام. فأراد الله أن يزيل هذه التهمة عن المسيح. فأولا وقبل كل شيء؛ أبطل الله تعالى الأساس الذي بناء عليه اعتبر اليهودُ والنصارى الأشرارُ المسيحَ ملعونا في قرارة قلوبهم. ثم ذكر – سبحانه وتعالى – بصراحة تامة أن المسيح ليس ملعونا حتى يُحرم من الرفع، بل رُفع بالعزة والإكرام. فقد ارتحل المسيح من الدنيا بعد قضاء حياته المؤقتة كمسكين، وبالغ اليهودُ كثيرا في الإساءة إليه، ووجّهوا إلى أمه تُهمَا باطلة، واعتبروه ملعونا، ورفضوا رفعه كالصادقين. ولم يقتصر ذلك على اليهود فقط، بل تورط النصارى أيضا في الفكرة نفسها، وابتدعوا بوقاحة شديدة حيلة لنجاتهم المزعومة؛ أن يعتبروا الصادق ملعونا. ولم يفكروا أنه إذا كانت النجاة مقتصرة على كون المسيح ملعونا، وإذ كانت لا تُنال إلا بجعْل صادقٍ طيِّب السيرة، ومحبوب عند الله معلونا، فتبًّا لهذه النجاة! بل إن جهنم أفضل منها بألف مرة.
قصارى القول: إن كلتا الفئتين، اليهود والنصارى، جوّزوا بحق المسيح ألقابا مسيئة، فلم تُرِد غيرة الله أن تترك كرامة هذا المقدس دون شهادة تُثبتها. فبعث الله تعالى – كما وعد في الإنجيل من قبل – سيدنا ومولانا خاتَم المرسَلين وشهد في القرآن الكريم على قداسة المسيح ورفعه.
لقد وردت كلمة: “الرفع” في عدة أماكن في القرآن الكريم؛ منها قوله – سبحانه وتعالى – في قصة بلعام: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ}، ومنها قوله عن نبي لم يحقق أي نجاح {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (مريم:57). الحقيقة أن الناس رفضوا رفْع هذا النبي (إدريس – عليه السلام -) أيضا. كذلك أُرِيدتْ إهانتي أنا أيضا مثل المسيح، فمن خصومي مَن يكفِّرني، ومنهم من يسمِّيني ملحدا ومنهم من يعدُّني عديم الإيمان، حتى إن الفقهاء والمشايخ مستعدون ليعلِّقوني على الصليب كما كتب ميانْ عبد الحق في إعلانه المنشور بأن من واجب المسلمين أن يُعملوا أيديهم أيضا في قضية هذا الشخص. ولكن هذه الحكومة تراعي البريء أكثر من بيلاطس، ولا تخشى الرعيةَ مثله. غير أن قومنا هؤلاء لم يدخِّروا جهدا لإهانتي لتتحقق المماثلة من كِلتا الجهتين. فقد تلقَّوا أيضا “إلهامات” عني تقول إنه من أهل جهنم ويدخل جهنم في نهاية المطاف، ولن يكون من الذين يُرفعون إلى الله بالعزة والإكرام. فاليوم فهمتُ معنى الإلهام الذي ورد في “البراهين الأحمدية” منذ عدة أعوام ونصه: “يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة”. أيْ أن هذين الشيخين؛ عبد الرحمن وعبد الحق، يؤكدان حاليا على أني من أهل جهنم. ولكن الله قد وعدني قبل إدلائهما بهذا البيان بعشر سنوات بأنني من أهل الجنة. وكما زعم اليهود أن المسيح عيسى ملعون – والعياذ بالله – ولن يُرفع بالعزة والإكرام فنزلت الآية: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} للرد عليهم، كذلك، ولعلمه الأزلي؛ ألقى الله هذا الإلهام على قلبي أيضا نبوءةً سلفا. ولما كان الله – عز وجل – يعلم أن ميان عبد الحق وعبد الرحمن سيعتبرانني بعد بضع سنوات ملعونا كما اعتبر اليهودُ المسيحَ، فقدَّر أن تسجَّل هذه النبوءة في “البراهين الأحمدية” قبل الأوان ويجعلها معروفة في العالم كله حتى تظهر قدرته وحكمته، ولكي يُعلَم أنه كما اعتبر الشيوخُ اليهود المسيحَ معلونا في عهده وأنكروا أنه من أهل الجنة ولم يقبلوا رفعه إلى الله بالعزة والإكرام وانضمامه إلى جماعة الصادقين، كذلك أراد المشايخ من أهل ديني أيضا أن يحرموا هذا العبد الضعيف من رحمة الله. والمعلوم أن المؤمنين المذنبين أيضا يحظون بشيء من الاحترام، ولكن هؤلاء القوم لم يبالوا بذلك أيضا بحقي أنا العبد الضعيف، بل ألقوا بهذا الصدد خطابات عامة وبعثوا رسائل ونشروا إعلانات، فقد استخدمهم الله تعالى لتحقيق المماثلة، وإلا فإن حقيقة كون المرء من أهل الجنة أو النار يعلمها كل امرئ بعد موته حين يقول البعض بحسرات وهم في جهنم: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} (ص:62).
“يا أيها الزاهد الورع؛ لا تذكر عيوبنا نحن المخطئين، فلا تدري ما هو الجيد وما هو السيئ وراء الحجاب” (ترجمة بيت فارسي)
فحاصل الكلام أن كلمة “الرفع” التي وردت في القرآن الكريم هي الكلمة نفسها التي استخدمها – عز وجل – بحقي أنا العبد الضعيف أيضا في الإلهام.
ولو أثار أحد إشكالية أن المسيح يقول في الإنجيل إنه سيموت حتما وسيقوم في اليوم الثالث، فكيف إذًا ينسجم الكلام المذكور آنفا مع كلامه هذا؟
فجوابه أنه ليس المراد من هذا الموت موتٌ حقيقي، بل المراد هو موت مجازي. ومثل هذا هناك تعبير شائع؛ حيث يقال عمن ينجو من الموت المحتوم: إنه أُحيِيَ من جديد. والبلية التي حلّت بالمسيح – إذ علِّق على الصليب ودُقَّت في أطرافه المسامير التي أدت إلى إغمائه لم تكن أقل من الموت قط. ويقال بوجه عام عن الذي ينجو من الموت المحتوم بأنه نال الحياة من جديد، ولو قال هو بنفسه إنه أُحيى أو نال الحياة من جديد، لما اعتُبر كلامه كذبا أو مبالغة.
وإذا طُرح سؤال: أيّ قرينة في كلام المسيح – عليه السلام – تدل على أن المراد من الموت ليس الموت الحقيقي؟ فجوابه أن المسيح بنفسه أقام هذه القرينة حين جاءه الشيوخ والكتبة والفريسيون وقالوا بأنك تدَّعي أنك المسيح، ولكن أنّى لنا أن نؤمن بذلك دون أن نرى منك آية؟ فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ.
أيْ أنهم يُعطَون آيةً كآية يونان النبي؛ فكما أنه بقي في بطن الحوت حيا لثلاثة أيام ولم يمت، كذلك سيبقى المسيح أيضا حيا في القبر لثلاثة أيام – قدّرها الله تعالى- ولن يموت.
فيجب التأمل هنا أنه لو حُملت كلمات المسيح محمل الموت الحقيقي، لبطلت آية مماثلته مع يونان النبي؛ لأنه بقي في بطن الحوت حيا غير ميِّتٍ. ولكن لو كان المسيح قد مات، وأُدخل القبر ميِّتا، فما هو وجه الشبه بين حادثه وحادث يونان النبي؟ وأية مماثلة بين الأحياء والأموات؟ فيكفي قرينةً قول المسيح – إنه سيموت لثلاثة أيام – على أن كلامه ليس محمولا على الحقيقة، بل المراد منه هو الموت المجازي، أي حالة الإغماء الشديد.
وإذا قُدِّم عذرٌ أن المسيح قال أيضا حين علِّق على الصليب، بأني سأدخل الجنة اليوم، فمن قوله هذا يتبين موته بجلاء.
فليكن واضحا في الجواب أن المسيح كان قد وُعد بدخول الجنة والرفع إلى الله، ولكن هذا الوعد كان مؤجَّلا لوقت آخر لم يُكشَف للمسيح كما ورد في القرآن الكريم: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}. فقد ظن المسيحُ في ذلك الوقت العصيب لعل هذا الوعد سيتحقق في اليوم نفسه. كان المسيح بشرًا ورأى أن جميع أسباب موته متوفرة، فظن نظرا إلى الأسباب البادية للعيان أنه قد يموت في اليوم نفسه. أيْ قد تغلّب عليه ضعف البشرية نتيجة هيبة التجلِّي الجلالي نظرا إلى الظروف المحيطة به، فدعا مكتئبا: إيلي إيلي لما شبقتني؟ أيْ لماذا تركتني يا ربي؟ ولماذا ما وفيتَ بوعدك الذي وعدتني به بأني لن أموت، بل يكون حالي مثل حال النبي يونس؟
وإذا قيل: لماذا شك المسيح في وعد العصمة؟ قلتُ: إن ذلك كان ناتجا عن مقتضى البشرية، إذ لا تقوم للبشرية قائمة أمام التجلي الجلالي. إن الله تعالى يُري جميع الأنبياء أياما كهذه، فأولا يبشر نبيّه بوعد البشارة، وعندما يفرح النبي بذلك يضع – عز وجل – في سبيل تحققها – على سبيل الابتلاء – عراقيل من كل الجوانب والنواحي تبعث على اليأس والخيبة على وجه اليقين والقطعية؛ فقد بشَّر الله تعالى سيدنا ومولانا النبي – صلى الله عليه وسلم – بالفتح والانتصار في معركة بدر، ومن جانب ثانٍ؛ حين اندلعت الحرب عُلم أن الخصوم يملكون جمعًا لا يترك مجالا للأمل في الانتصار نظرا إلى الظروف السائدة. عندها دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – في حضرة الله متضرعا في كرب شديد وقلق متزايد أن يرزق الله هذه الفئة فتحا وانتصارا، وقال: اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. ولكن هذه الكلمات لا تدل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خالجه نوع من الشك في صدق النبوءة، بل كانت نظرته – صلى الله عليه وسلم – إلى أن الله غني، والظروف مخالفة للمرام، وكان هيَّابًا لهيبة جلال الله تعالى. والحق أنه كلما قيل للنبي – صلى الله عليه وسلم – في القرآن الكريم بألا يكون من الممترين تجاه وعود الله، كان ذلك في ظروفٍ تهدد بالخيبة بكل شدة، وكانت الأسباب المعادية ظهرت بصورة مرعبة تترك كل شخص في حيرة من أمره بمقتضى ضعفه البشري. فقيل للنبي – صلى الله عليه وسلم – في مثل هذه المواقف بُغية طمأنته: إنّ عليك ألا ترتاب، بمقتضى البشرية، في أمر تحققها وإن بدت الظروف جد حرجة في الظاهر، ولا تظننّ أنه قد يكون للنبوءة معنى آخر.
(5) الآية الخامسة: “مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطعام” (المائدة:75).
هذه الآية أيضا تنص صراحة على موت المسيح، لأنها تبين بجلاء تام أن عيسى عليه السلام وأمه؛ لا يأكلان الطعام الآن، بل كانا يأكلانه في زمن من الأزمنة، وهذا ما تدل عليه كلمة “كَانَا” التي تبين حدثًا حصل في الماضي وليس الحاضر. فالكل يستطيع أن يفهم الآن بأن مريم مُنعت من الأكل لأنها ماتت. ولما كان لفظ “كَانَا” بصيغة التثنية، وتشمل عيسى عليه السلام ومريم معا، وينطبق عليهما حكمٌ واحد، فلا بد من التسليم بموته أيضا مع التسليم بموت مريم، لأن الآية لا تقول إن مريم مُنعت من أكل الطعام بسبب الموت بينما مُنع ابنها منه لسبب آخر. ولو قرأنا الآية المذكورة آنفًا، مع الآيةِ: “مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ” (الأنبياء:8) لتوصلنا إلى نتيجة قاطعة ويقينية أن المسيح عليه السلام قد مات في الحقيقة، لأنه قد ثبت من الآية الأُولى أنه لا يأكل الطعام الآن، وتقول الآية الثانية إنه لا مناص للجسم المادي من أكل الطعام ما دام حيا. والنتيجة الحتمية لذلك أنه ليس حيا الآن.
(6) الآية السادسة: “وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ” (الأنبياء:8).
لقد شرحتُ هذه الآية باختصار في سياق الآية التي ذكرتُها قبلها. والحق أن في هذه الآية وحدها دلالة كافية على موت المسيح؛ لأنه ما دام الجسد المادي لا يستطيع العيش بدون الطعام – كما هي سنة الله – فكيف إذن يعيش المسيح عليه السلام إلى الآن بدون الطعام؟ مع أن الله جلّ شأنه يقول: “وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا” (الأحزاب:62).
وإذا قال قائل بأن أهل الكهف أيضا يعيشون دون الطعام، قلتُ: إن حياتهم ليست في هذه الدنيا، وقد برهن حديث صحيح مسلم الذي يتحدث عن “مائة سنة”، على موتهم بكل جلاء، (أي حديث “وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ”) لا شك أننا نؤمن بأن أصحاب الكهف أحياء مثل الشهداء، وحياتهم كاملة، ولكنهم قد نجوا من الحياة الدنيوية الناقصة والمادية. فما معنى الحياة الدنيا وما حقيقتها؟ قد يظنها الجاهل أمرا ذا بال، ويصنِّف تحتها كل أنواع الحياة المذكورة في القرآن الكريم، ولا يتنبّه إلى أن الحياة الدنيوية هي أدنى درجة – وقد استعاذ سيدنا خاتَم النبيين أيضا من الجزء الأرذل منها – وتصحبها مستلزمات سخيفة وكريهة، ولو حظي الإنسان بحياة أفضل من هذه الحياة السُفلى دون أن يحدث أيّ خلل في سنة الله، فلا شيء أجمل من ذلك.
(7) الآية السابعة: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ” (آل عمران:144).
تتلخص هذه الآية في أنه إذا كانت الحياة الدائمة ضرورية لنبي من الأنبياء، فقدِّموا لنا ما يثبت أن نبيًّا لا يزال حيًّا من الأنبياء السابقين. والمعلوم أنه إذا كان المسيح ابن مريم حيًّا، فهذا يعني أن تقديم الله تعالى هذا الدليلَ ليس في محله.
(8) الآية الثامنة: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ” (الأنبياء:34).
معنى هذه الآية أن جميع الناس خاضعون لسنة الله تعالى الموحدة، وما نجا إلى الآن من الموت أحد، ولن ينجو في المستقبل أيضا. ومن معاني “الخلود” في اللغة؛ البقاء في حالة واحدة على الدوام، لأن التغيُّر تمهيد للموت والزوال. فتبين من نفي الخلود أن كل شخص مصيره إلى الموت، ومردَّه إلى أرذل العمر بسبب تأثير الزمن. ومن هنا يتبين موت المسيح ابن مريم نتيجة امتداد الزمن، وتحوّلِه شيخا فانيا.
(9) الآية التاسعة: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
أيْ أن جميع الأنبياء الذين جاءوا قبل الآن كانوا أمة، وقد ماتوا جميعا.
(10) الآية العاشرة: “وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا” (مريم:31).
لقد شرحنا هذه الآية في هذا الكتاب نفسه من قبل، ويتبين منها أيضا أن الله تعالى قد أوصى عيسى عليه السلام بالصلاة بحسب أسلوب مذكور في الإنجيل، فيصلي في السماء على طريقة المسيحيين، أما يحيى عليه السلام فهو راقد بجانبه لكونه ميتا. ولكن حين يعود عيسى عليه السلام إلى الدنيا، يُزعم أنه سيصلي كالمسلمين بصفته واحدا من الأمة على عكس هذه الوصية!!
(11) الآية الحادية عشرة: “وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا” (مريم:33).
لقد ذُكرت في هذه الآية، الأحداث الثلاثة العظيمة فقط التي تتعلق بشخص عيسى عليه السلام. ولو كان الرفع ثم النـزول، من الأحداث الواقعة والصحيحة، لكان بيانهما أيضا ضروريا. أليس من المفروض – والعياذ بالله – أن يكون عيسى عليه السلام محلا للسلام من الله عند الرفع والنـزول وبعدهما؟ ففي ترك الله تعالى في هذا المقام ذكر رفع المسيح ابن مريم ونـزوله- كما هو مترسخ في أذهان المسلمين- دلالة واضحة على أنها فكرة باطلة، وتخالف واقع الأمر؛ بل الرفع هنا يدخل في: “يَوْمَ أَمُوتُ”، وأما النـزول فباطل أصلا.
(12) الآية الثانية عشرة: “وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا”(الحج:5).
يقول الله تعالى في هذه الآية إن سنة الله جاريةٌ فيكم بطريقتين اثنتين فقط؛ يموت بعضكم قبل وصوله إلى العمر الطبيعي، والآخرون يَصلون إلى الأجل الطبيعي، إذ يُرَدُّون إلى أرذل العمر كيْ لا يعلموا من بعد علم شيئا. إن هذه الآية أيضا تدل على موت المسيح ابن مريم عليه السلام لأنها تبرهن أن الإنسان لو قُدِّر له عمر طويل، لطالت حياته يوما بعد يوم حتى يبلغ أرذل العمر، فيغدو جاهلا مثل طفل صغير، ثم يموت.
(13) الآية الثالثة عشرة: “وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ” (البقرة:36).
أي ستموتون في الدنيا بعد قضاء أيام التمتع. هذه الآية أيضا تحول دون صعود الجسد المادي إلى السماء لأن “لَكُمْ” يفيد التخصيص، ويدل صراحة على أن الجسد المادي لا يمكن أن يصعد إلى السماء، بل سيبقى في الأرض كما خرج منها، وسيعود إليها فقط.
(14) الآية الرابعة عشرة: “وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ” (يس:68).
أيْ: لو طال عمر الإنسان كثيرًا، لخارتْ قواه وخوتْ قدراته البشرية، وتطرق الخلل إلى حواسه وفتر عقله. والآن، لو افترضنا جدلا أن المسيح ابن مريم مازال حيا بجسده المادي، فلا بد من الاعتراف أيضا بحتمية وقوع خلل كبير في قواه البشرية منذ أمد بعيد، وهذا الوضع في حد ذاته يقتضي موتا، فيضطر المرء للقبول يقينا أنه عليه السلام يكون قد مات منذ مدة طويلة.
(15) الآية الخامسة عشرة: “اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضعْفًا وَشَيْبَةً” (الروم:54).
هذه الآية أيضا تدل بصراحة متناهية على أنه ما من بشر يخرج عن قانون الطبيعة، بل إن للدهر قانونًا يحيط بكل المخلوقات، فيؤثّر في عمر الإنسان حتى يصير نتيجة هذا التأثير شيخا فانيا ثم يموت.
(16) الآية السادسة عشرة: “إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ” (يونس:24).
أيْ أن الإنسان يُخلق على غرار النبات، فيتّجه بادئ ذي بدء إلى الكمال، ثم ينحدر إلى الزوال. فهل استُثنِي المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام من ناموس الطبيعة هذا؟
(17) الآية السابعة عشرة: “ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ”(المؤمنون:15).
أيْ إن الله تعالى يبلّغكم إلى ذروة الكمال تدريجيًّا، فبعد وصولكم أوج الكمال تميلون إلى الزوال حتى توافيكم المنية. هذه هي سنة الله الجارية فيكم، ولا يخرج عن هذه السنة بشر. فيا ربي القدير اُرزق الذين يعتبرون المسيح خارج هذه السنة الإلهية عيونا لمعرفة هذا القانون.
(18) الآية الثامنة عشرة: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ” (الزمر:21).
في هذه الآية أيضا ذكر الله تعالى على سبيل المثال أن الإنسان يقضي حياته رويدا رويدا مثل الزرع فيموت.
(19) الآية التاسعة عشرة: “وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ” (الفرقان:20).
تبرهن هذه الآية أيضا أن الأنبياء الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الطعام الآن ولا يمشون في الأسواق. وقد بيّنَّا من قبل بنص القرآن أن أكل الطعام من مستلزمات الحياة الدنيوية، فما دام هؤلاء الأنبياء كلهم لا يأكلون الطعام الآن، فتبين أنهم ماتوا جميعا بمن فيهم المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام أيضا، لأن الكلمات الواردة في الآية تفيد الحصر.
(20) الآية العشرون: “وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ” (النحل:20-21).
لاحِظوا كيف تبرهن هاتان الآيتان بصراحة تامة على موت المسيح وغيره ممّن اتخذهم اليهود والنصارى وبعض فِرق العرب آلهة وكانوا يدعونهم! فلو كنتم مع كل ذلك غير جاهزين للاعتراف بموت المسيح، فلِمَ لا تقولون بصراحة: إن لدينا تحفظات على الإيمان بالقرآن الكريم؟
إن عدم التوقف فورا وفي الحال عند سماع الآيات القرآنية، ليس من شيمة المؤمنين على الإطلاق.
(21) الآية الحادية والعشرون “مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” (الأحزاب:40).
في هذه الآية أيضا دلالة واضحة على أنه لن يأتي في الدنيا نبيٌّ بعد نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم. وقد تبين من ذلك أيضا بوضوح تام استحالة مجيء المسيح ابن مريم إلى الدنيا لأنه رسول. ويدخل في حقيقة الرسول وماهيته أنه يحصل على علوم الدين بواسطة جبريل. وتبيّن الآية أن وحي الرسالة منقطع إلى يوم القيامة، فلا مندوحة من التسليم بأن المسيح ابن مريم لن يأتي قط، وهذا الأمر في حد ذاته يستلزم موته.
ولا ينفع خصومَنا قولُهم بأنه أُحيِي بعد الممات، لأن نبوته التي تلازمه دائما ولن تنفصل عنه، تحول دون عودته إلى الدنيا وإن أُحيي.
وإضافة إلى ذلك فقد بيّنّا أن حياة المسيح بعد مماته ليست كما ظُنَّ، بل تشبه حياة الشهداء التي تُنال فيها مراتب القرب والكمال. وقد ذُكر هذا النوع من الحياة في أماكن عديدة في القرآن الكريم. فقد جاءت آيةٌ على لسان إبراهيم عليه السلام : “وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ” (الشعراء:81). ليس المراد من الموت والحياة هنا هو الموت المادي أو الحياة المادية فقط، بل هذه إشارة إلى الموت والحياة التي يواجهها السالك من حيث المراتب ومنازل سلوكه، بحيث يموت نتيجة حبه الشخصي لخلق الله، ويُحيى بحبه الشخصي لخالقه سبحانه وتعالى، ثم يموت نتيجة حبه الشخصي لرفقائه ويُحيى بحبه الشخصي لرفيقه الأعلى، ثم يموت نتيجة حبه الشخصي لنفسه ويُحيى بحبه الشخصي لحبيبه الحقيقي. وهكذا يواجه أكثر من موت وأكثر من حياة، ويظل الحال على هذا المنوال إلى أن يصل إلى مرتبة الحياة الكاملة. فالحياة الكاملة التي تُنال بعد الانتقال من الدنيا السُفلية ليست حياة الجسد المادي، بل لها صبغة أخرى وشأن آخر، فقد قال تعالى: “وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (العنكبوت:64).
(22) الآية الثانية والعشرون “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النحل:43).
أيْ إذا كنتم لا تعلمون بعض الأمور التي تنشأ فيكم فارجعوا إلى أهل الكتاب واقرأوا الأحداث المذكورة في كتبهم حتى تنكشف عليكم الحقيقة. فحين عدنا بناء على ما تأمرنا به هذه الآية إلى كتب أهل الكتاب (أي اليهود والنصارى) لنعلم إذا كان فيها وعْد بمجيء نبي سابق، وهل سيأتي بنفسه، أو هل لعبارات من هذا القبيل معانٍ أخرى، علمنا أنه قد سبق أن حكَم المسيحُ ابن مريم عليه السلام بنفسه في قضية مماثلة للقضية المتنازع فيها، وهذا الحكم يتلاءم مع حُكمنا. انظروا سِفر الملوك، وسِفر النبي ملاخي، والإنجيلَ لتعلموا كيف بيّن المسيح عليه السلام عودة إيليا من السماء.
(23) الآية الثالثة والعشرون “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي” (الفجر:27-30).
يتبيّن من هذه الآية أيضا بجلاء أن الإنسان لا ينضم مطلقا إلى جماعة السابقين ما لم يمت. ولقد تبين من حديث المعراج الذي أورده الإمام البخاري في صحيحه مفصلا أن المسيح ابن مريم قد انضم إلى جماعة الأنبياء الذين ماتوا من قبل. فلا بد – بحسب دلالة هذا النص الصريحة – من التسليم بموت المسيح ابن مريم. آمنا بكتاب الله القرآن الكريم وكفرنا بكل ما يخالفه. أيها الناس اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء. قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور. فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.
(24) الآية الرابعة والعشرون “اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ” (الروم:40).
لقد بيّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة سنته المستمرة في أن حياة الإنسان تتسم بأربع مراحل فقط. فإنه يُخلق في المرحلة الأولى، ثم ينال رزقَه المقسوم الروحاني والمادي من أجل التكميل والتربية، ثم توافيه المنية، ثم يُحيى. والمعلوم أنه لا توجد في هذه الآيات كلمة تفيد استثناءً ليُخرَج المسيحُ عليه السلام بناء عليها من نطاق هذه الأحداث، مع أن القرآن الكريم يلتزم دائما من بدايته إلى نهايته بمبدأ أنه إذا كان هناك أحد جديرا بالاستثناء عند ذكر سلسلة أحداث معينة، فيستثنيه فورا أو يذكر أحداثا تخصه منفصلةً.
(25) الآية الخامسة والعشرون “كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ”.
المراد من ذلك أن كلّ ما هو موجود في الأرض أو يخرج منها، إنما هو في معرض الفناء؛ أي في حركة مستمرة إلى الفناء، ولا يخلو منها أحد. إنها الحركة نفسها التي تجعل الصغار شبابا، وتُحوِّل الشباب إلى شيوخ، وتدفع الشيوخ إلى القبور، ولا يخرج أحد من هذه السنة الإلهية. لقد استخدم الله تعالى كلمة “فَانٍ” في الآية المذكورة ولم يستخدم “يفنى”، ليُعلَم أن الفناء ليس بشيء سيحدث دفعة واحدة في المستقبل، بل إن سلسلة الفناء جارية باستمرار. ولكن المشايخ المعاصرين يظنون أن المسيح ابن مريم ما زال في السماء -دون أن يحدث فيه تغيّر أو تبدّل- بجسده القابل للفناء، والذي يعمل فيه الفناء عمله باستمرار بحسب النص الصريح، ولا يؤثر فيه الدهر أدنى تأثير، مع أن الله تعالى لم يستثنِ المسيح من كائنات الأرض في هذه الآية.
أيها المشايخ، أين توحيدكم وأين دعاويكم المعلنة بصوت عال لطاعة القرآن الكريم؟ هل منكم رجل في قلبه عظمة القرآن مثقال ذرة؟
(26) الآية السادسة والعشرون “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ” (القمر:54-55).
يتبين من هاتين الآيتين أن الله تعالى جعل دخول الجنة ومقعد صدق يستلزم بعضه بعضا، أيْ أن الوصول إلى الله تعالى ودخول الجنة منوط بعضه بالآخر. فإذا كان معنى “رَافِعُكَ إِلَيَّ” هو أن المسيح قد رُفع إلى السماء، فلا بد أنه قد دخل الجنة أيضا كما تدل عليه بصراحة تامة؛ الآية: “ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ” والتي تعطي معنى “رَافِعُكَ إِلَيَّ” نفسه. فيتبين من هنا أن مفهوم الرفع إلى الله، والانضمام إلى جماعة المقربين السابقين، والدخولُ إلى الجنة؛ يتحقق في آن معا. فهذه الآية أيضا تبرهن على موت المسيح. فالحمد لله الذي أحقَّ الحقَّ وأبطلَ الباطل ونصر عبده وأيد مأموره.
(27) الآية السابعة والعشرون “إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ” (الأنبياء:101-102).
المراد من هاتين الآيتين هما عُزير والمسيحُ عليهما السلام، ويتبين من الآيتين دخولهما الجنة، الأمر الذي يُثبت موتهما بكل وضوح.
(28) الآية الثامنة والعشرون “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ” (النساء:78).
هذه الآية أيضا تبرهن أن الموت ومستلزماته تصيب كل جسد مادي، فهذه هي سنة الله. وفي هذا المقام أيضا لا توجد عبارة أو كلمة تفيد الاستثناء أو تترك المسيح خارج هذه السنة. فإن إشارة النص هذه أيضا تدل على موت المسيح ابن مريم. إن إدراك الموتِ الإنسانَ يعني تأثير الدهر فيه بما فيه الضعف والتقدم في السن والأمراض والآفات التي تجره إلى الموت ولا تخلو منها نفس منفوسة.
(29) الآية التاسعة والعشرون “مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا” (الحشر:7).
أي ما أعطاكم الرسول من العلم والمعرفة فخذوه واتركوا ما نهاكم عنه. والآن نتوجه إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد. فأَصغوا أولا إلى حديث ورد في المشكاة برواية أبي هريرة رضي الله عنه وهو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذلِكَ” رواه الترمذي وابن ماجه. من المعلوم أن المسيح ابن مريم أيضا صار أحد أفراد الأمة، فكيف يمكن إذن أن يكون هناك هذا الفرق الهائل في الأعمار؛ إذ يصل بقية أفراد الأمة إلى الستين بالكاد، أما المسيح فقد مضت عليه نحو ألفَي سنة ومع ذلك لا يكاد يموت، بل يقال إنه سيعود إلى الدنيا ويمكث فيها أربعين عاما أو خمسة وأربعين؟! ثم هناك رواية أخرى في صحيح مسلم برواية عن جابر رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: “تَسْأَلُونِي عَنِ السّاعَةِ؟ وَإِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ. وَأُقْسِمُ بِاللهِ مَا عَلَىَ الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَة، وَهِيَ حَيّةٌ”. معنى الحديث أنه ما من مخلوق من المخلوقات الأرضية يبقى على قيد الحياة بعد مئة سنة من الآن. والسبب في ذكر الأرض بوجه خاص هو لكَي يُستَثنَى المخلوق السماوي من هذا الكلام. والمعلوم أن المسيح ابن مريم ليس من المخلوقات السماوية، بل هو من المخلوقات الأرضية، ويدخل في قائمة “مَا عَلَىَ الأَرْضِ”. وليس معنى الحديث أنه لو بقيت نفس منفوسة على الأرض لماتت، ولكن إذا صعدت إلى السماء فلن تموت، لأن صعود الجسد المادي إلى السماء في حد ذاته محال بحسب نص القرآن الكريم، بل معنى الحديث أن الذي وُلد على الأرض لن يعيش أكثر من مئة سنة.
(30) الآية الثلاثون “أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا” (الإسراء:93).
فالواضح من هذه الآية أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء آيةً، وتلقّوا جوابا قاطعا أنه ليس من سنة الله أن يرفع جسدا ماديا إلى السماء. ولو سلّمنا بصعود ابن مريم إلى السماء، لكان هذا الجواب مدعاة لاعتراض شديد، ولاستلزم تناقضا واختلافا في كلام الله. فالأمر القاطع واليقيني هو أن المسيح عليه السلام لم يصعد إلى السماء بجسده المادي، بل رُفع إليها بعد الممات. هنا أسأل هؤلاء القوم: هل رُفع يحيى وآدم وإدريس وإبراهيم ويوسف عليهم السلام وغيرهم إلى السماء بعد موتهم أم لا؟ وإن لم يُرفَعوا فكيف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في السماء ليلة المعراج؟ وإذا كانوا قد رُفِعوا فلماذا إذًا تستنبطون من رفع المسيح ابن مريم معنى آخر بغير حق؟ واللافت في الموضوع أن كلمة “التوفِّي” التي تدل على الموت بصراحة متناهية، قد وردت بحق المسيح بكثرة، وأن مثال الرفع أيضا بيّن بالبداهة؛ لأنه انضم إلى هؤلاء الأموات الذين رُفعوا قبله.
وإذا قلتم بأن الأنبياء السابقين لم يُرفَعوا، قلتُ: كيف وصلوا إلى السماء إذًا؟ لا شك أنهم كانوا قد رُفعوا، لذا وُجدوا في السماء. ألا تقرأون ما في القرآن الكريم آية: “وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا” (مريم:57). أليس هذا الرفع نفسه الذي ورد بحق المسيح؟ أليس هذا الرفع أيضا بمعنى نفسه؟ فأنّى تُصرَفون؟
( المصدر: كتاب إزالة الأوهام، تأليف الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني )