نصيحة للجماعة
قال الإمام المهدي والميح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام :
إنما الهدف من الزيارة أن يفكر المرء شيئا في أمر الدين، ولقد قلت لكم مرارًا وتكرارًا إن عامة المسلمين يشاركون الجماعة في الاسم الظاهري، فأنتم مسلمون وهم أيضًا يُدعون مسلمين، أنتم تنطقون بالشهادتين وهم أيضًا كذلك، أنتم تدَّعون اتباع القرآن الكريم وهم أيضًا يدعون أنهم يتبعون القرآن الكريم نفسه. باختصار، أنتم وهم سواء في الدعاوى لكن الله سبحانه وتعالى لا يرضى بالدعاوى فقط ما لم تقترن بالواقع، وما لم يكن إثبات عملي وتغيُّر في الحالة إثباتا للدعوى. لذا أتلقى صدمة عنيفة بهذا الهمّ في أحيان كثيرة؛ ففي الظاهر يزداد عدد أبناء الجماعة كثيرا، فالناس يبايعون بكثرة إما بإرسال الرسائل أو بالحضور إلى هنا شخصيا، وفي بريد اليوم أيضًا وصلت قائمة طويلة للمبايعين. لكن يجب الاطلاع الكامل على حقيقة البيعة، والتمسك بها، إنما حقيقة البيعة أن يُحدث المبايع في نفسه تغيرا صادقا ويولد خشية الله، ويُظهر في حياته نموذجا طيبا بمعرفة الغاية المتوخاة من البيعة، وإن لم يحدث ذلك فلا فائدة من البيعة، بل ستتسبب هذه البيعة في عذابه أكثر لأن المعصية عن عمد وبعد تفكير بعد عقد العهد خطير جدا.
إنني أعلم يقينا أن إدخال هذه الأمور في قلب أحد ليس عملي، ولا أملك أي أداة أرسخ بها قولي في قلب أحد، لكن هذا الأمر لا يخصني وحدي بل كان هذا هو موقف جميع الأنبياء. فخطاب “إِنَّكَ لَا تَهدِي مَنْ أَحْبَبْتَ” (القصص:56)، موجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن غيره صلى الله عليه وسلم يمكن أن يهدي من أحبَّ؟ إن النصيحة والإبلاغ هي مهمتي، وواجبي. في ظاهر الأمر نلاحظ أن هذه الجماعة أحرزت تقدما ملموسا في الإخلاص والحب، وأنا شخصيا أحيانا أستغرب وأتعجب جدًّا بمشاهدة إخلاص الجماعة وحبهم وحماسهم الديني، وحتى الأعداء مذهولون. فالألوف من البشر قد أحرزوا تقدما في الحب والإخلاص، لكنهم بسبب العادات القديمة أو جراء الضعف البشري أحيانا، ينالون حظا كبيرا من الأمور المادية لدرجة أنهم يتغافلون عن الدين.
إنما أقصد أن تكونوا طاهرين وعفيفين لدرجية لا تقيموا عندها أي وزن للشئون المادية مقابل الدين، وأن تزيلوا أنواع الغفلة التي تتسبب في الابتعاد عن الله. سبحانه وتعالى فما لم يتحقق هذا الأمر ثمة خطر كبير، والأوضاع خطيرة جدًّا ولا تبعث على الطمأنينة أبدا. لأنه ما دامت ذرة من هذه الأمور موجودة فيُخشى من ذلك، وهناك خطر أن تتفاقم هذه الأمور، وتتسبب في حبط الأعمال. وما دامت لا تنشأ أي علاقة، لا تبعث الحالة على الطمأنينة.
تذكروا عهد إيثار الدين على الدنيا
ليس هناك موعد محدد للموت، فالإنسان دوما عرضة لهجمة الطاعون والهيضة والزلازل والأوبئة والقحط وشتى الأمراض، وحتى لو لم تكن هذه الآفات، يصيب الإنسانَ أحيانا البطشُ المفاجئ من الله، بحيث لا يقدر على شيء. إذن، بشأن الإقرار الذي أبرمتموه بأنكم ستؤثرون الدين على الدنيا، من الضروري والواجب أن تدرسوا هذا العهد كل حين وآن، وتقدموا نموذجا رائعا لحياتكم العملية بحسبه، فلا ضمان للحياة. انظروا كيف أنه في كل سنة يفارقنا كثير من الأصدقاء ويرحل كثير من الأعداء أيضًا. لقد أعطاني الله سبحانه وتعالى أخبارا مخيفة، وهو صادق القول، فهي تخيف أكثر، لأنها خطيرة جدا، فأنواع المخاوف تحيط بنا.
الطاعون هو الموت، فقد ورد في القاموس أن الطاعون هو الموت. ومن ذا الذي يعرف أن غضب الله يوشك أن يثور، أعاذنا الله منه. من المحتمل أن يكون شديدا لا يُطاق. فمن القاعدة كما قلت يوم أمس أيضًا أنه حين يزول العذاب أو الغضب الإلهي سواء أكان في صورة الهيضة أو الطاعون أو الوباء أو القحط يطمئنّ الناس وتظهر على وجوههم آثار الفرحة والسرور، ويظنون أن الوقت قد انصرف؛ فبذلك تقسو القلوب. أما أنتم فيجب أن تخشوه وتخافوه ذاكرين وعود الله المقبلة وتتداركوا أنفسكم قبل الأوان. توبوا كل يوم توبة جديدة، فالذي يتوب يتوجه إلى الصلاح، أما الذي لا يتوب فهو يذهب إلى الإثم. قد ورد في الحديث أن الله يحب العبد التواب، والذي لا يتوب يركن إلى الذنب، والذنب يؤدي تدريجا إلى الكفر. فمن واجبكم أن تخلقوا علامة فارقة بينكم وبين غيركم، فإذا وجد الله سبحانه وتعالى فرقا بينكم وبين غيركم فعندها سينصركم، وإلا فانظروا إلى بني إسرائيل كيف أنهم حين لم يبق بينهم وبين غيرهم أي فرق واجهوا هزيمة نكراء على أيدي الأعداء صاغرين مهانين، مع أن موسى عليه السلام كان موجودا فيهم، إذ أيد كافرا مقابلهم وعاقبهم. فكان النبي موجودا فيهم، والكتاب موجودا، والأحكام موجودة، ومع ذلك تصرفوا تصرفا معاديا، فواجهوا الهزيمة أخيرا من الأعداء. إن الكفار يجهلون أحكام الله فلا يجدرون بالمؤاخذة كما يستحقها المرء بعد الإيمان، ومرتكبُ المخالفة عن عمد ومعرفة.
أهمية التقوى
يقول الله تعالى: “إِنَّ اَلله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحسِنُونَ” (النحل:128)، إن الذين يتحلون بالتقوى والطهارة والطيبة، فإن الله يحميهم، ويخافون ويحذرون المعصية كل حين وآن. إن مبدأ أهل الدنيا في العصر الراهن هو العيش بالنفاق، فالإنسان في أول الأمر يعامل الإنسانَ بالنفاق، حيث يؤيده في الظاهر بالنفاق،
مع أن قلبه عامر بالكدروة والحقد والبغض. ثم تتطور هذه العادة تدريجا فيريد أن ينشئ العلاقة بالله أيضا بالنفاق ويحاول أن يخادعه، مع علمه أن الله عليم بذات الصدور. فهو لا يؤمن بالقلب، ويريد أن يتظاهر عند الله أنه مؤمن، فهل يمكن أن ينخدع الله من أحد؟ كلا.
اعلموا أن التقوى شيء إذا تحلى بها الإنسان فمن أجل ذلك الإنسان المتقي يرحم الله الآخرين أيضًا. والتقوى تؤثر في أهله وأعزائه وأقاربه، ومعارفه، وبالمثل حين يرتكب الجرائم والفسق والفجور فهي الأخرى تؤثِّر.
باختصار، إن خشية الله والاتقاء أمر عظيم، فبسببها يعصم الله الإنسان من آلاف الآفات. لا أحد يستطيع القول إنه لن تصيبه أي آفة، إلا أن تشمله رحمة الله، فلا يطمئننَّ أحد. فالآفات تحل بغتة، فمن ذا الذي يعرف ماذا سيحدث ليلا؟
النصيحة بالاستغفار
لقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم قام وبكى كثيرا، ثم خاطب الناس وقال: يا عباد الله اتقوا الله. فالآفات والبلايا تلتصق بالمرء كالنمل، فلا سبيل للتخلص منها سوى الانصراف إلى الاستغفار والتوبة بصدق القلب.
فلا يعني الاستغفار والتوبة ما فهم منه الناس في العصر الراهن، فلا فائدة من ترديد “أستغفر الله، أستغفر الله” دون فهْم معناها. فجملة أستغفر الله عربية، فلما كانت لغتهم الأم عربية، كانوا يدركون جيدا ما معنى الاستغفار.
إنما يعني الاستغفار أن يطلب المرء من الله الحماية من عقوبة الجرائم السابقة والمعاصي، وأن يسأل الله العصمة من ارتكاب الذنوب في المستقبل. كان الأنبياء أيضًا يستغفرون والعامة أيضًا.
اعترض بعض القساوسة الأغبياء على استغفار النبي صلى الله عليه وسلم وكتبوا أن استغفاره يُثبت أنه كان مذنبا، لكن هؤلاء السفهاء لا يعرفون أن الاستغفار خصلة سامية، فقد خُلق الإنسان ضعيفا، والضعف من فطرته. والأنبياء يعرفون جيدا هذا الضعف الفطري والبشري، لذا يدعون الله قائلين: ربنا احفظنا من ظهور الضعف البشري. فالغفر الستر، فالأصل أن القدرة التي يتمتع بها الله سبحانه وتعالى لا يتمتع بها أي نبي أو ولي أو رسول، فلا أحد يستطيع الادعاء أنه قادر على اجتناب الذنب بقوته، فالأنبياء أيضًا محتاجون إلى الله لحمايتهم، فلإظهار العبودية كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا يسأل الله حمايته كالأنبياء الآخرين.
ففكرة هؤلاء باطلة أن عيسى عليه السلام لم يكن يستغفر، فهذا من سفههم وعدم فهمهم، وهو اتهام لعيسى عليه السلام. إذ بالتدبر في الإنجيل يتبين جليا أنه اعترف كثيرا بضعفه واستغفر. فما معنى صراخه “إيلي، إيلي، لما شبقتني”؟ فلمَ لم يقل: أبي، أبي. ف. “إيل” في اللغة العبرية تعني إله، وإنما تعني هذه الجملة: ارحمني يا رب، وأنزل علي فضلك، ولا تخذلني (أي احفظني).
إنما المشكلة في الحقيقة أن الناس في الهند قد أضاعوا الهدف المنشود من الاستغفار بسبب اختلاف اللغة، حيث حسبوا هذه الأدعية تراتيل سحرية، سواء أكانت الصلاة أم الاستغفار والتوبة. إذا نصحنا أحدا بالاستغفار فإنما جوابه أنه يستغفر مئة أو مئتي مرة في اليوم، فإذا سألتموه ما معناه، فستجدونه يجهله تماما. فالاستغفار كلمة عربية، ومعناها طلب المغفرة قائلا: يا إلهنا، نعوذ بك من شر ما ارتكبنا من الذنوب في الماضي لأن الذنب سمٌّ، ومفعوله أيضًا حتمي. واحفظنا منها في المستقبل بحيث لا يصدر منا الذنب. أما الترديد باللسان فقط، فلا يحقق الهدف.
التوبة
معنى التوبة أن يتخلى المرء عن السيئة ندما، فالتوبة ليست عملا سيئا، بل قد ورد أن التواب محبب إلى الله كثيرا، والتواب من أسماء الله أيضًا، ومعناه أن الإنسان حين يندم على ذنوبه وأفعاله السيئة، ويتعهد باجتنابها في المستقبل، فإن الله أيضًا يتوب عليه برحمة. فالله سبحانه وتعالى يتوب على الإنسان أكثر مما يتوب إليه الإنسان. فقد ورد في الحديث الشريف أن الإنسان حين يتقدم إلى الله شبرا يتقدم الله إليه باعا،
وحين يأتيه الإنسان مشيا يأتيه الله هرولة. أي إذا توجه الإنسان إلى الله، فإن الله هو الآخر يُنزل عليه رحمة وفضلا ومغفرة دون حساب، أما إذا قعد الإنسان مُعرضا عن الله فلا يعبأ الله به.
انظروا! هذه هي سبل الفوز بفيوض الله؛ الأبواب الآن مفتوحة، لذا يتسرب ضوء الشمس إلى الداخل بانتظام وينفعنا، أما إذا أغلقنا الأبواب كلها الآن فمن البديهي أن الضوء سينقطع، وسيحل الظلام بدلا من النور. ومثل ذلك تماما إذا أغلقنا أبواب القلوب فسيحل بها ظلام الذنوب والجرائم، وبذلك يبتعد الإنسان كثيرا عن رحمة الله وفضله وفيوضه. إذن يجب ألا ترددوا كلمات التوبة والاستغفار كتراتيل سحرية، بل استغفروا الله سبحانه وتعالى واضعين معانيها ومفاهيمها في الحسبان وادعوا الله بعطش صادق وبحرقة. في التوبة يتعهد الإنسان عهدا خفيا أني كنت أرتكب ذنبا معينا فلن أرتكبه الآن. والحق أن الله يستر الإنسان لأنه ستّار، فقد جعل ستُر الله الكثيرين صالحين وإلا إذا لم يسترهم الله لتبين كم من الأوساخ والخبائث تكمن في الإنسان.
كمال ايمان الإنسان
إن كمال إيمان الإنسان أيضًا ينحصر في تخلُّقه بأخلاق الله، أي يجب أن يقلد جهد المستطيع جميع الصفات التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، ويسعى ليتصبغ بصبغة الله؛ فمثلا إن الله عفوّ، فكما أنه سبحانه وتعالى يتصف بالرُّحْم والِحلْم والكرم، فعلى الإنسان أيضًا أن يعفو ويرحم ويحلُم ويكرم. وكما أن الله ستار، على الإنسان أيضًا أن ينال نصيبا من الستر ويستر عيوب إخوته ومعاصيهم. فمن عادة البعض أنهم إذا اطلعوا على سيئة أحد وعيبه فلا يهدأ لهم البال ما لم يشيعوها جيدا، فقد ورد في الحديث أن مَن ستر عيوب أخيه ستر الله عيوبه. على الإنسان ألا يتجاسر، ولا يرتكب الفواحش، ولا يتعامل مع الخلق بسوء، بل ينبغي أن يعاملهم بحب وبرّ.
لا تبغضوا أحدا بسبب أهوائكم النفسانية
على الإنسان ألا يبغض أحدا بدافع الأهواء النفسانية، بل يجب أن يبدي القسوة والرفق بحسب المحل، وإذا اضطر لقسوة في موضع فليفعل كما يفعل أي مأمور أو نائب استجابة للأوامر، فالأنبياء أيضًا مارسوا القسوة أحيانا، لكن ليس ثورةً للنفس بل استجابة لأمر الله فقط، وبهدف الإصلاح.
لقد قرأت حكاية في كتاب أن عليا رضي الله عنه كان يقاتل أحد الكفار في حرب، فهرب الكافر مغلوبا، فلاحقه علي رضي الله عنه وألقى عليه القبض، وصارعه وطرحه على الأرض، فلما جلس على صدره حاملا الخنجر بنية القتل بصق الكافر في وجهه، فنهض علي رضي الله عنه عن صدره فورا وانصرف عنه، فتعجب الكافر من هذه المعاملة وسأله السبب باستغراب، فقال له علي كرم الله وجهه: الحق أننا نقاتلكم بأمر من الله فقط، وليس لأي هدف مادي ونفساني، بل نحن نحبكم، فكنت قد تمكنت منك لله فلما بصقتَ في وجهي غضبتُ لنفسي لكوني بشرا، فخفت أني لو قتلتك حينها أن يكون انتصارا لنفسي، فيضيع كلُّ ما عملتُ ، وخشيت أن تحبط أعمالي الصالحة التي أنجزتها ابتغاء مرضاة الله فقط. فحين شاهد ذلك الكافر هذه المعاملة، أيقن بأن مراعاة هؤلاء لدقائق التقوى لا تدع مجالا للاعتقاد بأن دين هؤلاء باطل، فأسلم.
باختصار، على هذا النحو تكون حروب جماعتي أيضًا، يجب ألا تشوبها ثورة النفس. انظروا أنني إذا لم أكن كافرا ودجالا في نظر الله فلا يضرني وصفُ أحد بالكفر والدجل، أما إذا لم أكن مقبولا عند الله في الحقيقة بل مردود، فلا أستطيع اجتناب بطش الله بوصف أحدهم إياي صالحا وبارًّا.
اغزوا القلوب
تذكروا أن الرفق خصلة رائعة، فلا يستقيم الأمر بدون الرفق، والفتح لا يتحقق بالحرب. إذا ألحقتم الضرر بأحد في الحرب، فماذا أنجزتم؟ بل يجب أن تغزوا القلوب، والقلوب لا تُغزى بالقتال وإنما بالأخلاق الفاضلة. إذا صبر الإنسان على أذى الأعداء في سبيل الله، فيأتي أخيرا يوم تتولد فيه فكرة في قلوب الأعداء، وتؤثِّر. فحين يلاحظ العدو بركات الله وفيوضه ونصرته، وأن هذا المرء يعامل بالأخلاق الفاضلة، تنشأ في قلبه تلقائيا فكرة أنه لو كان هذا الرجل كاذبا ومفتريا على الله، لما نال هذا التأييد والنصر من الله قط.
إن هؤلاء لم يسبّونا نحن فقط بل هكذا عومل جميع الأنبياء، فقد أُطلق على النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا لقب الكذاب والساحر والمجنون والمفتري وغير ذلك من الألقاب.
ولو قرأتم الإنجيل لعرفتم أن عيسى عليه السلام أيضًا تلقَّى المعاملة نفسها، كما أُطلقت الشتائم على موسى عليه السلام أيضًا، فالحق أنه “تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ” يقول الله سبحانه وتعالى نفسُه “يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ” (يس:30).
فلم يأت أي نبي لقي الإكرام فورا، فكيف يمكن أن نخرج من سنة الله؟ فالأمر كان بسيطا وسهلا، لكن هؤلاء المكارين قد عقّدوه كثيرا. فهل من الصدق أني أسب الأنبياء؟ كلا بل بُعثت لإعلاء كلمة الله وأنا أنشغل في ذلك. اقرأوا كُتبنا! الله أعلم بأن كل ذرة فينا فداءٌ وقربانٌ في سبيل الله.
حقيقة الدعوى بالنبوة
أما إعلاني بأني نبي، فالنزاع فيه لفظي فقط، فهؤلاء أنفسهم يؤمنون بالمكالمة والمخاطبة، وإن الله بتعبير آخر قد سمى هذه المكالمة والمخاطبة نفسها بالنبوة، وإلا قد أعلنت مرارًا وتكرارًا أنّي لا أدعي النبوة التشريعية. أرى أن الذي يدعي النبوة إعراضا عن القرآن والنبِّي صلى الله عليه وسلم يستحق القتل، وأعدّه لعينا. أي الذي يدعي النبوة التي تنسخ نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فأراه ملعونا ومستحقا للقتل. إن أفضال الله النازلة علي إنما هي بفيوض النبي صلى الله عليه وسلم، أقول صدقا وحقا إني لا شيء بعيدا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل أدنى من تراب. إن عزة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته، التي قد رسخت في قلبي وكل عِرْق لي وكل ذرة من جسمي، يجهلونها. ومهما قام أحدهم برياضات شاقة وجهود مضنية حتى يصير كهيكل عظمي، لا يمكنه أن ينال أي فيض روحاني وصادق دون اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مستحيل. فما دام هذا هو حالي وإيماني فما قيمة قولهم بحقي: كافر ودجال؟
وردَنا قبل بضعة أيام فتوى جديدة منشورة ذُكِرتُ فيها بأنواع الأسماء، لكنني أعلم أن هذه الأمور لا تضرني مطلقا إذا كنت مقبولا في نظر الله، فالذين يكفِّرونني هم أنفسهم لم يَسلموا من فتاوى الكفر بل كفرهم في ضوء تلك الفتاوى أشد؛ فقد ورد بحقهم أنه إذا دخل أحدهم مسجدا فلا يتطهر ذلك المسجد بمجرد الغسل، بل يجب أن تُبدل الأرضية والبلاط، أما أنا فلم يرد ذلك بحقي.
الغريب أن كل من خلا من أهل الله لم يسلم من التكفير، فكم كانوا مقدسين وأصحاب بركات، فقد أفتى بكفر السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله قرابة مئتي شيخ معاصر له، وكما ألَّف ضده ابن الجوزي الذي كان محدِّثا في عصره كتابا خطيرا سماه “تلبيس إبليس.” وسمعت أن الفتوى بكفر الشاه ولي الله أيضًا قد صدرت. فمبارك هذا الكفر الذي كان دوما من نصيب الأولياء وعباد الله المقدسين.
كونوا متواضعين
إنما أقول الآن اتقوا الله دوما، وحذار أن يكون تكفيرهم لنا في محله، إذا كان الإنسان في نظر الله أيضًا محل غضبه وعذابه فيتحقق قول العدو أيضًا. يجب اجتناب التباهي المحض والاستكبار والخيلاء بغير حق، وينبغي التحلي بالتواضع والانكسار. انظروا إن القرآن الكريم سجل نموذجَ تواضع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في الحقيقة أعظم وأجدر بالشرف والمكرمة. فقد ورد أن أعمى كان يأتيه ليتعلم منه القرآن الشريف، وذات يوم جاء عنده صلى الله عليه وسلم أشراف مكة وزعماؤها، فانشغل في الحديث معهم وتأخر قليلا عن الأعمى الذي ما كان منه إلا أن انصرف. ورغم أن الأمر كان بسيطا، قد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة بذلك، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجاء به، وفرش له ردائه المبارك ليجلس عليه.
الحقيقة أن الذين في قلوبهم عظمة الله لا يجدون بدًّا من التواضع والانكسار، لأنهم يخافون استغناء الله دوما، ويرتجفون من خشيته.
أكثرهم معرفة أكثرهم خشية.
ذلك لأن الله سبحانه وتعالى إذا كان يكرم على أمر ما فهو يعاقب أيضًا على أمر، وإذا غضب على تصرف فيحبط الأعمال في لحظة، لذا يجب أن تتدبروا في هذه الأمور واحفظوها واعملوا بها.
( المصدر: جريدة الحَكَم؛ ، بتاريخ 1908/5/18).