أدلة وفاة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام
سأل خليفة رجب الدين المحترم: يا سيدي، بعض الناس يسألون عن أدلة وفاة المسيح. فألقى الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام الخطاب التالي ردًّا على هذا السؤال، فقال:
لقد ذكُرت وفاة عيسى عليه السلام في القرآن الكريم بكثرة، فوفاته ثابتة من نوعين من الآيات، بعض الآيات عامة وبعضها تخص عيسى عليه السلام وحده. فعن جميع الأنبياء عليهم السلام بمن فيهم عيسى عليه السلام أيضًا تصرح الآية: ” وَمَا مَُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ” (آل عمران:144) بوضوح أنهم ماتوا.
كلمة ” خَلَتْ” لم ترد في القرآن الكريم بحسب التعبير القرآني بحق الحي مطلقا، بل تطلَق دوما على الذين ماتوا، وهذا المعنى حصرا بينه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أيضًا. فعند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سلّ سيدنا عمر رضي الله عنه سيفا لحبه الجياش للنبي صلى الله عليه وسلم وأُلفته المفرطة له، وكان يتجول في الأزقة مستلا سيفه، ويعلن أن من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات فسوف أقطع عنقه. فلما علم بذلك سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء إلى المسجد وصعد المنبر وألقى خطابًا استهله بهذه الآية نفسها: “وَمَا مَُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ” ، فعند سماع هذه الآية بكى الصحابة وشعروا كأنها نزلت في ذلك اليوم، كما أن عمر رضي الله عنه الذي كان ثائرا، ويتجول حاملا السيف ظانًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت هو الآخر ألقى السيف بعد سماع تلك الخطبة، ولم يتكلم بعدها قط حول ذلك.
فالجلي البين أنه إذا كان أحد الصحابة يعتقد أن عيسى عليه السلام حيٌّ في السماء بجسمه المادي، فلماذا لم يعترض ولم يقل: لأي سبب ما زال نبُّي أمةٍ صغيرة حيًّا، ونبينا الذي بعثه الله للعالم كله وإلى يوم القيامة وإلى جميع الأمم بلا أي استثناء لم يعش حتى 70 سنة؟ فصمَتُ الصحابة وعدم إثارتهم أي اعتراض من أي نوع دليلٌ بيِّن على أن الصحابة كلهم كانوا يوقنون بأن عيسى عليه السلام قد مات كسائر الأنبياء. ولم يكن أيٌّ منهم يعتقد أنه جالس حيًّا على يمين الله بجسمه المادي، وهذا هو أول إجماع في الإسلام.
والآية الثانية التي تذكر وفاة عيسى عليه السلام بصفة خاصة هي قوله عليه السلام ردًّا على سؤال الله فيما إذا كان هو قد أمر قومه بأن يتخذوه وأمَّه إلهين من دون الله ويتركوا عبادة الإله الواحد. وهل هو الذي نشر هذا الفساد والضلال، فقال: “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ” (المائدة:117) فسوف يضع عيسى عليه السلام يديه على أذنيه ويقول معتذرا إلى الله أنه لا علم له بضلال النصارى، ويقول يا إلهي كنت مطلعا على أوضاعهم ما دمت وعشت فيهم، وإنما علمتهم أن يعبدوا الله الإله الواحد الذي هو ربي وربهم جميعا، فلما أمتَّني فكنت أنت وحدك شهيدا عليهم وعليما بأحوالهم.
فهذا القول لا يخلو من أمرين، فإما أن يُقر هؤلاء أن النصارى إلى الآن لم يَضلُّوا فعلا، وأن معتقداتهم من اتخاذ الولد لله والثالوث وغيره هو عين التوحيد ومُكسب رضوان الله سبحانه وتعالى وهو يوافق تعليمَ المسيح عليه السلام، الذي إقراره به بلسانه موجود في القرآن الكريم. وإما يُقروا بأن المسيح الناصري الذي كان قد بعث إلى خراف بني إسرائيل قد توفي بعد إنجاز مهمته بأمر من الله ومات موتا طبيعيا. وأنه لن يُبعث إلى هذا العالم مرة أخرى، بل القادم سيكون من الأمة المحمدية، ولكونه مشابها في الأوضاع وموعد البعثة ومهماته سُمِّي مسيحا.
فالواضح أن الأمر الأول يعارض الله ورسولَه والقرآن وتعليمه تماما، وبالتسليم به ينهدم بناء الإسلام كله فورا. والحالة الثانية هي حقيقة الأمر وتطابق مشيئة الله وهو مبدأ صادق لتعليم القرآن، وبها يَتحقق انتصار الإسلام وفوزُه وصدقه وجلاله. والآن لهم خيار في اتخاذ أي الطريقين أرادوا.
إنني أقول على بصيرة إن التوفي لا يعني في اللغة العربية، ولا في كلامِ الله ورسولِه، أبدا الرفعَ بالجسم المادي. يجب النظر إلى القرآن الكريم كله بنظرة شاملة. لقد أُنزل القرآن الكريم من الله العليم الخبير بكامل العلم والحكمة، وليس فيه أي اختلاف. بعض الآيات تفسِّر بعضها الأخرى، بعضها متشابهات وأخرى محكمات. فما دامت الكلمة نفسها وردت بحق الأنبياء الآخرين أيضًا، فلا تفسَّر بغير الموت، أما المسيح فلا نعرف لماذا يعطى ميزةً ؟ أفلم يتذوقوا إلى الآن طعم تمييز المسيح هذا؟
انظروا أنه قد وردت بحق النبي صلى الله عليه وسلم كلماتٌ صريحة: ” إمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” (يونس:46) ثم وردت كلمة “التوفي” نفسها في القرآن الكريم بحق سيدنا يوسف عليه السلام، ولا تعني غير الموت، وذلك في الآية “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلِْحقْنِي بِالصَّالِحِين” (يوسف:101) فهذا دعاء يوسف عليه السلام، فهل كان يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرفعه إلى السماء بجسمه المادي؟ ويُلحقه بالصالحين السابقين الموجودين أحياءَ في السماء؟ تعالى الله عما يصفون.
ثم إن السحَرة الذين دعاهم فرعون لمواجهة موسى عليه السلام قد وردت كلمة التوفي في حقهم أيضًا عندما قالوا: “رَبَّنَا أَفْرغِْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِيَن” (الَأعراف:126) الآن ليس من شأن أي مسلم أن يعارض الله وكلامَه. من المؤكد أن القرآن الكريم قد ذكر موت عيسى عليه السلام، وأثبت وفاته بأدلة وبراهين ساطعة، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ضمن الأنبياء الميتين. ومما يجدر بالتدبر أن عيسى عليه السلام إذا كان قد رُفع إلى السماء حيًّا بجسمه المادي، فما علاقته بالأنبياء المتوفَّين؟ فما علاقة الحي بالميت؟ كان يجب أن تكون له حجرة خاصة ” قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة:256).
فليس هناك أي خلل، ولم تبق أي شبهة أو شك. فهل من الحصافة أن يقدم المسلم أمرًا يعارض القرآن الكريم ويناقض الإسلام؟ فالذي يؤمن بإجماع على أمر يخالف إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فهو كذاب. كان مذهب الصوفية الكرام وبعض صلحاء أمة خير الأنام أن عيسى عليه السلام قد توفي وأن القادم هو من هذه الأمة حصرًا. لكن التعصب آفة لا تتركهم يبصرون وهم ينظرون ولا يفقهون وهم يعلمون، ولهم آذان لا يسمعون بها. من المؤسف أن التعصب والعناد لم يترك فيهم تمييز ما يضرهم مما ينفعهم. فأربعمائة مليون إنسان قد اتخذوا إنسانا ضعيفا عاجزا إلها بناء على هذه الأدلة نفسها، أي أنه أزلي وأبدي، وأنه حي في السماء وأنه خلق الطير، وأحيا الأموات. أما هؤلاء المسلمون فيبحثون عن حتفهم بظِلْفهم، ويسلِّمون للنصارى السكين بأيديهم ليقتلوهم. ويساعدونهم على الوثنية الخطيرة، التي بسببها قد أبدى الله غضبا فقال: ” تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرضُ وَتَِخرُّ الِْجبَالُ هَدًّا” (مريم:90).
فهؤلاء المسلمون بالاسم فقط لا يعرفون أن أقوالهم أنفسهم تُستغل لارتداد أولادهم عن الإسلام، ليتهم يستيقظون من رقاد الغفلة هذه، ويميزون العدو من الصديق، والخسارةَ من الربح. فهؤلاء الأصدقاء الحمقى للإسلام لا يفهمون أن الله سبحانه وتعالى غيور فيستأصل معتقداتهم الفاسدة من الجذور ولا يحتمل سماع مبادئهم الشركية لحظة. فالمتدبرون في القرآن الكريم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى قد استخدم وسائل قوية لشج رأس الباطل. انظروا كيف احتج النصارى بكون المسيح بلا أب على أنه إله، فكيف أخجلهم الله سبحانه وتعالى وفضحهم بتقديم مَثل آدم، وأبطل ادعاءهم فقال ” إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ” (آل عمران:59)، أي كان المسيح بلا أب، لكن آدم كان بلا أبوين فهو أجدر بأن يُتخذ إلها.
إذن تذكروا أن المسيح عليه السلام لو كان فعلا قد صعد إلى السماء حيا بجسمه المادي وكان الله قد صدَّق دليلهم هذا أيضًا، لأبطل حتما فكرتهم الباطلة هذه أيضًا بتقديم نظير، لكن الله قد فند فكرتهم هذه بالنفي وأجابهم أنه قد مات، وأنى له الصعود إلى السماء. تذكروا أنه لو كان الله سبحانه وتعالى هو الآخر يقصد في الحقيقة أن عيسى عليه السلام موجود في السماء حيا، لكان لزاما عليه أن يقدم نظيرا لإبطال هذا الدليل وقطع رأس غول الباطل هذا أيضا حتما، لكن يتبين من امتناع الله عن تقديم نظير وذكْرهِ وفاتَه بكثرة أنه قد مات حتما، وهو ليس حيا في السماء. فلم يسلِّم الله بدليلهم هذا أصلا، وإلا كان من الضروري أنه كما أدانهم وأقام عليهم الحجة بتقديم نظير، أن يقدم هنا أيضًا نظيرا لتحطيم وثن المسيحية، لكن الله لم يفعل ذلك، وإنما السبب أن الله قد دحض دليلهم هذا بذكر وفاة المسيح فقط، فالجواب الصحيح لحجتهم في الحقيقة أن القرآن الكريم لم يقصد قط أن عيسى عليه السلام قد رفع حيا إلى السماء، بل قد مات كسائر الأنبياء.
فمن الغريب القول إنه لما لم يُقتل فهذا يعني أنه صعد إلى السماء، فهل كل من لا يقتل يصعد حتما إلى السماء؟ إذن لن تجدوا بدا من الإيمان بأن الملايين قد صعدوا إلى السماء.
فكان النزاع الأصلي لليهود أن عيسى عليه السلام لم يرفع روحانيا، فكانوا يريدون أن يثبتوا أن المسيح عليه السلام لعين ومردود والعياذ بالله. ولذلك كانوا يصرون على أنهم قد صلبوا المسيح، وبذلك كانوا يدَّعون قتله، ليثبتوا بحسب كتابهم أنه كان نبيا كاذبا. فلم يكن هناك نزاع عن الرفع المادي، فلما كان القرآن الكريم هو الَحكم في الأمور المتنازع فيها مع بني إسرائيل، وهو قول فيصل فيها، فقد فند اعتراض اليهود وبهتانهم الذي ألصقوه بالمسيح ليثبتوا أنه ملعون وكذاب بقوله ” وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ الله” (النساء:157-158)، أي أن اليهود لم يتمكنوا من قتل المسيح كما يزعمون، وبذلك لم ينجحوا في محاولة إثباتهم أنه كان كاذبا في دعواه. بل قد رفعه الله روحانيا، ووقاه من هذه الذلة والإدبار. إذا كان الرفع الجسماني حصرا موجبَ النجاة والطهارة، وكونِ المرء مقبولا وحبيب الله، فيعد جميع الأنبياء كاذبين والعياذ بالله، ولا يبقى أي نبي حائزا على النجاة، ناهيك عن كونه مقبولا وحبيبا عند الله. نعوذ بالله من ذلك. إن التعصب تركهم لا يصلُحون لشيء.
( المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/8/14م)