ألقى الإمام المهدي والمسيح الموعود الخطبة التالية باللغة الفارسية عند زيارة الشهزاده محمد إبراهيم خان لحضرته فقال عليه السلام:
جزءان للصفات الحسنة والأخلاق الفاضلة
قد ازداد النفاق في العصر الراهن في العالم، فالمخلصون قليلون جدا، والإخلاص والحب شعبتان من الإيمان. جزاك الله على حبك وإخلاصك وقوَّاك. فالأخلاق الفاضلة أن يحسن المرء إلى الناس دون أي طمع في الجزاء أو المكافأة، فهي الإنسانية أيضًا. إن أسمى خصال الإنسان أن يحسن إلى من أساء إليه بدلا من ردّه بالمثل أو العفو عنه. فهذه صفة الأنبياء أو الذين يعيشون في صحبة الأنبياء. والأسوة الكاملة لهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. إن الله لا يضيع أبدا القلوب التي تواسي بني البشر.
للصفات الحسنة والأخلاق الفاضلة جزءان اثنان يتلخصان في تعليم القرآن الكريم الطيب ولبّه. أولا يجب على المرء أن يؤدي حقوق الله؛ أي أن يقوم بالعبادة ويجتنب الفسق والفجور وجميع المحرمات وأن ينشط في الاستجابة لأوامر الله. والثاني: ألا يتقاعس عن تأدية حقوق العباد وأن يحسن إلى بني البشر. فالذين لا يؤدون حقوق البشر لفي خطر شديد حتى لو كانوا نشيطين في تأدية حقوق الله. ذلك لأن الله سبحانه وتعالى ستّار وغفار ورحيم وحليم وعفوّ. فمن سنته أنه يعفو كثيرا، أما الإنسان فمن طبعه أنه قلما يعفو عن أحد. فإذا لم يغفر الإنسان ذنوبا صادرة من أحد في حقه، فالذي يكون قد قصر في تأدية حقوق العباد أو كان قد ظلَم، فمهما كان ساعيا ونشيطا في الامتثال لأوامر الله، وكان محافظًا على الصلاة والصيام وغيرها من الأحكام الشرعية، يُخشى أن تحبط أعماله جراء عدم مبالاته بحقوق العباد.
باختصار، إنما المؤمن الحقيقي من يؤدي حقوق الله وحقوق العباد كليهما بالالتزام والحذر. فالذي ينجز الأعمال مراعيا كلا النوعين من الحقوق فهو وحده يعمل بالقرآن الكريم كله، وإلا فإيمانه بنصف القرآن الكريم فقط. لكن الإنسان لا يقدر على إنجاز هذه الأعمال من كلا النوعين بقوة ساعده. فهو مقيد في سلاسل النفس الأمارة، فلا يقدر على فعل شيء ما لم يحالفه الفضل من الله وتوفيقُه. فعلى الإنسان أن يداوم على الدعاء، لكي يعطى القدرةَ من الله على فعْل البر، ويخلَّص من قيود النفس الأمارة التي هي عدوة لدودة للإنسان. فلو لم تكن النفس الأمارة لما كان هناك شيطانٌ، فهي عدو داخلي وثعبان في كمّه، والشيطان عدو خارجي. فمن القاعدة أن السارق حين ينقب البيت فلا بد له أن يتآمر بالتعاون مع عارف الأسرار من أفراد البيت، إذ لا يمكن أن يفعل العدو الخارجي شيئا دون التعاون من العدو الداخلي. فلذا يعدّ الشيطان عدوًا خارجيا، والنفس الأمارة عدوا داخليا. فهو ينقب إيمان الإنسان بالتآمر مع عارف أسرار البيت، ليسرق متاع الإيمان، ويدمر نور الإيمان. يقول الله :سبحانه وتعالى “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ” (يوسف:53)، أي هي حاكمة شريرة.
إن النجاة تتوقف على تزكية النفس
إن تزكية النفس مرحلة بالغة الصعوبة، والنجاة تتوقف على تزكية النفس، يقول الله :سبحانه وتعالى “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا” (الشمس:9)، وتزكية النفس لا تتحقق دون الفضل من الله، فهي سنة الله غير المتبدلة الذي قال: “وَلَنْ تَِجدَ لِسُنَّةِ اِلله تَبْدِيلًا” (الفتح:23)، وإنما القانون الأولي لجذب الفضل هو أن يقوم الإنسان باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هناك ألوفًا في العالم يدَّعون أنهم أيضًا ينطقون ب “لا إله إلا الله” وينجزون أعمالا حسنة، ويجتنبون السيئات. فهم يهدفون من هذا الادعاء أنهم ليسوا بحاجة إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن تذكروا أنه خطأ فادح، فهو أيضًا وسوسة يولدها الشيطان في قلوب الناس. فما دام الله سبحانه وتعالى هو نفسُه قد بيَّن في كلامه المقدس أن التزكية والفوز بحب الله مشروطان باتباع الرسول، فمن ذا الذي يستطيع الادعاء بأنه قادر على التزكية بقوة ساعده؟ فلا يمكن أن يتولد الإيمان الحقيقي المليء باليقين الحق والمعرفة الكاملة ما لم يتبع الإنسان الأنبياء اتباعا حقا بحب صادق. فالإيمان الذي يحرق الذنوب واليقين الذي يرى به الإنسانُ الله مستحيلان دون النبوءات العظيمة المحتوية على الغيب، والاقتدارية التي لا يقدر عليها الإنسان، ولا تخطر بباله. فقدر ما يستغرق العالم في الأعمال المادية بانهماك ويبذل الناس جهودا مضنية ومرهقة وخطيرة لتحقيق أهدافهم المادية، إذا خَطَوا بنفس الجهود وبذلوا نفس المساعي لله سبحانه وتعالى أيضًا والْتفتوا إلى النظام السماوي الذي أقامه الله في العصر الراهن لهذا الأمر، فنقول باليقين بأن الله قادر حتما على إظهار آيات الرحمة لهم. لكن الحقيقة أن الناس غافلون عن هذا الجانب، وإلا فأي مشكلة في إنجاز الأعمال الدينية؟ فليست الصلاة صعبة، فالماء موجود والأرض للسجود موجودة، وإذا كانت هناك حاجة، فإلى القلب الطاهر المطيع الذي يتمتع بحرقة صادقة لحب الله. انظروا أنه إذا جُمعت أوقات الصلوات كلها فقد تشكِّل ساعةً واحدة. فالناس يتغوطون أيضًا، فلو كان عندهم القدر والعناية نفسهما للصلاة فهم قادرون على أدائها. لكن الأسف أن الإسلام الآن في خطر شديد، والمسلمون محرومون من نور الإيمان في الحقيقة. معلوم أن الإنسان يقلق إذا أصيب بمرض خطير، أما هذا الجذام الروحاني الذي عاقِبتُه جهنم فلا أحد يخافه.
تعامل العالم مع المبعوثين
إن المجيء إلينا هو في الحقيقة الذهاب إلى الله، وإن إكرامنا في الحقيقة تكريم لكلام الله ورسوله، فقبل 26 عاما قد أمرني الله تعالى وبعثني إلى العالم مجددا لإصلاح مفاسد الزمن. ثم لا تنحصر دعواي في الإعلان باللسان فقط بل قد زوَّدني بآلاف الآيات القوية وأرسلني على منهاج النبوة، لكن الناس لم يهتموا بي بل على العكس كفَّروني، وسَّموني الأكفرَ ودجالا وكذابا. مع أن الله الذي بعثني قد أظهر لتصديقي الآيات أيضًا، ولم يكتفِ بآية أو آيتين فقط بل قد أنزل آلاف الآيات. من المعلوم في القضايا المادية في المحاكم أن المجرم يُدان ويعاقب بالموت أيضًا نتيجة شهادة شاهدَين أو ثلاثة شهود، أما هنا فآلاف الناس شاهدون على آياتَ هذه، فليس هناك مكان من الشرق إلى الغرب يخلو من الشهود على آياتنا، ومع ذلك لم يهتم هؤلاء.
عندما يأتَ موظف حكومي بسيط لاستلام الضرائب فلا أحد يقاومه، ومن قاومه عُدّ متمردا على الحكومة وعوقب. لكن الناس لا يهتمون بالحكومة الإلهية. فمن المؤكد أن الذين يأتون من الله فإنما يأتون في زي الفقراء والناس ينظرون إليهم باحتقار ويسخرون منهم، ويستهزئون بهم. لكن الله سبحانه وتعالى يقول: “يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ” (يس:30)، فالله سبحانه وتعالى صادق ولا يكذب، فهو يقول قد استهزئ بجميع الأنبياء من آدم إلى الأخير. لكنه حين ينقضي الوقت يكيل لهم الناس مدحا. فقد أفتى مئتا عالم تقريبا من علماء الوقت بكفر الشيخ عبد القادر الجيلاني أيضًا، وكذلك ابن الجوزي – الذي كان محدثا في زمنه قد ألَّف كتابا سماه تلبيس إبليس- استخدم بحقه كلمات مُرة وغير لائقة. لكنه بعد مرور مئتي عام على وفاته قد عُدَّ كاملا وصادقا وطاهرا ونال قبولا عظيما يعلمه العالَم. وهذا الأمر لا يخصه فقط بل قد واجه جميع الأولياء هذه المعاملة على مرِّ العصور.
باختصار، قد سماني جميع علماء البنجاب والهند- على هذا المنهاج نفسه-كافرا ودجالا وفاسقا وفاجرا وذكروني بغيرها من الألقاب. وقالوا إني والعياذ بالله أسُبُّ الأنبياء. مع أني أُكرم جميع الأنبياء، وإنما بُعثت لإظهار عظمتهم وصدقهم. فاعلموا أني إن لم أكن من الله وكنت كاذبا فقط، فلا أحد يستطيع أن يثبت صدق أي من الأنبياء. وإذا كان ذكرُ وفاة عيسى عليه السلام مسبَّة، فأول من أطلق هذه الشتيمة على عيسى عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى.
الحاجة إلى المصلح
أقصد أن السنة تستمر من الأزل أنه حين يتلاشى من القلوب الاهتمام بحق الله وحق العباد ويكون الظلم والاعتداء دأبَ الناس، ويتخذ الناس مئات الأصنام لهم إعراضا عن الخالق والمعبود الحقيقي وينسون تعليم الأنبياء، ففي هذه الأوضاع الخطيرة يصلح الله جميع هذه المفاسد بإقامة الجماعة الروحانية. فاليوم أيضًا إذا كان أحدهم يملك الفراسة فيمكن أن يرى كم صار وضْع الإسلام خطيرا ويستحق عنايةَ الله به، فالعصر يصرخ بلسان حاله بملء فيه أنه بحاجة إلى مصلح.
حالة الحكام المسلمين
إن أوضاع المسلمين تعيسة جدا. فعامة المسلمين لا يعتد بهم، أما الذين يسمَّون الملوك وخلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين فحالتهم أنهم رغم كونهم ملوكا، لا يتحملون أن يُظهر أحدٌ الحق بحرية وجرأة في حكومتهم. فلا أحد يستطيع أن يكتب بضعة أسطر ضد المسيحية في سلطنة السلطان التركي، فلعله يخاف أن تسخط منه جميع الحكومات المسيحية فيُغصَب منه الُحكم. لكنه لا يهتم بالملكوت الإلهي أيما اهتمام ولا يثق بقدرة الله مطلقا. صحيح أن المروءة جيدة لحد ما، لكن إذا كان يُخشى فواتُ الإيمان فلا تجدر هذه الأمور بالالتفات إليها. إن خبرتي تفيد أن الحكومة البريطانية لا تتدخل في الدين مطلقا. فانظروا كم من مؤلفات كتبناها ضد النصارى وبأي قوة دحضنا معتقداتهم الباطلة، إلا أنه من الخصال الحميدة جدًّا للحكومة أنها لم تبد أي عتاب على ذلك. فالسبب الحقيقي هو ضعف المسلمين الشخصي، أما الحكومة فلا تتدخل مطلقا في الشئون الدينية. أمعنوا النظر في قضيتنا الحالية على الأقل، فبأي أمانة وإنصاف حُكم فيه. كانت مذكرة الاعتقال قد صدرت من أمرتسر بكفالة 40000 روبية، لكن قدر الله شاء أن تبقى في الملف، ولاحقا تبين للحاكم أن ذلك لم يكن من صلاحيته. فالتصرف الإلهي الذي يَظهر دومًا في أشكال مختلفة لصالح مبعوثيه، قد أعانني حتى في ذلك الوقت العصيب أيضا. فاستُبدلت القضية وحُولت فورًا إلى محكمة نائب المفوض لمحافظة غورداسبور، الذي لم يُصدر مذكرة اعتقال، وإنما دعاني وظل يعاملني بمنتهى الأدب والاحترام.
إنما أستهدف من هذا الإظهار البيانَ بأن الشئون الدينية لا تؤثر في الحكومة البريطانية سواء كانت معارِضة أو موافقة، بل هي تتخذ القرار بمقتضى الإنصاف والأمانة. وثانيا، أن علاقة المرء بالله شيء يطمئنه في كل مشكلة ويخلِّصه من كل مصيبة.
فالذي يكون لله سبحانه وتعالى فإن الله يراعيه في كل ميدان. فالذين يستغرقون في خواطر الدنيا والتفكر بها فقط ولا يكون لديهم نصيب لله، لا يستحقون أن يسمَّوا مؤمنين. إنما المؤمن من لا يترك الله حتى لو أشرف على الهلاك. فمن علامة الإيمان أن يوقن المرء إلى الأخير بأن كل شيء بيد الله ولا ييأس.
إن غفلة المرء عن الله رغم تسمِّيه ملكًا وخليفة المسلمين وأمير المؤمنين ليست جيدة. فخوف المخلوق لدرجة وكأنه لا يعدُّ الله قادرًا نوعٌ من الضعف الشديد. الناس يقولون إنه خادم الحرمين، لكننا نقول إن الحرمين يحميانه، فهو إلى الآن محفوظ ببركة الحرمين. فالحرية الدينية التي نتمتع بها في هذا البلد لا يتمتع بها المسلمون أنفسهم في البلاد الإسلامية. فانظروا بأي حرية نعمل وكيف تؤثر مؤلفاتُنا في البلد. في الماضي كان القساوسة يأتون إلى قاديان دوما حيث كانوا ينصبون الخيم خارج قاديان، وكانوا يبشرون بالمسيحية متجولين في قاديان. لكن منذ 15 عامًا لا يُرى في قاديان وجه أي قس. كانوا دومًا يدعون المسلمين بإصرار للمناظرة ويقولون لهم: لم تصدر أي معجزة من النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله. كانوا دوما يدعون إلى المناظرة تحت عنوان “النبي الحي” أما الآن فندعوهم ونَعرض عليهم الجائزة ولكن لا أحد يتوجه إلى هنا، فكأن الأسلوب قد تبدل. نحن مستعدون كل حين وآن لإتمام الحجة بأي طريقة ممكنة.
الهجمات الخارجية على الإسلام
لعلكم تتذكرون زمنا كانوا يقولون فيه أنه لم ترِدْ في القرآن أي معجزة، وأن نبوءة ” غُلِبَتِ الرُّومُ” (الروم:2)، أيضًا كانت توقعا، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تكهَّن، والعياذ بالله، نظرا للأوضاع ومقارنة القوتين، وإلى هذا كان قد آل المآل.
ثم هناك وصمة شنيعة يلصقونها دوما بوجه الإسلام النير المقدس أن الإسلام قد انتشر بحد السيف.
باختصار، كانوا قد أثاروا ضجة لأنواع الاتهامات والاعتراضات الباطلة، وأكثروا منها لدرجة أنْ لو جُمعت كتبهم وكتيباتهم التي ألَّفوها ضد الإسلام خلال نصف قرن ماض، لشكَّلت في رأيي جبلا. المطلعون يعرفون أنه لم تُشَن الهجمات بهذه الكثرة على أي نبي قط، ولم تُستخدم الكلمات البذيئة لهذه الدرجة ضد أي نبي قط، ولم تُطلق الشتائم على أحد منذ خلق العالم، وما أسيء إلى نبي قط مثل هذه الإساءة.
إذا رأيتم الآريين فستجدون كتبهم تفيض بالخبث والقذارة لدرجة أنْ لا يقدر أي مسلم غيور على قراءة سطر واحد منها. ولا سيما لو قرأتَ كتب ليكهرام.
أعداء الإسلام الداخليون
باختصار، هذا هو حال الأعداء الخارجيين، وحال أهل البيت أسوأ منهم، حيث إن الأعداء الداخليين في زيِّ الأصدقاء أي المسلمون يتسببون في الخسارة والضرر أكثر. فإن العلماء والمشايخ الذين كانوا يعَدّون أعمدة الدين وسبب النجاة -وكانوا أحقَّ بأن يؤيدوا هذه الجماعة لكونهم أعمدة الدين ومطلعين على علوم القرآن والحديث- قد صاروا على عكس ذلك أعداء يتمنون القضاء عليها، وانصرفوا إلى السعي لإطفاء هذا النور الإلهي بنسج المكايد المختلفة. وإن أوضاعهم العلمية يرثى لها لدرجة عالية، وكأن الحافظ الشيرازي قد قال فيهم حصرا ما تعريبه:
“يتجلى الوعّاظ على المنبر والمحراب ويلقون الوعظ، لكنهم حين ينصرفون إلى الخلوة تصدر منهم أعمال أخرى.”
وبعدهم الدرجة الثانية التي تضم الزعماء فحالهم أظهر من الشمس، إذ لا علاقة لهم بالدين مطلقا، وليس لهم وقت فراغ من الترف ورغد العيش، وإذا كان عندهم وقت فراغ فيقضونه في لعب الشطرنج.
وإذا نظرتَ إلى أعضاء الطبقة الثالثة التي تضم العامة، فالإنسان يتعاطف مع الإسلام أكثر نظرا لفقره ووضعه الحرج جدا، فالسجون عامرة بالمسلمين، في الخمّارات يَفسد المسلمون، والمومسات والداعرون هم من المسلمين. باختصار، إذا نظرتَ بإمعان إلى أي مجلس للفسق والفجور والمعاصي والذنوب فستجدون المسلمين متفوقين. فإدلاء شهادة الزور أيضًا ميزة المسلمين، وهي مهنة المشايخ المزعومين خاصة، ومع ذلك يصدرون فتاوى كُفْرنا، ويلصقون بنا أنواع التهم.
إنني أريد وأتمنى وأشتاق إلى أن تبحث جماعة من المسلمين في التُّهم التي تلصق بنا وتتأكد هل هي صادقة؟ فهل من الصحيح أنَّا قد هجرنا القرآنَ والرسول، واتخذنا دينا جديدا والعياذ بالله؟ فهل من الصدق أنّا نسبُّ الأنبياء؟
مقارنة الدعوة الخطية والشفهية
قال الشهزاده المحترم للإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام: إذا تجولتم في شتى مدن البنجاب والهند وألقيتم الوعظ ونشرتم الدعوة فستكون الفائدة أكثر من الإقامة في قاديان دومًا.
فقال حضرته عليه السلام :
الواضح أن وسائل نشر الدعوة مختلفة في كل زمن وبحسب كل طبع، إن الحرية في هذا العصر جيدة من ناحية لكنها مشوبة ببعض النقائص أيضًا. أسلوب التبليغ الذي اقترحتموه قد جربتُه سلفا، وقد سافرتُ إلى بعض الأماكن بهذا الهدف، لكنني توصلت بالتجرية إلى أن الغاية المنشودة لا تُنال على ما يرام بهذا الأسلوب. حيث يقاطع الناس أثناء الخطاب، وبعضهم يطلقون الشتائم أيضًا ويتسببون في نشر الفوضى بإثارة الشغب. ففي مدينة لاهور هذه بالذات نهض شخص أثناء الخطاب في مجلس مليء بالمستمعين وشتمني في وجهي مع أني كنت في بيتي وكانت الشرطة أيضًا هناك. فثار ميان محمد خان رحمه الله، الذي كان مخلصا جدًّا ويحبني، لكنني منعتُه لأن هذا التصرف ينافي أخلاقنا.
باختصار، قد جربنا جيدا في لاهور وأمرتسر ودلهي وسيالكوت أن هذه الوسيلة لا تخلو من الفتنة، وضررُها أكثر من نفعها، فقد رُشقنا بالأحجار في أمرتسر وأصابت حجارةٌ ابني أيضًا، وبعض الأحبة أصابتهم الأحذيةُ. لقد ورد في الحديث “لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”، فكيف نجرب الطريقة التي جربناها سلفا.
ثم هناك عيب كبير آخر وهو أن في الكلام الشفهي يستطيع أن يكتب الناسخ ما يريد ويمكن أن يجعل من الحبة قبة، إذ القلم بيده، ثم هناك بعض الأشرار الذين فهّمتهم ساعتين لكن لما كان في الكلام الشفهي قلما يتسنى للإنسان أن يفكر، لأن الُخطب تكون مؤقتة وفورية، فلا يدوم تأثيرها. لذا تخليت عنها مضطرا، أما في التأليف فقد كتبتُ قرابة 75 كتابا إتماما للحجة بالتفصيل، وكل واحد من هذه الكتب جامع وشامل، إذا قرأها طالب حق وباحث بإمعان فمن المستحيل ألا تتوفر له مادة كافية لتمييز الباطل من الحق. لقد جمعت في حياتي ذخيرة من المعلومات ونشرتها قدر الإمكان، وقد قرأها الأحبة والأعداء أيضًا. وقت الخطاب الشفهي يكون قليلا، ولا تسنح للمرء فرصة التدبر فيه، بل لا يسنح لبعض الطِباع المتحمسة فرصة للاستيعاب، لأنهم يستشيطون غضبا فور سماع كلام معارض لأفكارهم، ويزبدون ويرغون. لكنهم إذا أمسكوا كتابا وقرأوه جالسين في غرفة على انفراد، تسنى لهم التدبر. ولما لا يكون أمامهم عندئذ خصمٌ، تسنح لهم فرصة جيدة للتفكر بخلو الذهن، ومع ذلك لم نهمل الجانب الثاني أيضًا، وذهبتُ لهذا الغرض إلى شتى المدن وبلَّغت الدعوة. في بعض الأماكن استُقبلنا بالأحجار واللبِن، أفلم نبلِّغ حتى الآن في رأيكم؟
لقد أنجزنا مهمتنا
ليس لنا أي مهمة مادية في الحياة، فسواء كنا في قاديان أو في لاهور إن أنفاسنا هي في سبيل الله حصرا حيثما كنا، ولقد أتممنا مهمتنا من خلال الأدلة العقلية والنقلية، ولم يبق أي جانب لم ننجزه. إلا أن علينا أن ندعو الآن، كما أن الله أيضًا لم يترك أي أمر، ولقد أظهر المعجزات بكثرة وهيبة لدرجة أنْ سلَّم الأعداء بعظمتها وشوكتها، ومع ذلك إذا لم يهتدِ أحد فليس في وسعنا أن نهديه. “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ” (القصص:56).
وصفة وفاة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام
ينبغي ألا ينظر الإنسان إلى جماعة الله باستخفاف واحتقار، فقد أراد سبحانه وتعالى أمرا عظيما جدا، وفي ذلك حصرًا تكمن منفعة الإسلام. ذات مرة ذهبت إلى دلهي، وقلت لسكانها: لقد جربتم من 1300 عاما وصفة الإيمان، بأن النبي صلى الله عليه وسلم مدفون في المدينة وعيسى عليه السلام حيٌّ في السماء، فهل أفادتكم هذه الوصفة أم ضرَّتْكم؟ تفكروا في جواب هذا السؤال بأنفسكم، فقد ارتد عن الإسلام مائة ألف شخص تقريبا من كل قوم وفرقة، أي من السادات والمغول والبتان وقريش. فهذه هي نتيجة وصف عيسى عليه السلام حيًّا مرارًا. والآن نقول لكم أن تجربوا وصفتنا أيضًا وهي أن تؤمنوا (كما هو ثابت من القرآن الكريم وشهد على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بفعله) بأن عيسى قد توفي. فقال أحدهم وكان طويل القامة: إنك تقول حقا، فامض قدمًا في عملك فقد فهمتُ أسلوبك. إن منفعة الإسلام فعلا في ذلك حصرا. لقد استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة التوفي بحق عيسى عليه السلام في القرآن الكريم، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بفعله حيث رآه ضمن الموتى ليلة المعراج. فإذا كان حيًّا فما علاقة الحي بالموتى؟ فلو كان عيسى عليه السلام حيًّا لوجب أن تكون له حجرة منفصلة، لا أن يبقى مع الموتى. فلن يقدر أحد أبدًا على أن يثبت من القرآن الكريم أن كلمة التوفي تعني الصعود إلى السماء بالجسم المادي. فاعلموا أنّ القرآن الكريم قد استخدم كلمة التوفي نفسها بحق النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا في: “وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” (يونس:46)،كما وردت كلمة التوفي نفسها بحق يوسف عليه السلام أيضًا، “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (يوسف:101).
فمما يجدر بالتدبر كيف تدل هذه الكلمة نفسها على الموت إذا وردت بحق الآخرين؟ بينما إذا وردت بحق عيسى عليه السلام فينشأ فيها تأثير يجعل معناها الصعودَ إلى السماء بالجسم المادي بدلا من الموت!
إن أول إجماع للصحابة الكرام رضي الله عنهم إنما حصل على وفاة عيسى عليه السلام. ذات مرة تسنى للأحمدي المخلص مفتي محمد صادق المحترم أن يناظر القس الأسقف في مسألة الرسول الحي، وتفصيل ذلك أن اللورد الأسقف بيَّن في حشد كبير في لاهور أن نبي الإسلام لا يستحق أن يسمى نبيا حيا – والعياذ بالله – وإنما النبي الحي هو عيسى عليه السلام فقط، إذ قد دُفن رسول المسلمين في المدينة بينما المسيح جالس حيًّا على يمين الله في السماء، ثم سأل موجِّها الخطاب إلى المسلمين وقال: تدبروا أنتم واتخِذوا القرار مَن منهما الأفضل إذن؟ فمتى كان المسلمون المساكين ليردّوا عليه. لكن مفتي محمد صادق كان موجودا في الاجتماع مصادفة، فحين لاحظ ذلك نهض بمقتضى الغيرة الإسلامية والحماس وقال: أنا سأردّ على سؤالك هذا، ثم قال بعد بيان وفاة عيسى عليه السلام : إن القرآن لم يذكر حياة عيسى عليه السلام قط، بل قد ذكره مرارًا في عداد أنه قد توفي كسائر الأنبياء. فتنبه الأسقف بسماع هذا الجواب ولم يجد أي رد وصرفه بالقول: يبدو أنك مرزائي، فلن أحاورك، وإنما خطابي موجه إلى عامة المسلمين. فهذا الحادث أثَّر في قلوب معارضينا أيضًا، وتمت الحجة عليهم عمليا، وأيقنوا بأنه إذا كانت فرقة يمكن أن تغلب النصارى فهي هذه الفرقة حصرا. وقالوا بالإجماع وبكلمة واحدة: صحيح أنهم كفار إلا أنهم اليوم دافعوا وحدهم فقط عن الإسلام.
آيات الصدق العظيمة القوية
واهًا لهذا الكفر الذي تسبب في ظهور شرف الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم. تذكروا أنه يجب أن تعيشوا في الدنيا كما يكون غريبٌ قد أعد حقائبه جاهزا للسفر. لا ينبغي تلقِّي هموم الدنيا الكثيرة على عاتقكم، انظروا كم من الآفات المتنوعة من الطاعون والزلازل والقحط تشن هجمات خطيرة، وبالإضافة إليها هناك مئات الآفات الأرضية والسماوية. فكيف يمكن أن يطمئن الإنسان مع وجودها؟ فاعلموا أن هذا الطاعون أيضًا آية عظيمة على صدقي.كنت قد أنبأت بتفشيه بتلقي الوحي من الله يومَ لم يكن له أي أثر في البنجاب، وهذا ليس ادعاءً شفهيا مني فقط، بل كنت قد أخبرت العالم بنشر هذا الأمر مرارًا في كتبي وجرائد الجماعة وأطلعتُ العالم على أن الطاعون الخطير يكاد يتفشى في البلد. فعلى كل واحد أن ينصرف إلى الاستغفار والتوبة قبل حلوله، ويُحدث في نفسه تغيرا طاهرا. لكن القليل صدَّقوا قولي والتفتوا إليه. لقد رأيت أن بعض الناس يغرسون أشجارا سوداء في شتى مناطق البلد، وحين سألتهم عنها قالوا إنها أشجار الطاعون. ثم رأيت حيوانا يشبه الفيل وأعضاؤه تشبه أعضاء دوابّ مختلفة وكان بهيئته الإجمالية فيلا. ورأيتُ أنه يتوجه إلى هنا وهناك في الجهات المختلفة في الغابة، ويفترس شتى أنواع الحيوانات
البرية مثل الغزال والمعز والأفعى والأرنب وغيرها ويأكلها. وعند هجومها تُسمَع ضجّةٌ كضجّة القيامة بسبب صيحات الحيوانات، وكنت أسمع صوت قضمه عظام الحيوانات. وكلما أنهى مهمته في مكان جاء إلي والحياء والسكينة باديان على وجهه، وكأنه يقول بلسان حاله ما ذنبي في ذلك؟ فإنما أنا مأمور، أفعل ما أؤمر. ثم بعد الجلوس عندي برهة كان يتوجه إلى مكان آخر، ويعمل هناك عمله السابق، ثم يأتيتي ويجلس بجانبي. فكان من ناحية يأكل الحيوانات البرية ومن ناحية كان يبدو أن الهيبة كانت أصابته هو الآخر بسبب نزول غضب الله سبحانه وتعالى.
لم أختلق هذه الأقوال اليوم بل هي من الزمن الذي لم يكن فيه أثر للطاعون في البلد، فهل يقدر الإنسان على إصدار مثل هذه النبوءات الغيبية؟ وهل يقدر الإنسان على أن يخبر عن الغيب من هذا القبيل؟ تدبروا قليلا؛ من أي نوع هذا الافتراء الذي تحقق بحسب الدعوى، وصار دليلا قويا لا يُدحض على صدقها.
ثم كان الله سبحانه وتعالى قد أنبأني في الإلهام عن حدوث الزلزلة قبل الأوان أيضًا: “هزة الزلزلة” أو “عفت الديار محلها ومقامها” ثم انظروا كيف ظهر الزلزال وكم من دمار ظهر في العالم بسببه، فلو قرأوا أوضاع المعبد الهندوسي في كانغره بتدبر لعرفوا عظمة هذه النبوءة وهيبتها، هل ذلك فعْل الإنسان؟ كلا. إذن، إن كان هذا كلام الله فلماذا يصدر هذا التجاسر والتجرؤ مقابل الله.
زمن المهدي والمسيح في نظر الأولياء واصحاب الكشوف
إنما أنا إنسان ضعيف متواضع لكن الله يستخدم لدينه من يشاء، فهذا إكرامه ولا يحق لأحد أن يعترض على فعْل الله، فكان العصر قد أتى وكان جميع أهل الله قد أخبروا عن هذا العصر. لقد أثبت صديق حسن خان في كتابه “حجج الكرامة” بعد تسجيل أقوال كثير من أولياء الله وأصحاب الكشوف، أن جميع أولياء الله العظام وأصحاب الكشوف قد أخبروا بالإجماع أن المهدي القادم والمسيح الموعود سوف يأتَ في القرن الرابع عشر حصرًا، ولم يذكر أحدٌ زمنا بعد القرن الرابع عشر. ثم كتب لاحقا: “ليته يُبعث في حياتي فأبلِّغه سلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يبعث في حياتَ فأوصي أولادي أنهم إذا وجدوه فليبلغوه سلامي”، لكنني أعرف أن أمثال هؤلاء قلما يوفَّقون لقبول الحق. لأن هذه سنة الله حصرا. فكان شخص قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يلقي الوعظ بكل حماس قائلا: أيها الناس، إن نبي آخر الزمان يوشك أن يُبعث، فقد تحققت جميع علامات بعثته ولوازمها، لكن سبحان الله، حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كان أول المكذبين.
فالواقع أن كون المرء معاصرا لمبعوث من الله أيضًا يولِّد لديه الفخر والتكبر عبثا ويتسبب في حرمانه من قبول الهدى. كان صديق حسن أيضًا قد مزَّق كتابي وأساء إليه، لكن لم تمض مدة طويلة إذ حل عليه عتاب الله، وكتب إلي أخيرا بمنتهى التواضع والانكسار للدعاء، فدعوت له، وأخبرني الله سبحانه وتعالى أنّا قد أنقذنا كرامته من الضياع، فهذا ما حدث، إذ صدرت الأوامر بالمحافظة على لقبه “نواب”، لكنه كان قد توفي قبل صدور هذه الأوامر.
( المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/5/14م)
إن الذين يقبلون الأنبياء هم دوما ضعفاء
لقد جاء السيد محمد علي الجعفري- الحائز على الماجستير- نائب عميد الكلية الإسلامية بلاهور، لزيارة حضرته عليه السلام، فقال حضرته موجها وجه الخطاب إليه:
عندما بُعثت وأقام الله سبحانه وتعالى هذه الجماعة بجلاء ونقاء، لم تكن هناك أي شبهة، حيث كانت دعواي بعين الميعاد، وبحسب نبوءات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآنِ الكريم تمامًا، ثم كانت آيات إلهية تؤيد دعواي، فقد عَرضتُ الدعوى أول الأمر على فئة العلماء إيمانا مني بأنهم سيقبلون هذا الأمر قبل غيرهم، وكنت أظن أن هؤلاء سيقبلونني دون أي عذر لاطّلاعهم على علوم الدين. ذلك لأن دعواي كانت بحسب القرآن والسنة تماما ومن أجل الضرورة الحقة، وكانوا هم أنفسهم ينتظرون، ويبينون في وعظهم ومحاضراتهم وشفهيا وخطيا أن بعثة المسيح الموعود في القرن الرابع عشر مؤكدة ومحتمة. كما كانت جميع العلامات التي كانوا يذكرونها قد تحققت لتصديقي، لكن أملي قد خاب فيهم. إذ كان الرد الذي تلقيته من العلماء على هذه الدعوة فتوى بأني كافر وأكفر وضالٌّ ومضلٌّ وخارج من دائرة الإسلام وأسوأُ من اليهود والنصارى، وورد فيها أنه يجب ألا يُسمح لأتباعي بدفن موتاهم في مقابر المسلمين، وألا يصلَّى عليهم الجنازة، وألا يُزاروا ولا يصافَحوا. وليس ذلك فحسب بل قد ورد فيها التطرف والتشدد أن الذي سيتعامل معهم سيعدّ هو الآخر منهم.
وبعد تلقِّي هذا الردّ من هؤلاء خطر ببالي المثقفون لكونهم عديمي التعصب والعناد عموما، فعرضت دعوتي بهذا الخيال على زمرة الحائزين على ثقافة حديثة، لكنني وجدت معظمهم متحررين، يريدون التعديل في الإسلام، ويظنون أن تعليم الإسلام كان يخص زمنا يسوده الجهل والهمجية، ولم يعد صالحا لهذا الزمن، لذا يجب التخلص منه، ويجب إجراء التعديل فيه بحسب أوضاع الزمن. باختصار، قد حُرمتُ من هؤلاء أيضًا. إلا ما شاء الله.
ثم أرسلت الدعوة إلى فئة الزعماء لأنهم يعطَون نصيبا من الدنيا، ويكونون مسلمين بسطاء الطبع، فأعاد أحدهم – المدعو صديق حسن-كتابي ممزقا، وبذلك أبدى قساوة قلبه. وبعده أيقنّا أن هذه السعادة هي في نصيب الفقراء دوما، فكان ظني صائبا. فقبلني معظم الضعفاء بحسب السنة القديمة، إذ لا يتكبرون بالمشيخة ولا بالثروة، بل هم بسطاء وطيبون، وهم الذين يُعدُّون مقربي الله، فمن هذه الفئة حصرا انضم إلي مئات الألوف إلى الآن.
إن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هو الآخر حين أرسل الرسائل إلى الملوك بعد ارتداء خلعةالنبوة من الله، ودعاهم إلى الإسلام، كان منهم هرقل قيصر الروم أيضًا، فبعد قراءة الرسالة الموجهة إليه طلب هرقل أحدا من قومه صلى الله عليه وسلم فعُرض عليه عدد من قريش بمن فيهم أبو سفيان أيضًا، فطرح عليهم الملك بعض الأسئلة ومنها: هل ادعى أحد من آبائه النبوة؟ فقال لا، ثم سأله إذا كان أحد من آبائه ملكًا، فقال أيضًا لا، ثم سأله من يتبعونه؟ فقال: إن الضعفاء والفقراء اتبعوه. ثم سأل عن نتائج الحروب معه، فقيل في الجواب: ينال منا وننال منه. فبعد سماع هذه الردود قال قيصر: هذا هو شأن الأنبياء في العالم على الدوام. إذ يتبعهم أول الأمر الضعفاء والفقراء حصرا. فقد أدرك بفراسته الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم نبي صادق، وهو الذي قد صدرت عنه النبوءة. فقال أيضا: يوشك أن يملك عرشي.
باختصار، من السُّنة القديمة أن الفقراء والضعفاء حصرا يتبعون الأنبياء أول الأمر، وكبار الناس يُحرمون من هذه السعادة، وتخطر ببالهم شتى الأفكار ويكونون قد استغنوا عن هذه الأمور سلفا، ويرون الجلوس في مجلس يضم فقراء مخلصين وضعفاء –مع أنهم أحباء الله- عارا وسببًا للذلة، وذلك بدافع التكبر والتبجح الخفي والمشيخة. أرى أن المئات من جماعتي بالكاد يجدون اللباس وبالصعوبة يتيسر لهم الرداء أو السروال، وليس لهم أي عقار، لكنني أتعجب من إخلاصهم المتناهي وتعظيمهم وحبهم ووفائهم، الذي يصدر منهم بين حين وآخر أو تتجلى آثاره على وجوههم. هم أقوياء الإيمان واليقين ومخلصون في الصدق والثبات، وأوفياء لدرجة أنْ لو اطَّلع عبَدة المال والثروة والمولعون بملذات مادية على اللذة التي يتمعون بها، لاستعدوا للتضحية بكل ما يملكون لنيل تلك اللذة. فاقرأوا بتدبر أوضاع المرحوم المولوي الشاهزاده عبد اللطيف مثلا لتعرفوا كم كان صادقا ووفيا وقويَّ الإيمان؛ إذ لم يتردد في التضحية بحياته أيضًا، فقد جاد بحياته ولم يترك الحق. فحين رُفع الخبر عنه إلى الأمير ومثَل أمامه، سأله الأمير: هل بايعتَ هذا الرجل؟ فلما كان إنسانا صادقا قال بجلاء: “نعم قد بايعتُه، لكن ليس بتقليد أعمى بل اتبعته على بصيرة، إذ لم أجد مثيله في العالم كله، وأني أوثر الموت على التخلي عنه”.
باختصار، قد ترك المرحوم أسوة في هذا، كم يتمتع أصحابنا بصدق الإيمان والاعتقاد!
عاقبة المنكرين
إن الصعوبة في الواقع تنحصر في عدم التفات هؤلاء الناس إلى التدبر في الأمور الدينية وإمعان النظر في أي قضية خوفا من الله، وطلبِ التمييز بين الحق والباطل واللوعةِ واللهفة، ليتأكدوا هل هذه الجماعة من الله أم لا. لكن تذكروا أن فعل الله هذا ليس عبثا، بل قد أقام هذه الجماعة بالحق والحكمة، وأقامها عند الضرورة
الحقة، فسوف يطالب المنكرين حتما: “ما أُرسِل نبٌّي إلا أخزى به الله قوما لا يؤمنون”. فمن الضروري والمحتم أن يعذَّب القوم المنكرون بعد إتمام الحجة عليهم لتمييز الباطل من الحق.
ذنبان كبيران عند الله
هناك ذنبان عظيمان في نظر الله، أولهما الافتراء والتقوُّل على الله، أي أن يدَّعي الإنسان أن الله يكلمه أو يوحي إليه مع أنه لم يتلقَّ أي وحي أو إلهام قط ولم يكلِّمه الله قط. حتى إن اختلاق الرؤيا الكاذبة أيضًا يندرج في هذا. باختصار، أولهما الافتراء على الله مع أن الله يعلم أنه كاذب. والثاني مَن يكذِّب الصادق والمبعوث من الله، وهذا سيواجه غضب الله الشديد ويحل عليه عتابه سبحانه وتعالى.
باختصار، أود أن أقول: إن ذلك هو من سنة الله تعالى منذ الأزل، وقد أرى ذلك في هذا العصر بإقامة سلسلة النبوة عمليا، يجب الاستفادة منها على الأقل بحيث يجب أن تتحرَّوا وتبحثوا شيئا في أمر من ينسب كل أعماله إلى الله ويعلن الدعوى العظيمة لتتأكدوا أهو صادق أم كاذب، مثلما تبذلون قصارى الجهود والمساعي الشاقة في أموركم الدنيوية.
ثم يقول الله تعالى إن الذي يعصي رسولي فلن أتركه، حتى أطالبه عن هذا الانكار. ومعلوم أن الحكام العاديين والحكومة لا تترك المتمردين والذين يحتقرون أوامرها دون عقاب، فكيف يأمن من يعصي المرسَل من الإله- أحكمِ الحاكمين الذي سيطرته على كل ذرة- ويسيء إليه.
صدق الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام
لو لم تكن معي أي آية من الله، ولم يكن تأييد الله ونصرُه يحالفني، وكنت اخترعت طريقا جديدا بعيدا عن القرآن، أو كنت قد تصرفت وتدخلت في أحكام القرآن والشريعة، أو نسختُها، أو كنت علَّمت طريقا جديدا خارج اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لكان من حق الناس -وفي هذه الحالة كان عذرهم معقولا وجديرا بالقبول- أن يقولوا إن هذا الرجل فعلا عدو الله ورسولِه، وينكر القرآن الكريم وتعليمَه وينسخه، وهو فاسق وفاجر ومرتد. لكنني ما دمت لم أغيِّر في القرآن الكريم ولم أبدل أي نقطة أو حركة من الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنني عاقد العزم على خدمة هذا الدين الطيب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل قد كرست حياتي من أجل ذلك، وأوقن يقينا كاملا بأن النجاة مستحيلة دون اتباع كامل للقرآن الكريم الكتاب الكامل والأكمل والمكمَّل، ودون اتباع كامل للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعدُّ من يزيد في القرآن الكريم أو ينقص منه شيئا ويخلع نِير طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كافرا ومرتدا؛ فالذي يسميني كاذبا ومفتريا ودجالا أو الذي لا يبالي بي ولا يسمع ندائي رغم كل هذا وذاك، ورغم ظهور آلاف الآيات على صدقي التي أظهرها الله في السماء والأرض تأييدا لي حتى اليوم، فاعلموا يقينا أن الله سبحانه وتعالى لن يتركه دون المؤاخذة أبدا. إن سفينة الإسلام تكاد تغرق، والزمن يشهد والوقت يشعر بالحاجة صارخا، والحالة الداخلية خطيرة لا تسرُّ أحدا ولا تطمئنه، والهجمات الخارجية خطيرة لدرجة أنها تكاد تستأصل الإسلام من جذوره. أفلم يحنْ حتى الآن ليبعث الله أحدا لتأييد الدين ويرسل مجددا يمسك بسفينة الإسلام المشرفة على الغرق؟ فقد مضى رأس القرن وبطلت جميع الوعود، قولوا لي أنتم: ألم يأنِ للإسلام بعد أن يتولى الله سبحانه وتعالى أمره؟ فهل يمكن أن تطرأ على الإسلام حالة أكثر حساسيةً وحرجا وخطورة من هذه؟ فهل سيأتي أحد عندما ينقرض الإسلام نهائيا، ولن يبقى فيه أي رمق من الحياة؟ فما الفائدة من ذلك المبعوث؟
اعلموا أني لو كنت كاذبا فالإسلام أيضًا كاذب، فإذا كان الإسلام أيضًا دينا ميتا كغيره، فما فضيلته وما ميزته؟ فالتوحيد الذي تفتخرون به يدَّعيه أتباع مذهب البرهمو والآريون أيضًا. فقد ألقى أحدهم محاضرة في مدينة لاهور هذه بالذات، قال فيها: إنا نعتقد بأن لا إله إلا الله، فما حاجتنا إلى الإيمان بأن محمدًا رسول الله؟ فما دام هذا هو الحال، وتدّعي الأديانُ الأخرى أيضًا التوحيدَ، فما هي الميزة المميزة بينكم وبين الآخرين؟
حقيقة الجهاد
إذا كنتم تعدون معتقدات الجهاد وغيره هي وحدها الميزة الفارقة فاعلموا أن هذا الظن خطأ فادح، لأنكم بذلك لا تؤيدون الإسلام بل تعادونه، وتسيئون إليه. لو كنا نعرف أن القرآن الكريم هو الذي علَّمَنا ذلك حصرا لخرجنا من هذا البلد وأقمنا في مكان يتوفر لنا فيه كل نوع من السهولة للعمل بهذه الأوامر، ولَعمِلنا بهذه الأحكام جيدا وبانشراح الصدر، لكنني أقول صدقا وحقا إن القرآن الكريم لم يقصد ما قد حسبه بعض المشايخ السفهاء لشقاوتهم.
الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد واجه في ذلك الزمن أشد المشكلات، فقد تعرض عدد كبير من أعزائه وأصدقائه المخلصين لسيوف الأعداء الظالمين ورماحهم، حيث أصابوا المسلمين ذكورا ونساء بكل أنواع العذابات المخجلة، حتى خططوا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فلاحَقوه وأعلنوا جائزة لمن يقتله. فلجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار، ولم يدخروا جهدا في الملاحقة، لكن الله سبحانه وتعالى بقدرته عصم النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه أمام أعينهم وذرا الرماد في عيونهم. وأخيرا حين تجاوزت مظالم الكفار كل حدود ولم يشبعوا من اضطهادهم حتى إخراج المسلمين من ديارهم، نزل الأمر من الله: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” (الحج:39)، فقد أَذِن الله سبحانه وتعالى للمسلمين برفع السيف، وأثبت بذلك أن الكفار كانوا في الحقيقة ظالمين وكانت فتنتهم قد تجاوزت حدودها كما كان صبر المسلمين أيضًا قد بلغ منتهاه. فأمر الله سبحانه وتعالى بأن يُقتل حَملةُ السيف بالسيف حصرا. وقال لهم: صحيح أن عدد هؤلاء المسلمين قليل وهم ضعفاء لكنني سأنصرهم لكونهم مظلومين وأُهلكُكم بأيديهم. فبعد هذا الحكم انتشرت هيبة أولئك القليلين-الذين عُدُّوا أذلاء مهانين ولم يكن أحد يؤيدهم وينصرهم، والذين كانوا قد أُوذوا وعُذبوا كثيرا بأيدي الكفار- في مشارق الأرض ومغاربها، وإن الله بنصرهم قد أثبت للعالم أنهم كانوا مظلومين فعلا. فألقُوا نظرة فاحصة وادرسوا الموضوع من كل جوانب لتتأكدوا هل كان المسلمون في ذلك الوقت مظلومين فعلا أم لا؟ فلو لم يأذن الله سبحانه وتعالى للمسلمين القليلين الضعفاء برفع السيف في ذلك الوضع الحرج الخطير دفاعا عن أنفسهم، ولم يسمح لهم بالحرب الدفاعية، فهل كان ينبغي أن يقضي عليهم نهائيا ويمحو آثارهم؟ في هذه الحال والأوضاع كان من حقهم شرعا وعُرفا أن يرفعوا السيف. ومع ذلك تثار عليه الاعتراضات إلى هذا اليوم، ولم ينسه الأعداء الجهلة المتعصبون. فهل يريد هؤلاء المشايخ بتقديم معتقد بعثة المهدي الدموي أن يجددوا اعتراضاتهم ويجعلوهم ينفرون من المسلمين من جديد؟ انظروا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم صراحة عن المهدي أنه “يضع الحرب” وأن الحرب ستكون في زمنه بالعلم، حيث يعمل القلم عمل السيف، وسيُفتح العالم بأسرار روحانية وبركات سماوية وآيات اقتدارية. وسيُثبت غلبةُ الإسلام بدلائل قاطعة وبراهين ساطعة، وسيُميَّز الدين الحق بالنبوءات المتجددة المحتوية على الغيب والتأييدات الإلهية. فلا يكفي القول: عندنا معجزات سابقة. فاعلموا أنه ليس بحوزتكم شيء أكثر من النصوص الدينية للهندوس والقصص والأساطير في كتب النصارى واليهود. إذا قدمتم قصصا سابقة فسوف يقدمون أكثر منكم. إذا كان معيار صدق الإسلام هو القصص والأساطير فقط فاعلموا أن الأمر ملتبس.
ضرورة وجود الأنبياء والآيات
الإسلام يملك فُرقانا، فقد متع الله الإسلام دوما بالأمر الخارق، والآيات المتجددة. عندما يسمع دارسو الفلسفة الحديثة اسم الآية ينزعجون، ويقولون ما الحاجة إلى الآيات والأنبياء للعثور على وجود الله.
لكن تذكروا أن الإيمان من خلال الاستنتاج من هذا النظام الشمسي والترتيب المحكم الأبلغ في نظام الكون بأن الله موجود، هو إيمان ضعيف، وبذلك لا تتأتى القناعة التامة بوجود الله، وإنما تثبت إمكانية هذا الوجود، ولا يمكن أن يقال بجزم أن الله موجود. فلو كانت فيه الأدلة اليقينية والقاطعة لما ألحد الناس. كبار الباحثين يؤلفون الكتب ولا تكون أدلتهم دامغة وبراهينهم قاطعة، فلا يقدرون على إفحام أحد، ولا يستطيع الإنسان الوصول بها إلى الإيمان اليقيني، لأنه إذا سرد أحدٌ الأدلة على وجود الله سبحانه وتعالى فسوف يسرد الملحد الأدلة خلاف ذلك.
فالواقع أن هذا الطريق يمكن أن يُثبت فقط أن الله ينبغي أن يكون موجودا، ولا يَثبت به أنه موجود فعلا، وثمة بون شاسع بين “موجود” و”ينبغي أن يكون موجودا.” فالقول “إنه موجود” يتطلب المشاهدة. لكن الجزء الثاني الذي بيَّنه الأنبياء لإثبات وجود الله هو إثبات وجود الله من خلال الآيات القوية والمعجزات العظيمة وبإظهار قدرة الله العظيمة. فهذا دليل تخضع له الرءوس كلها. كان كثير من العرب في الحقيقة ملحدين كما يتبين من الآية: “إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا” (المؤمنون:37)، فهل بالسيف كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أصلح الجهلة والمتحررين والمتجاسرين والمتجرئين كالعرب؟ وهل الفرق العظيم بين حياتهم السابقة وحياتهم بعد الإيمان منحصر في عدم تمكنهم من مقاومة سيف النبي صلى الله عليه وسلم، أم هل كان تعليمه الأخلاقي البسيط قد أحدث هذا التغيُّر العظيم في قلوبهم؟ كلا. فاعلموا أن السيف يمكن أن يُخضع الأبدان، أما القلوب فلا تُفتح بالسيف أبدا. فإن ما فتح القلوب إنما كانت الأنوار التي يتجلى فيها وجه الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أظهر لهم من آيات خارقة للعادة مما جعلهم كأنهم يرون الله أمامهم، وإنهم بمشاهدة جلال الله وجبروته تمكنوا من إحداث التغير الطيب -في نفوسهم- المحرق للذنوب.
ضرورة توليد الإيمان الحي بالله سبحانه وتعالى
إننا نعيش الآن العصر نفسه والظرف نفسه. فاليقين بوجود الله سينشأ الآن أيضًا بالوسيلة نفسها التي نشأ بها في البداية. فالإسلام هُوَ هُوَ، ويتطلب لنجاحه وازدهاره الوسائل نفسها التي كانت في البداية. فالآن أيضًا ثمة حاجة ماسة لظهور الخوارق الدالة على قدرة الله العظيمة، والمُظهرة لوجه الله. تيقنوا أن لا أحد يمكن أن يتطهر من الذنوب ما لم تكتمل معرفته بالله. فالإيمان العقيم لا يكفي للتخلص من الذنوب وأنواع المعاصي المنتشرة في الجهات الأربع في العالم. هل الخوف الإلهي الذي يجب أن يكون موجودًا هو موجود في العالم حقًا؟ كلا، ليس موجودًا البتة. فالواقع أن الإنسان مقيد في سلاسل النفس الأمارة كما يكون فرخ العصفور في براثن الأسد. ومن المستحيل أن يَحدث التغيُر والتخلصُ من الذنوب ما لم يتخلص الإنسان من براثن النفس. لكن انظروا إذا حدث الآن زلزال عنيف مهيب، وبدأت الأبواب والجدران والسقوف تهتز، فسوف يستولي فزع وذعر على القلوب، بحيث لن يخطر ببال الإنسان ارتكاب أي ذنب. فالمشاعر التي تكون لدى الإنسان في أيام المرض المهلك الخطير، يستحيل أن تتولد في أيام السعادة والرخاء أبدا.
من أجل إحداث التغير في نفسه يحتاج الإنسان إلى تجليات الله وخوارقه العظيمة القوية. فمن الضروري المحتم أن يخلق الله طريقا يقوي إيمان المرء بالله بشكل متجدد، ولا ينحصر في الإعلان باللسان فقط، بل يظهر تأثير إيمانه في أعماله أيضًا. وبذلك يصبح الإنسان مسلما صادقا. ومن هذا المنطلق قد قال الله لي في الإلهام .
أي: إذا جاء زمان السُّلطانِ، جَدَّدَ إسلامَ المسلمين.
(المراد من “زمان السلطان” هنا عهدُ دعوة هذا العبد المتواضع، ولكن ليس المراد هنا مُلكًا دنيويا، بل المراد الملكوت السماوي الذي أُوتيتُه. ومفهوم هذا الوحي بإيجاز هو أنه لما بدأ العهد السلطاني أي العهد المسيحي -الذي يُسمى الملكوتَ السماوي عند الله تعالى- في أواخر الألف السادس طبقًا لما تنبأ به أنبياء الله الأطهار، أخذ الذين كانوا مسلمين في الظاهر فقط يصيرون مسلمين حقيقيين. وبلغ عددهم حتى الآن أربع مائة ألف شخص. < كتاب : التجليات الإلهية > )
هذا كلام الله، وإذا أجلتم النظر في هذه الأيام بتعمق وإمعان فسترون الإيمان باللسان فقط بكثرة، إنما مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يجعل المسلمين الذين يُظهرون الإسلام باللسان واللفظ، مسلمين حقيقيين. أفلم يكن اليهود يؤمنون بالتوراة ويقدمون التضحيات؟ لكن الله لعنهم وقال: لستم مؤمنين. بل قد لعن صلاة بعض المصلين أيضًا حيث قال ” فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ” (الماعون: 4-5)، أي اللعنة على المصلين الذين هم غافلون عن مغزى الصلاة. فالصلاة في الحقيقة أن يرتمي الإنسان في نار حب الله وخشيتِه ويحترق شخصيا ويحرق كل ما سوى الله سبحانه وتعالى. حيث يبقى الله وحده أمام نظر الإنسان، ويرتقي الإنسان إلى حيث ينطق بإنطاق الله فقط ويسير بتسيير الله فقط. وتصير جميع حركاته وسكناته وأفعاله وتركُه للأفعال تابعة لمرضاة الله فقط، وتتلاشى أنانيته نهائيا.
باختصار، هذه هي الأمور التي لا تتحقق إلا إذا وفَّق الله أحدا لها، لكن الإنسان لا يقدر على شيء ما لم يفتح الله قلبه، وإن فتح أبواب القلوب هو فعل الله وحده. وفي الحديث “إذا أراد الله بعبد خيرا أقام واعظا في قلبه” فحين تأتي أيام سعادة الإنسان ويريد الله له إصلاحًا وخيًرا يقيم في قلبه واعظا. وما لم يُخلق واعظٌ في قلب الإنسان، لا يؤثر فيه الواعظون من الخارج أيما تأثير. لكن ذلك من فعل الله ولا نقدر عليه. وإنما علينا البلاغ فقط. “مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ” (المائدة:99) إن التصرف في القلوب فعل الله، نحن من طرفنا نريد تبليغ القول، لئلا نُسأل ويقال لماذا لم تبلِّغ جيدا. ولذلك قد أسمعنا الناس شفهيا، وأنجزنا هذه المهمة خطيا أيضًا. من النادر أن يكون في العالم إنسان يقول إن دعوتنا لم تبلغْه حتى الآن، أو لم يطَّلع على دعوانا.
( المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/6/18م)