بذل المساعي لمعرفة الحق واجب
جاء خريج كلية إلى الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام وقال لحضرته: ادعوا الله أن يوفقني لمعرفة نورك لكي لا أُحرم من هذه النعمة، وغير ذلك. فقال عليه السلام :
من المؤكد أن كل ما يحدث فإنما بفضل من الله فقط، إلا أن بذل السعي واجب على الإنسان.كما قد أمرَنا به في القرآن الكريم صراحة: “وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ” (النجم:39)، أي سينال الإنسان فيوضا بقدر ما يبذل لها المساعي،كما قال في آية أخرى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت:69)، أي الذين يسعون للفوز بقرب الله متفانين فيه بحرقة فلا تضيع جهودهم ومساعيهم، وأنهم يُرشدون ويوجَّهون حتما. فالذي يخطو إلى الله بصدق وإخلاص النية، فإن الله يتقدم إليه لإرشاده وهدْيه. يجب على الإنسان أن يتدبر ويخلق في نفسه الحرقة الصادقة والعطش لطلب الحق. فالطريق الذي علَّمه لتوسيع نطاق المعلومات يجب أن يتمسك به المرء. أما الذي يُعرض عن الله فإن الله سبحانه وتعالى لا يعبأ به كما قال نفسه: “فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” (آل عمران:97)، فإجابة الدعاء أيضًا تتطلب السعي والحرقة الصادقة بصدق القلب.
انظروا كم يبذل الناس جهودًا مضنية للامتحانات المادية، إذ ببذل الجهود يختل دماغهم، ويصابون أحيانا بأمراض خطيرة مثل الجنون والسل وحُمَّى الدِّق. وعند مواجهة الفشل يتعرض بعض الناس لصدمات عنيفة لدرجة أنهم يصلون إلى الانتحار. باختصار،كم من الجهود الشاقة يتحملونها من أجل حياة مادية فانية. فإن نجاحاتهم ثمار جهودهم، أما إذا قعدوا مكتوفي الأيدي ومربوطي الأرجل ولم يُعدّوا للامتحان عدة، فهل يخطر ببال أحد أنهم سينجحون؟ لكنه إذا كان البعض يفشلون حتى بعد بذل الجهود الكثيرة فما بال الذين يجلسون عاطلين مكبلي الأيدي والأرجل؟ صحيح أن بعض المجتهدين أيضًا يواجهون الفشل، لكن ليس من الصحيح الاستنتاج منه عدم بذل الجهود في المستقبل مطلقا. فهذا طريق باطل تماما، ولله در القائل:
صحيح أن وصاله لا يتحقق بالجهود ومع ذلك عليك أن تبذل كل جهد ممكن أيها القلب.
انظروا كيف يُعدّ الفلاح زرعا ببذل جهود شاقة، لكنه يضيع تماما نتيجة الأمطار الغزيزة والبَرد أحيانا، وبسبب شحّ الأمطار أحيانا أخرى، لكن ذلك الفشل لا يؤدي به إلى ترك الزراعة في المستقبل. فالألوف يستمرون في بذل الجهود رغم مواجهة الخيبات، وأخيرا يجنون ثمار جهودهم.
يتوقف الفيض الإلهي على السعي، فالشاعر أيضًا حين يسعى ويتخبط فيتمكن من نظم بيت من الشعر. يجب عليكم أيضًا أن تقرأوا كتب الجماعة بتمعن، وتتأكدوا بتدبر وعدل هل تتضمن الحق أم لا. لاتخاذ الرأي في أمر معين لا بد من جمع المعلومات عنه، فالذي تكون معلوماته كثيرة يستطيع أن يقارن بنفسه أيٌّ من الفريقين على حق. معظم الناس ينزعجون من زيارتنا بسبب الأنانية، وإذا أتوا يكونون قد اتخذوا القرار سلفا قبل الانطلاق من البيت. فأمثال هؤلاء كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهم يواجهون الحرمان دوما، ولا يفوزون بالإيمان مطلقا. فهؤلاء يكونون في الحقيقة ملحدين ومتحررين. فالذي يُسْلم حقا وبصدق القلب، لا يواجه صعوبات كثيرة في اختبار الحق، لأن الذي هو مسلم في الحقيقة، ومطَّلع على سنة الله وسنة الرسول، فسوف يتحرى الأمر دوما في ضوء منهاج النبوة. ومن ثم تقلّ اعتراضاتهم، وتبقى لهم مسافة قصيرة من الطريق. أما الذي في صدره الشكوك والشبهات عن الإسلام أصلا، وهو لم يتمكن بعد من معرفة صدق الإسلام، فليس لأمثاله أي طريق للسلام، وهم الذين يهلكون في نهاية المطاف، وهم في الحقيقة يعادون الأمور الروحانية، ويوجد فيهم نوع من التكبر والغطرسة. فهم يرون الاتباع عارا عليهم. قد هلكوا حتى في الثقافة الحديثة، ولم يقبلوا نور الله السماوي.
فمن سنة الله المستمرة أن الدنيا حين تمتلئ فسقا وفجورا وإثما وينتشر فيها كل أنواع الفساد يصلح الله الزمن بإقامة سلسلة روحانية من عنده. أما الذي يقول: لستُ بحاجة إليها فكأنه يريد تبديل سنة الله. فيُخشى من هؤلاء أن يرفضوا الإسلام يوما، وقد لا يشعرون بحاجة إلى الله أصلا. فهذا طريق خطير جدا، لأنهم قد أعرضوا عن الطريق الحقيقي الصادق لمعرفة الإسلام الذي كان دليلا على وجود الله سبحانه وتعالى.
كثيرون منهم يدَّعون أن لديهم معلومات كثيرة لكنهم في الحقيقة جهَلة بل أجهل من الآخرين، ولا يكونون قد مَسُّوا الدين ولا علومَه. إنما يستفيد من يكونون خالِْي النفس، ويعملون في سبيل الله بعطش صادق ورفق وصبر. فلا يحتاج إلى النور إلا الذي هو يعيش في الظلام، فالذي يملك النور سلفا فما حاجته إلى النور؟ فالإناء الذي هو مليء سلفا كيف يمكن أن يُسكب فيه، إنما الإناء الخالي يُملأ. لا ضمان للحياة، والزمن خطير جدا، ينبغي الالتفات إلى هذا الجانب بسرعة كبيرة.
إن انحسار الطاعون نوعا ما ليس مدعاة الفرحة
قال حضرته عند ذكر الطاعون:
الطاعون قد انحسر نوعا ما هذا العام، لكن ذلك ليس من دواعي السرور. لأن الناس لم يستفيدوا منه، والهدف من مجيئه لم يتحقق بعد. فالطاعون في الحقيقة اسم للموت. فالعوارض الخطيرة التي تؤدي إلى الموت قد سميت في اللغة بالطاعون، وهذه الكلمة واسعة جدًّا في اللغة، فمن المحتمل أن يظهر في صورة جديدة، أو يتفشى في المستقبل في هذه الصورة بشدة أكثر، فقد ورد في كلام الله النازل عليَّ “أُفطر وأصوم.” أي كما يجوز في الإفطار الأكلُ والشرب كذلك سيظل الطاعون يلْتهم الناس، لكنه سيأتي وقت يسود فيه السلام كالصوم. “إني مع الرسول أقوم، وأفطر وأصوم، ولن أبرح الأرض إلى الوقت المعلوم.”
الناس يخترعون من عندهم قولا بسرعة للأمن والسلام، ويقولون كان مرضًا فغادر، فلم يكن آيةً ولا تنبيهًا، فبهذه الأفكار يقتنعون. فالطاعون في الحقيقة كلمة واسعة الدلالات جدا. الطاعون الموت، فكل الأوبئة والأمراض الدورية مثل الجدري وذات الجنب والحمى والأورام والقيء والسكتة، تندرج تحت كلمة الطاعون. فهذه الكلمة جديرة بالتذكر إذ كان قد تفشى نوع من الطاعون في زمن الصحابة أيضًا، لكنه كان بثرة صغيرة جدا كحَبة تظهر على راحة اليد. فالملاحظ كثيرا أن بعض الناس يموتون في الإغماءة أو أثناء النوم وآخرون يرحلون من هذه الدنيا ضاحكين. بعضهم يصابون بإسهال الدم، والبعض الآخرون لا يعرف أحدٌ ما الذي أصابهم. فقد نام عشرة أشخاص ليلا بصحة وعافية ولم يصبح أحد منهم حيًّا. باختصار، هناك أحداث كثيرة من هذا القبيل تفيد أنه لا أحد يعرف كنه هذا المرض؛ فله أنواع كثيرة.
إن توقف المرض هذا أيضًا ليس مفيدا في الحقيقة، بل خطير جدا، لأن الناس سيتشجعون الآن ويتجرأون على ارتكاب الجرائم، مستنتجين من هذا التوقف أن مرضًا طرأ وانصرف، وهو ليس آية لأحد ولا عذابا. باختصار، هذا التوقف ليس مدعاة للفرحة بل هو مدعاة للخوف. ففي زمن كان قد نزل فيه عذاب الله على العالم في صورة الطاعون، تلقيت إلهاما “أفطر وأصوم”، وهذا مجاز، والمراد منه أنه سيشتد هذا المرض أحيانا ويخف أحيانا أخرى. “إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد:11)، فلن يترك الله الناس أبدا ما لم يُحدثوا تغيرا في أخلاقهم وأعمالهم وأفكارهم.
الحقيقة أنه يشق على هؤلاء أن يُنسب أمرٌ إلى الله، فهم يقولون إنه كان مصادفة، فما دخْل الله وتصرُّفه فيه. إنما يخيفني الآن أن الناس سيتخذون هذا الرأي عبثا، ويعدُّون الرأي القائل -أنه كان مرضا وليد المصادفة وانصرف، والآن يسود السلام والرخاء- صحيحا. فبذلك سيُعرضون عن الله ويطمئنون ويتمادَون في التجرؤ والإساءة. فقد ارتفعت عظمة الله من القلوب. فقدر ما يعظِّمون الحكام الماديين وأنفسَهم، وتكون في قلوبهم حماس لهم، لم يبق فيها مثلُه لله ولا لرسوله ولرضائهما. فلم تنفعهم آية الطاعون العالمية القهرية. وقد حدثت الزلازل أيضًا بحسب وعود الله سبحانه وتعالى وخربت الكثير من المدن العامرة بأكملها، فلم يُغير الناس ما بأنفسهم. فقبل بضعة أيام تلقيت إلهاما “زُلزلت الأرض” فهو الآخر يدل على أمر خفي ومخيف، سواء كان ظاهرا أو معنويا. فقد أطلقتْ كلمة الزلزلة على معان أخرى غير ظاهرة.
كما يتبين من القرآن الكريم: ” زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا” (الأحزاب:11) إن جميع الآيات التي أَظهرها الله الآن ستؤثر فيهم سلبيا، وستقسو قلوبهم باعتبارهم إياها مصادفات كما يقولون عن الطاعون. فمثلُهم كمثل فرعون، الذي كان يقسو قلبه أكثر عند زوال العذاب فكان يراه أمرا عارضا ومصادفة، وأخيرا قال عند الغرق: أؤمن بمن آمن به بنو إسرائيل. فلم يستخدم اسم الله حتى في تلك الحالة. وهذا هو حال هؤلاء القوم في هذا العصر؛ فقد خفَّ الطاعون، ولم يعد القحط أيضًا شديدا، وتظهر أمارات الأمن والسلام. فالناس سوف يطمئنون ويتجاسرون على ارتكاب المعاصي والجرائم بكل جرأة. بل سوف تقسو قلوبهم أكثر ويتمادَون في ذلك أكثر من ذي قبل، ولن ينشأ في قلوبهم الاهتمام بالاستغفار والتوبة وتغيير ما بهم والإنابة إلى الله، لكن الله سبحانه وتعالى يقول إنه ليس أمرا جديدا بل هكذا ظل يحدث دوما.
( المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/5/14م)