ضرورة المجاهدة والرياضة
كان بير عبد الله المحترم مقيمًا بقاديان منذ يومين أو ثلاثة أيام، وهو من سكان “بند صاحب خان” في محافظة اتك، والخليفة المحترم لبير مهر علي شاه الغولروي، والمخوَّل بأخذ البيعة من قبل بير المحترم. قال اليوم لحضرته بمنتهى الأدب وبحثا عن الحق وبغية اطمئنان القلب ما يلي: تكون مع عباد الله آياته سبحانه وتعالى ولقد بعثك الله أيضًا في العالم في هذا الزمن مأمورًا ومرسلا وقد ظهرتْ لك آلاف الآيات، لكني لما كنت من سكان البلاد النائية جدا، ولم نجد نصيبًا من آياتك تلك، كما شاهدتْها جماعتك في هذا العصر، لذا ألتمس منك إظهار آية، يطمئن بها قلبي وأزداد إيمانًا.
فقال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام احمد عليه السلام :
الحق أننا نرى هذا الأمر في ضوء تعليم القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى من ناحية يبين في القرآن الكريم صفاته، الكرم والرحم واللطف والرأفة ويبدي كونه رحمانا، ومن ناحية أخرى يحصر فيضَه في السعي والمجاهدة بقوله: “وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ” (النجم:39) و “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت:69)، كما يشكِّل دأب الصحابة رضي الله عنهم أسوة حسنة وقدوة رائعة لنا، فتأملوا في حياة الصحابة رضي الله عنهم فهل كانوا قد نالوا تلك المدارج العظيمة بمجرد الصلوات العادية؟ كلا بل لم يبالوا بحياتهم لنيل رضوان الله، وضحَّوا بحياتهم كالقرابين، وبعدها نالوا هذه الدرجة، ولقد رأينا معظم الناس يريدون أن يُمنحوا تلك الدرجات والوصول إلى العرش بنفخة واحدة.
من ذا الذي يمكن أن يفوق النبَّي صلى الله عليه وسلم درجة، فكان أفضل البشر وأفضل الرسل والأنبياء وإن لم ينجز هذه الأعمال بنفخة فمن غيُره يمكن أن يتمكن من ذلك؟ فانظروا كم من المجاهدات الشاقة بذلها في غار حراء، الله أعلم لأي مدة طويلة بكى وتضرع إلى الله ، وكم بذل من الجهود الشاقة والمساعي المضنية للتزكية، وبعدها نزل الفيض من الله تعالى.
فالحق أن الإنسان ما لم يورد على نفسه موتا وفناء لا يفوز بأي اهتمام من ذلك الجانب أيضًا، لكن الله سبحانه وتعالى حين يرى أن الإنسان لم يدَّخر جهدا من عنده، وأنه قد أورد الموت على نفسه للفوز بقربه، فهو بنفسه يتجلى على الإنسان، ويكرمه ويرفعه بإظهار قدرته. انظروا قد ورد في القرآن الكريم: “فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً” (النساء:95)، أي لا يستوي القاعدون- أي الكسالى من أصحاب الأعمال البسيطة- وباذلو المساعي والمجاهدات في سبيل الله. فهذا ما جربناه ونلاحظه من سنين طويلة.
الناس في العالم نوعان ؛ أحدهما من يعلَّمون من سوء حظهم أن في العالم أولياء وأقطابا إذا نظروا إلى إنسان باهتمام ارتقى إلى درجة الولاية، واطلع على ما يجري على العرش. والنوع الثاني هم أولئك الذين يتدبرون القرآن الكريم، ويبذلون الجهود صدقا وإخلاصا، ويرتاضون في سبيل الله لنيل قربه، فهؤلاء هم الذين لا تضيع جهودهم المرهقة والشاقة، وإن هؤلاء الناس الذين يسألون الله بصبر ويطرقون بابه بإخلاص وصدق يُفتح لهم أخيرا، ولصدقهم وإخلاصهم وحرقتهم الصادقة واضطرابهم الحقيقي يُورَّثون ويملَّكون أخيًرا فيوض الله وكنوزه.
انظروا إن الله غني جدًّا، فلا يعبأ بأن يدخل أحد جهنم أو الجنة، فدخول أحد جهنم لا يضر الله أي ضرر كما لا ينفعه دخولُ أحد في الجنة أيضًا، فليس لله سبحانه وتعالى في ذلك أي نفع أو ضرر شخصي. يقول الله :سبحانه وتعالى “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت:2)، أي هل يظن الناس أن الله يرضى بمجرد إعلانهم باللسان أنهم آمَنوا؟ مع أن صدق قولهم هذا لم يُختبر بعدُ هل هم في الحقيقة مؤمنون أم لا؟ إذ لم يتبين صدق قولهم هذا أو كذبه. فالقول الحق المؤكد أن على الإنسان أن يورد على نفسه أولا آلاف الموتات بصدق وإخلاص وحرقة، فعندها يرحمه الله وينظر إليه. فالذين يظنون أن بمجرد بعض التمائم والرقى والأوراد أو بنفخة واحدة من أحد المشايخ يصبح الإنسان من ورثة خزائن السماء يبقون محرومين دومًا.
جاءنا ذات يوم شخص وقال إني أبحث عن إنسان كامل يقدر على أن يجعل أحدا وليا بلفتة واحدة خلال لحظة، ففهَّمته كثيرا ولم يقبل وأصر على طلبه، فقلت له: إذن اذهب وابحث عنه لتجد أي قطب أو غوث من هذا القبيل، لكنني رأيته بعد مدة طويلة مرة أخرى، حيث كانت حالته بائسة جدًّا ويرثى له، فسألتُه هل وجدت إنسانا نافخا كنت تبحث عنه، فلزم الصمت، ولم يقدر على الجواب.
إنما أؤمن أن الله سبحانه وتعالى لم يعلِّم هذا الطريق قط ولا رسولُه، فانظروا كم من الجهود بذلها الصحابة. فالذي قدر له أن يضيع عمره فلا ينفعه كتابُ الله، فاقرأ القرآن الكريم فلن تجد فيه أن الله يرضى عن شخص غافل عن سبل رضوانه وهو غير مبال.
فالطرق التي حددها الله لنيل رضاه فإنما يرضى باتخاذها فقط، فقد علم الدعاء صراحة، ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” من الملاحظ أن الإنسان حين يرضى بإنسان آخر يكرمه، أفلن يحب الله إذن السالكين في سبل رضاه والباحثين عنه؟ لكن هناك شرط الكفاءة لنيل الفيوض، فكيف يُرحم الدُّمَّل القبيح الذي امتلأ بالقيح والمواد الخبيثة. انظروا كيف أدى الصحابة حق الطاعة والبحث عن الرضا، فهو مثال رائع وأسوة حسنة؛ ويُثبت ذلك أنهم ضحَّوا بأنفسهم وأطاعوا وأراقوا أنهار الدماء، فرضي الله عن حالتهم هذه.
جميع الأولياء والصالحين الذين خلوا كانوا يقضون أوقاتهم في المجاهدات والرياضات، فباوا فريد المحترم وجميع الأبدال والأولياء الذين خلَوا قد بلغوا كلهم هذه المدارج بسبب رياضاتهم ومجاهداتهم الشاقة لمدة. فهم اتبعوا السنة النبوية بصرامة، وبعدها خرجت منهم المشيخة والشرف والاستكبار الباطل، وكأنهم ولجوا في سم الخياط -كما هو معتاد أن يلج أمثال هؤلاء فيه- وعندها فازوا بهذه المدارج، إنما الدعاء أيضًا يقبل منهم حصرا، فكما لا يفيد دواءُ الطبيب إلا من يتقيد بنصحه في الحمية، فهو مثل سِر قبول الدعاء، فالدعاء لا يفيد شيئا ما لم يكن الإنسان تقيا كاملا.
لقد اختلق الناس بعض القصص الباطلة لبعض الأولياء، فهي الأخرى حجر عثرة ثقيل في طريق الَخلق، ويتعثر به الكثيرون. فقد اخترعوا بحق الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أيضًا قصة أن لصًّا جاءه فنفخ فيه فجعله وليا وقطبا. تذكروا أنه لا أحد يمكن أن يرتقي إلى درجة عالية ومتميزة دون اتباع السنة النبوية بشكل كامل ومن دون إيراد الموت على نفسه.
تنزل الفيوض بحسب الكفاءة
إلا أنه من الصواب أنه لا يحدث أمر من دون الكفاءة، فقد خلق الله بعض الطباع والمواهب والكفاءات وفطرها بحيث تنسلخ منهم تلقائيا الأخلاق الرذيلة مثل الأنانية والتكبر والإعجاب بالنفس والتبجح، ويصبحون فانين وكأنهم لا شيء، فكما أن البذرة حين تدفن في الأرض تصبح ترابا أولا، ثم ينميها الله بقدرته، فكذلك يفقد هؤلاء كل شيء في سبيل الله ثم يحييهم الله وينميهم وينشرهم ويرسخ قبولهم في قلوب الناس. ومثل ذلك الإنسان الذي يتحمل جميع المشاكل التي تصيبه من الله بين حين وآخر ابتلاءً، ولا يضع من عنده حدودا وشروطا بل يفوِّض كل شيء إلى الله، فإن الله يريه بفضله ما يتقوى به إيمانه، ويحصل له القلب السليم. أما الذين يعاندون ويريدون أن يفرضوا مشيئتهم على الله فيبقون محرومين، فلا يعبأ الله بهؤلاء، فهو غني وله الملايين من العباد، فإن لم يقبل هذا فهذا شأنه، وسوف يدخل في جماعة أهل النار. إن الله لا يخضع لمشيئة الإنسان في إظهار الآيات، فالفيوض أيضًا تنزل بحسب الكفاءات.
فلتكن هناك قطرةٌ صافية لكي تصبح جوهرة.
فكما أن الحبة المنخورة حين لا تبذر في الأرض بشكل صحيح فلا تنبت، ولا تثمر، فكذلك الأشقياء الذين تتم إدانتهم بأنهم أشقياء، لا يمكن أن يرِثوا إنعامات الله وآياته، فمن ذا الذي يفوق النبي؟ فاقرأوا القرآن الكريم كله بتدبر، فسترون أن الشروط التي حددها الله للحصول على الفيوض، والتي باتباعها تُنال الفيوض، لا أحد يمكن أن يرث فيض الله بمخالفتها. يقول الله تعالى: ” فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ” (هود:105)، أي أن الناس نوعان بحسب كفاءاتهم، فحزب منهم وُفقوا لجمع هذه الوسائل وإحراز الأعمال التي تجذب فيوض الله وبركاته فهم يسمَّون سعداء، والحزب الآخر من تكون أعمالُهم السيئة وخبثهم الباطني حجر عثرة في سبيل رقيهم، فتمنعهم من الأعمال الصالحة وفيوض الله وبركاته. فانظروا في العصر الراهن أيضًا كيف ينزل غيث التأييد السماوي والآيات، ويحدث التقدم كالسيل، لكن لا يستفيد من ذلك إلا من كان في أرواحهم حظ السعادة، فالأشقياء رغم رؤية آلاف الآيات يُحرمون السعادة وقبول الحق نتيجة إدخالهم الوساوس الشيطانية فيها. والله سبحانه وتعالى أيضا يريد أن يصبح البعض سعداء لسعادتهم الفطرية، ويصير البعض أشقياء لشقاوتهم، وهذا الاختلاف يستمر إلى يوم القيامة، فالذين قد أراد الله أن يُبقيهم خارج جماعتنا أنى لنا أن نهديهم؟
إن الآيات بيد الله
انظروا! إن الله لا يعبأ بشخص معين، ولا يركز رسلُه على هدْي شخص معين، بل هم يدعون ويضطربون لخلق الله عامة، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا الإتيان بآيات، لكن كيف ردّ الله عليهم؟ فقد قال: “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ” (الأنعام:37)، “قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ” (الَأنعام:109) لقد نهى الله الإنسان عن طلب الآية بحسب رغبته، وتفيد التجارب أن الذين طلبوا الآيات بحسب طلبهم ظلوا محرومين من الهدى، لأن الله سبحانه وتعالى لا يخضع لمشيئتهم وأمانيهم، ولا هم يهتدون. ألا حين طُلبت الآيات والمعجزات بحسب الشروط المعينة جاء الجواب: ” سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا” (الإسراء:93)، ففي العصر الراهن أيضًا تنزل من الله آياتٌ لا تعد ولا تحصى، وهي مذكورة في كتبنا بالتفصيل. يجب أن يُنظَر إليها هل تجدر بالقبول، وهل تتمتع بالهيبة الإلهية أم هل يقدر على إظهارها أي إنسان أيضًا.
ثم إن الذين لا يقتنعون بالآيات التي أظهرها برغبته ومشيئته ويطلبون لقناعتهم آيات خاصة، فلم يذكر القرآن الكريم أنهم أوتوها ولا نجدها في حياة أي نبي سابق، فلماذا نُسأل أمرًا خارج منهاج النبوة، فهذا لا يجوز أبدًا، فانظروا إلى مثل هؤلاء السائلين السابقين ما الذي حصل معهم؟ فهو ما يحدث الآن أيضًا.
أنا لم أدَّع الألوهية، فالآيات عند الله وهوُ مظهرها بمشيئته حيث يريد ومن أي نوع. فهو لا يتقيد بأماني زيد وبكر ولا يخضع لها، ولا أعتقد أن مثل هذا الإنسان يمكن أن ينجح، فالقرآن الكريم نفسه موجود فليراجَع. فالله سبحانه وتعالى لم يكن مضطرا قط، ولا يعمل ويتصرف بدافع الاضطرار، بل هو قادر على إظهار الآيات متى يريد أكثر من رغبة الطالبين بآلاف المرات. وهو يُظهرها ولا يبالي بأي شخص معين أنه ما لم يهتد لن يستمر نظام الكون.
أنت أيضًا مسلم، فهل قرأت في القرآن الكريم مضمونا من هذا النوع؛ أي أن أحدا طلب المعجزة بحسب رغبته وشروطه، ثم وجدها؟ فلم يثبت قط أن أحدا طلبها بهذا النحو ثم فاز بها، فما دام ذلك غير ثابت فهو التجاسر والإساءة وينبغي أن يجتنب المسلمون ذلك. فكما ردّ النبي صلى الله عليه وسلم على طالبي الآيات وأجابهم نقول مثله إن الآيات عند الله فهو يُظهرها متى يريد، وأيَّ نوع منها يريد. فإظهار الآيات ليس من عملي، والآيات التي أظهرها الله موجودة بالألوف، إلا أنها لم تظهر إثر طلب معين، بل هي ما أراد الله إظهاره بحسب مشيئته.
أنا أشك في إسلام شخص يطرح سؤالا خارج القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان في الإنسان نصيب من السعادة والرشد وكان عنده ظمأ البحث عن الحق، وكانت عنده حرقة صادقة، فلماذا لا يتدبر آيات الله، ولا يتقبلها؟ فهل صارت تلك الآيات قديمة، حتى لا يهتم بها، ويصر على أن يعطى ما يطلب.
تذكروا أن ذلك من التجاسر والإساءة الشنيعة. فالله سبحانه وتعالى غني ولا يعبأ بأحد، فلو أعرض العالم كله عنه لما ضرَّه شيئا، فهو لا يخضع لإرادة أحد ولا يتبع أمانيه.
ضرورة الدعاء للحصول على القناعة
بعد صلاة الظهر طلب عليه السلام بير المحترم مرة أخرى، وقال له بلهجة لطيفة جدًّا وبكلمات تتسم بالخلق والحب:
الواقع أنه يحدث أحيانا حين تكون حالة قلب الإنسان نقية ويريد الله المطَّلِع على حالات القلوب أن يُظهر أمرا لهدايته، فهو يلقي في قلوب المبعوثين منه حماسًا خاصا بحقه ويلفتهم إليه بإلهام خفي، لكن ذلك يحدث حين يعرف الله حالة التقوى والحرقة الصادقة للسائل، فمنه يفهم أن سؤال السائل يجدر بالقبول عند الله، لذا يجب أن تدعو الله لهذا الأمر وتستغفر وتتوب، فمن المحتمل أن يهيئ الله لك أسباب القناعة نتيجة دعائك، لأنه بدون ذلك لا يستقيم الأمر، لأنه سبحانه وتعالى غني تمامًا، والإنسان محتاج إليه كل حين وآن، وهو محتاج لنصره.
بعد ذلك انصرف حضرته عليه السلام
(المصدر: جريدة الحَكَم: بتاريخ 1908/4/2م)