قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني في كتاب إزالة الأوهام:
السؤال 1: أين يثبت موت المسيح ابن مريم من القرآن الكريم؟ بل إن قوله تعالى: “رَافِعُكَ إِلَيَّ” و“بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ” يدلّ على أن المسيح رُفع إلى السماء بجسده. وكذلك الآية: “وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ” (النساء:157) تدل على أن المسيح لم يُقتَل ولم يمت على الصليب.
الجواب: فليتضح أن معنى الرفع إلى الله هو الموت، كذلك إن لقول الله عز وجل: “ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ” (الفجر:28)، وقوله: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” (آل عمران:55) المعنى نفسه. إضافة إلى ذلك إن الوضوح والجلاء والتفصيل الذي ورد به ذكر موت المسيح في القرآن الكريم لا يُتَصور أكثر منه؛ لأن الله عز وجل قد بيّن وفاة المسيح بوجه عام وبوجه خاص أيضا، كما يقول مثلا على وجه العموم: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ” (آل عمران:144).
إن هذه الآية التي قدّمتُها للاستدلال تدل بصراحة متناهية أن الموت قد أصاب جميع الرُّسُل، سواء أكان بالموت الطبيعي أو بالقتل، ولم يسلم من الموت نبي من الأنبياء السابقين. فهنا يستطيع القراء الكرام أن يفهموا بالبداهة أنه إذا كان المسيح– الذي كان رسولا من الرسل السابقين– لم يمت إلى الآن، بل رُفع إلى السماء حيا، ففي هذه الحالة لا يصح مضمون هذه الآية الذي يدلّ بوجه عام على موت كل نبي سبق، بل يصبح هذا الاستدلال لغوا وقابلا للطعن فيه.
والآية الثانية التي تدل على موت المسيح ابن مريم على وجه العموم هي: “وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ” (الأنبياء:8). كذلك قول الله تعالى بوجه عام: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” (الأنبياء:34-35).
والآية الثالثة التي تدل على وفاة المسيح كاستدلال عام هي: “وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا” (الحج:5). أيْ؛ يا بني آدم أنتم حزبان، فمنكم من يموت قبل الشيخوخة أيْ لا يصل إلى سن متقدم جدا ليصبح شيخا فانيا، بل يموت قبل تلك المرحلة؛ ومنكم حزب آخر يصل أصحابه إلى مرحلة الشيخوخة؛ أي يصابون بحالة أرذل العمر المقرفة والمنفّرة، فيصبحون كطفل عديم الفهم مع كونهم من العلماء والعاقلين، وينسون في لمح البصر كل ما تعلّموه مدى العمر.
فما دام الله تعالى قد قسم بني آدم إلى حزبينِ فقط من حيث أسلوب الحياة، فلا يمكن أن يبقى المسيح ابن مريم خارجا عن أحد هذين القسمين مثل بقية البشر. علما أن هذا ليس قانون المشرعين الدنيويين حتى يقدر أحد من الناس على ردِّه، وإنما هي سنَّة الله التي بيّنها الله جلَّ شأنُه بنفسه بصراحة تامة.
فمن منطلق هذا التقسيم الإلهي يجب أن ينطبق على المسيح عليه السلام إما مبدأ: “مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى” فيكون الآن جالسا بعد الموت في جنة الخلد على عرشٍ ذكره بنفسه في الإنجيل. أو إذا لم يمت إلى الآن فلا بد أن يكون قد بلغ أرذل العمر بتأثير الزمن، وبذلك فإن وجوده أو عدمه سيّان بسبب حدوث الاختلال في حواسه.
أما الآيات البينات التي تدل على موت المسيح بوجه خاص فلا نرى حاجة إلى تكرارها. ومن الواضح أنه إذا كان المسيح ابن مريم خارجا عن جماعة المرفوعين الذين ارتحلوا من الدنيا إلى الأبد ورُفعوا إلى الله، فلا يمكنه قطعا أن ينضم إلى الذين وصلوا إلى عالم الآخرة، بل سينضم إليهم بعد الممات. وإذا قيل بأنه قد انضم إلى الأموات بحسب الآية: “فَادْخُلِي فِي عِبَادِي” فسيُعَدّ منهم لا محالة. والثابت جليا من حديث المعراج أيضا أنه انضم إلى الأنبياء الذين ماتوا من قبل وأُعطِي مكانا قرب النبي يحيى. فمن الواضح في هذه الحالة أن معنى الآية: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” (آل عمران:55) سيكون كما يلي: إني متوفيك ورافعك إلى عبادي المتوفّين المقربين ومُلحقك بالصالحين. ويكفي فهمًا للعاقل غير المتعصب أنه إذا كان المسيح قد رُفع حيا فكيف اقتحمَ صف الأموات. ولا بد من الذكر أيضا أن بعضا من قليلي الفهم يظنون أن تلك الآيات تحمل معنيين، ولكن هذا فهم فاسد تماما، ولا يليق بالمؤمن أن يفسِّر القرآن برأيه، بل القرآنُ بنفسه يفسر بعضه بعضا. وإذا لم يكن صحيحا أن الآيات التي وردت في حق المسيح مثل: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ “و“فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي“، تدل على موت المسيح في الحقيقة بل لها معانٍ أخرى، فلا بد أن نحتكم إلى القرآن نفسه للبتّ في هذا النـزاع. وإذا كان القرآن يستخدم هذه الكلمة – بالتساوي – أحيانا بمعنى الموت وأحيانا أخرى بمعنى لا علاقة له بالموت، لَتساوَى احتمالُ استمداد كِلا المعنيين في القضية المتنازع فيها، أما لو كان القرآن الكريم يستعملها بمعنى محدَّد في غالب الحالات وأكثرها، لكان ذلك المعنى هو المرَجّح في هذا البحث، وأما إذا كان القرآن الكريم يستخدمها بمعنى واحد في كل مكان من بدايته إلى نهايته، فسيكون الحكم النهائي والقاطع في المكان المبحوث فيه أن المعنى المراد من فعل “التوفِّي” في القرآن كله، هو الذي أُريدَ به في هذا المقام أيضا؛ لأنه من غير الممكن وبعيدٌ عن الفهم تماما أن يستخدم الله تعالى في كلامه الفصيح والبليغ – ولا سيما في محل النـزاع والصراع الذي هو بمنـزلة معركةٍ حامية الوطيس في علمه – كلمات شاذة ومجهولة لم تُستعمَل في أيّ مكان في كلامه قط. ولو فعل ذلك لكان معناه أنه يريد أن يترك خلقه يهيمون في متاهات الشبهات. والمعلوم أنه عز وجل لم يفعل ذلك. كيف يمكن أن يريد الله تعالى في 23 آية من القرآن الكريم معنى واحدا دائمًا من كلمة معينة، ويريد في مكانينِ فقط – ولا سيما في مكانينِ يحتاجان التوضيح والبيان أكثر من غيرهما– معنًى آخر تماما ويدفع الخلق إلى هوة الضلال بيده؟
أيها القراء الكرام، فليتضح لكم أنه حينما درستُ فعل “التوفِّي” دراسةً متأنية في جميع الأماكن في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته تبيّن لي أنه قد ورد في 23 آية كلها بمعنى الموت وقبض الروح، عدا الآيتين قيد البحث، ولم يُستخدَم في أي مكان بأيّ معنى آخر. وتلك الأماكن هي:
1- “حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ” (النساء: 16)
2- “وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ” (آل عمران: 194)
3- “قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ” (السجدة: 12)
4- “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ” (النساء: 98)
5- “فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ“
(غافر: 78)
6- “الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ” (النحل: 29)
7- “تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ” (النحل: 33)
8- “يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ” (البقرة: 235)
9- “يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ” (البقرة:241)
10- “تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا” (الأنعام: 62)
11- “رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ” (الأعراف: 38)
12- “تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ” (الأعراف: 127)
13- “يَتَوَفَّى” (الأنفال: 51)
14- “فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ” (محمد: 28)
15- “وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” (يونس: 47)
16- “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (يوسف: 102)
17- “أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” (الرعد:41)
18- “وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى” (غافر: 68)
19- “الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ” (يونس: 105)9
20- “ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ” (النحل:71)
21- “وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى” (الحج: 6)
22- “اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى “(الزمر:43)
23- “هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى” (الأنعام: 61)
من الواضح كل الوضوح أن المراد من فعل “التوفِّي” في جميع الآيات المذكورة آنفا من القرآن الكريم إنما هو الموت وقبض الروح. أما الآيتان الأخيرتان فإنهما تتعلقان بالنوم ظاهريا، ولكن الحقيقة أن المراد في هاتين الآيتين ليس النوم، بل المراد والمقصود الحقيقي هو الموت، وقد أُريدَ الإثبات من ذلك أن النوم أيضا نوع من الموت. فكما تُقبَض الروح عند الموت كذلك تُقبَض عند النوم أيضا. إذن، فإن إطلاق فعل “التوفِّي” على النوم في هذين المقامَين استعارة استُخدمت مع قرينة النوم، أيْ قد ذُكر النومُ بكلمات صريحة ليعلم كل شخص أن المراد من “التوفِّي” هنا ليس الموت الحقيقي بل الموت المجازي وهو النوم.
ويعلم كل ذي علم بسيط أيضا أنه عندما تُستعمَل كلمةٌ ما بمعنى حقيقةٍ مسلَّمٍ بها، أي بمعناها الخاص بها والمتداول عموما، فليس ضروريا لمستخدِمها أن يورد قرينة معينة لتوضيح معناها بوجه خاص لأن الكلمة شائعة ومعروفة وتتبادر إلى الفهم بذلك المعنى المعين. ولكنه لو استخدم كلمةً بالمعنى المجازي بصرفها عن حقيقةٍ مسلَّمٍ بها، لتحتم عليه أن يُضيف عندها قرينة بأسلوب آخر، إما صراحةً أو كناية لكي لا يشتبه المعنى على الفهم. وللتمييز فيما إذا كان المستخدم قد استخدم الكلمة حقيقةً مسلَّمًا بها أم على سبيل المجاز والاستعارة النادرة، فإن لذلك علامة واضحة؛ وهي أنه عند استخدامها بالمعنى المتداول يذكر الحقيقةَ المسلَّم بها بإيجاز دون أن يرى ضرورة إلى قرينة عليها؛ معتبرا إياها مفهوما شائعا ومعروفا وموضوعا متبادرا إلى الذهن، أما في حالة الاستعارة والمجاز فلا يُستحَب ذلك الإيجاز، بل يكون واجبا عليه عندئذ أن يذكر قصده بعلامة واضحة يفهمها الفطين بسهولة، ويوضّحَ أن تلك الكلمة لم تُستخدَم في ذلك المقام بمعناها الأصلي.
الآن، وقد تبيّن بوضوحٍ الفرقُ بين الحقيقة والمجاز، يمكن لكل من قرأ القرآن الكريم بنظرة تأمل وتدبَّر في فعل “التوفِّي” حيثما ورد في القرآن، أن يشهد بأمانة على صدق بياني هذا. وينبغي الإمعان في الآيات التالية على سبيل المثال لا الحصر:
1- “وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” (يونس: 47)
2- “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا” (يوسف: 102)
3- “وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى” (الحج: 6)
4- “تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ” (النساء: 98)
5- “يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ” (البقرة:241)
6- “تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا” (الأنعام:62)
7- “رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ” (الأعراف: 38)
8- “تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ” (الأعراف: 127)
9- “وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ” (آل عمران: 194)
10- “ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ” (النحل: 71)
إذن، يتبين من هذه الآيات بصراحة متناهية ووضوح تام أن فعل “التوفِّي” قد استخدِم فيها كلها بمعنى الموت. وهل في القرآن الكريم آية استُخدِم فيها فعل “التوفِّي” وحده وأُريد منه معنى آخر غير الموت؟ فلما ثبت بصورة قطعية ويقينية دون أدنى شك أن الأسلوب المتَّبع في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته هو أن المعنى المراد من فعل “التوفِّي” في كل مكان هو الموت، فإن اختراع معنى في الآيتين: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ “و“فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي “المتنازع فيهما مخالفا للأسلوب الشائع العام والمتَّبَع في القرآن الكريم، ليس إلا إلحادا وتحريفا سافرا.
وفي هذا المقام هناك نقطة أخرى جديرة بالذكر وهي: لماذا استُخدِم فعل “التوفِّي” في محل الموت في كل مكان في القرآن الكريم، ولماذا لم يُستخدَم فعل “الإماتة“؟
السر في ذلك أن لفظ “الموت” يطلق أيضا على فناء الأشياء التي لا تبقى فيها روح بعد فنائها؛ فمثلا لو اتخذت النباتات والجمادات صورا أخرى غير صورتها الحقيقية لأُطلق عليها لفظ “الموت“، كما يقال: مات الحديد وانصهر، أو ماتت قطعة الفضة وانصهرت. كذلك لا يُطلَق فعل “التوفِّي” على الحيوانات والحشرات التي لا تبقى فيها روح بعد موتها ولا تستحق الثواب أو العقاب، بل يقال: ماتت الدابة أو ماتت الحشرة؛ فلما كان في مشيئة الله تعالى أن يبيِّن في كلامه العزيز بوضوح أن الإنسان حيوان لا يصيبه الفناء التام بعد موته بل تبقى روحه، ويحتفظ بها قابضُ الأرواح؛ فلم يُطلِق عليه فعل “الموت” بل أطلق “التوفِّي” ليدل على أنه عز وجل لم يقضِ عليه قضاء نهائيا، وما أفناه فناء تاما بعد إماتته، بل أمات جسده فقط، واحتفظ بروحه.
وإضافة إلى ذلك أيضًا؛ إن في اختيار هذا الفعل، ردًّا على الملحدين الذين لا يعتقدون ببقاء الروح بعد موت الجسد.
ليكن معلوما أيضا أن فعل “التوفِّي” قد استُخدم في القرآن الكريم من البداية إلى النهاية بمعنى قبض الروح وترك الجسم يفنى. إن حقيقة موت الإنسان هي أن الله تعالى يقبض روحه ويترك الجسد على حاله بفصل الروح عنه. ولكن ما دام النوم أيضا يشترك في هذه الحقيقة إلى حد ما؛ فقد عُبِّر عن النوم أيضًا في الآيتين المذكورتين من قَبْل بـ “التوفِّي” على سبيل الاستعارة، لأن الروح تُقبض نوعًا ما في حالة النوم أيضا، ويُترك الجسم عاطلا دون أن يكون له أي عمل أو دور. أما في حالة “التوفِّي” الكامل حيث تُقبض الروح على الوجه الأكمل، ويُـترَك الجسم وشأنه، فهي موت الإنسان، لذلك فقد استُخدم فعل “التوفِّي” في القرآن الكريم بوجه عام ليدل على موت الإنسان. والقرآن الكريم مليء بهذا الاستخدام من بدايته إلى نهايته. ولم يُطلَق فعل “التوفِّي” على النوم في القرآن الكريم إلا في موضعينِ اثنين، وذلك أيضا مع ذكر قرينةٍ. وفي هاتين الآيتين أيضا جاء التصريح بوضوح تام أنه ليس المراد من “التوفِّي” هنا النوم، بل المراد هو الموت فقط. وقد أُريدَ التبيان أن النوم أيضا نوع من الموت إذ تُقبَض الروحُ في النوم أيضا ويُترك الجسم على حاله. والفرق الوحيد بين النوم والموت هو أن النوم موت ناقص، والموت الحقيقي إنما هو موت على الوجه الكامل.
والجدير بالانتباه أيضا أنه كلما ورد فعل “التوفِّي” في القرآن الكريم، سواء أكان بمعناه الحقيقي (أي بمعنى الموت) أم بالمعنى غير الحقيقي (أي بمعنى النوم)، كان المراد منه دائما هو قبض الروح وترك الجسم عاطلا بلا حراك. فلما اعتبرنا المعنى المذكور آنفا مبدأ مسلَّمًا به، وتشهد عليه آيات القرآن الكريم التي ورد فيها فعل “التوفِّي” – وإن قبلنا جدلا الفكرة الباطلة بداهةً أن معنى “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” هو “إني مُنِيْمُك” – ثبت مع ذلك خطأ الفكرة القائلة برفع الجسد؛ لأنه لا بد أن نستنتج من “إِنِّي مُتَوَفِّيك” حسب المبدأ المذكور آنفا؛ أني سأجعل النوم غالبا عليك وسأقبض روحك. والمعلوم الآن أن العبارة: “رَافِعُكَ إِلَيَّ” التي جاءت بعد: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” تعني أني سأقبض روحك ثم أرفعك إليّ؛ فإن كلمة: “رَافِعُكَ إِلَيَّ” مرتبطة بـ: “مُتَوَفِّيكَ” ويُستنتَج منها بالبداهة أن الله تعالى قد قبض روحه ثم رفع إليه الروحَ نفسها، لأن الشيء الذي يُقبض هو الذي يُرفع، ولا يوجد أيّ ذكر لقبض الجسد.
أما الآيات الأخرى التي تشير إلى النوم فقد قال الله تعالى فيها بصراحة تامة إن في النوم أيضا تُقبض الروح فقط كما تُقبض عند الموت، ولا يُقبض الجسد. فكل شخص يستطيع أن يُدرك أنه لا يُرفع إلا ما يُقبَض، وليس أنَّ ما يُقبَض هو الروح وأمّا ما يُرفع فهو الجسد. ولو قيل ذلك لكان هذا المعنى معارضا تماما للآيات القرآنية كلها ومشيئة الله أيضا؛ فكلما استخدم القرآن الكريم فعل “التوفِّي” – على سبيل الاستعارة – للإشارة إلى النوم، قال في تلك الأماكن أيضا إننا نقبض الروح ونترك الجسد على حاله، والفرق الوحيد بين الموت والنوم هو أنه في حالة الموت لا نحرر الروح بعد القبض، بل نحتفظ بها عندنا، أما في حالة النوم فنقبض الروح إلى مدة معينة ثم نحررها فتعود إلى الجسم.
الآن، يجب التدبر؛ أفلا يكفي هذا البيان القرآني للفهم أن الله لا يهمه قبض الجسم ورفعه سواء في حالة الموت أو النوم؟ فالله سبحانه وتعالى يقول بنفسه إن الجسد خُلق من طين، ويعود إلى التراب في نهاية المطاف. إن الله تعالى يقبض الأرواح منذ بدء الخليقة ويرفع إليه الأرواح فقط. فما دام هذا هو واقع الأمر وهذا هو الحق والصدق، وأيضًا لو افترضنا جدلا في هذه الحالة أن معنى “إِنِّي مُتَوَفِّيك” هو أنني سأقبض روحك بالأسلوب نفسه الذي تُقبض به روح النائم، فمع ذلك لا علاقة للجسم بهذا النوع من القبض. ولن يثبت من تفسيرٍ كهذا إلا أن روح المسيح قُبضت في حالة النوم، وبقي الجسد في مكانه على الأرض، ثم أُعيدت إليه في وقت آخر. وهذا المعنى باطل بالبداهة وينافي ما يهدف إليه كِلا الفريقين، لأنه لا علاقة لنوم المسيح لفترة وجيزة واستيقاظه ببحثنا قط. وإن آية القرآن الكريم المذكورة آنفًا تعلن بأعلى صوتها أن روح المسيح ما أعيدت إلى الجسد – بعد أن قُبضت – كما تعاد روح النائم، بل رفعها الله تعالى إليه كما يتبين من الكلمات الصريحة الدلالة: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ “.
يجب أن ننظر بعين العدل والإنصاف أنه كما قال الله جلّ شأنه في القرآن الكريم في حق المسيح عليه السلام “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” كذلك قال في حق سيدنا ومولانا النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: “وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” أي قد ورد فعل “التوفِّي” في كِلا الموضعين، في حق المسيح عليه السلام وفي حق سيدنا ومولانا صلى الله عليه وسلم، فكم هو بعيد عن العدل والإنصاف أن نستنتج من “التوفِّي” الوارد في حق سيدنا ومولانا صلى الله عليه وسلم معنى الموت، ونصرفه عن معناه الحقيقي والمعروف إذا وردت الكلمة نفسها في حق عيسى عليه السلام، وبذلك نجنف عن المعنى المتفق عليه الذي يتبين من القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، ونختلق من عند أنفسنا معنى آخر. إذا لم يكن هذا هو الإلحاد والتحريف فما الانحراف والتحريف إذًا؟
هناك تفاسير مبسوطة موجودة في العالم مثل تفسير الكشاف ومعالم التنـزيل والتفسير الكبير للإمام الرازي وتفسير ابن كثير وتفسير مدارك التنـزيل وفتح البيان وغيرها، وقد ورد في جميع هذه التفاسير تحت الآية: “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” “إني مميتك حتف أنفك“، أي يا عيسى سأُمِيتُك موتا طبيعيا دون أن تموت على الصليب أو بالضرب.
وغاية ما في الأمر أن بعض المفسرين فسروا هذه الآية بأوجه أخرى أيضا نتيجة قصور فهمهم، ولكنهم فعلوا ذلك بناءً على رأيهم الشخصي الذي لا أصل له، وليس بناءً على آية أو حديث. ولو كانوا أحياء لَسُئلوا: لماذا وبأي دليل لبستم الحق بالباطل؟ على أية حال، ما داموا قد اعترفوا أن من جملة الأقوال المختلف فيها قولٌ بأن المسيح عليه السلام مات حتما ورُفعت روحه، فإن زلاّتهم الأخرى تستحق العفو. علما أن بعضهم – مثل صاحب الكشاف – ضعّف الأقوال الأخرى بنفسه؛ إذ أسبقها بكلمة “قيل“.
الآن، وقد أسهبنا في بحث فعل “التوفِّي“، وتبيّن أنه قد استُعمل في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته بمعنى قبض الروح فقط، بقي أن نرى بأي معنى استُخدِمَ في القرآن الكريم فعل “الرفع” في: “رَافِعُكَ إِلَيّ“؟
ليكن معلوما أنه كلما ورد فعل “رفع” في القرآن الكريم في حق الأنبياء والأخيار والأبرار كان معناه العام هو بيان منـزلةٍ عليا في السماء يحتلها هؤلاء الأخيار عند الله من حيث مكانتهم الروحانية ونقطتهم النفسية، وأيضًا كي يبشَّروا أن روحهم ستُرفع بعد الموت وفراقِها الجسدَ إلى مقام قُربهم عند الله؛ إذ يقول الله جلّ شأنه في القرآن الكريم لإظهار المكانة السامية لنبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم: “تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ” (البقرة:253). أي أن جميع الأنبياء ليسوا سواسية من حيث درجاتهم، بل بعضهم نال شرف الكلام وجها لوجه، ورُفعت درجاتُ بعضهم أكثر من غيرهم.
لقد جاء في الأحاديث تفسير هذه الآية بأن روح كل نبي تُرفع إلى السماء بعد مماته وتنال مقاما في سماء من السماوات بحسب درجتها، فيقال بأنها رُفعت إلى مقام كذا وكذا، وذلك لتستبين درجتها الظاهرية أيضا بحسب درجتها الباطنية. إذًا، فهذا الرفع إلى السماء يكون لتحقيق الدرجات. وأما العبارة: “رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ” التي وردت في الآية المذكورة آنفا ففيها إشارة إلى أن رفع النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى ممن رفع إليه غيره من الأنبياء، وأن روحه لم تستقر في السماء الثانية مثل روح المسيح، ولم تستقر في السماء السادسة مثل روح موسى بل هي أعلى وأسمى من الجميع على الإطلاق. هذا ما يدل عليه حديث المعراج بمنتهى الصراحة. بل ورد في “معالم النبوة” حديثٌ بأن النبي صلى الله عليه وسلم حين تجاوز السماء السادسة ليلة المعراج قال موسى: “ربِّ لم أظنّ أن يُرفع عليّ أحد.” لاحِظوا هنا أن فعل “رفع” قد استخدِم لبيان الدرجات فقط. وتَبَيَّن معنى الآية القرآنية المذكورة آنفًا من خلال الأحاديث النبوية أن كل نبيٍّ يُرفع إلى السماوات بحسب درجته، وينال نصيبه من الرفع بحسب مقام قربه. وتبيّن أيضا أن أرواح الأنبياء والأولياء – وإن كانت على الأرض أثناء حياتهم في الدنيا – تكون لها صلة مع سماءٍ تُعتَبر حدًّا أعلى لرفعِها. ثم بعد الممات تستقر روحه في السماء التي جُعلت الحدَّ الأعلى لرفعها.
فالحديث الذي يذكر رفع الأرواح عموما بعد الممات يؤيد هذا البيان.
ولأن هذا البحث واضح وصريح للغاية، وقد كتبت في هذا الموضوع من قبل أيضا، لذا لا أرى حاجة للإسهاب فيه الآن.
يجدر بالبيان في هذا المقام أن بعض المفسرين عندما رأوا أن معنى “التوفِّي” في الآية: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” هو الإماتة في الحقيقة، وأن: “رَافِعُكَ إِلَيّ” تدل بقرينة الموت الصريحة على رفع الروح، قلقوا أن ذلك يخالف رأيهم بمنتهى الصراحة، فاقترحوا إصلاحا أن كلمة: “رَافِعُكَ “هنا متقدمة على “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” حاسبين أنفسهم بمنـزلة مصلحي الترتيب الوارد في القرآن الكريم، واختاروا لأنفسهم منصب المعلِّم. ولكن القراء يعرفون جيدا كم يمس ذلك بكرامة كلام الله الأبلغ والأفصح، وإلى أي مدى يحطّ من شأنه!
هنا يجب أن يكون معلوما أيضا أن ما قاله الله تعالى بحق المسيح عليه السلام: “وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ” (النساء:157)، ليس المراد منه قط أن المسيح لم يمت. أليس هناك طريق آخر لموت الإنسان إلا أن يُقتَل أو يُصلب؟ بل المراد من النفي الوارد هنا أمر آخر؛ فقد ورد في التثنية 21: 23 أن “المعلَّق ملعون من الله“، واليهودُ الذين قتلوا المسيحَ على الصليب على حد زعمهم، كانوا يظنون لتمسكهم بهذه الآية أن المسيح ابن مريم لم يكن نبيا ولا مقبولا عند الله، لأنه مات على الصليب، بحسب مضمون التوراة التي تقول أن الذي يموت على الصليب ملعون، فأراد الله تعالى أن يُظهر الحقيقة للعيان ويدحض زعمهم هذا، فقال: ما صُلب المسيح ابن مريم في الحقيقة، وما قُتل، بل مات ميتة طبيعية.
(المصدر: كتاب إزالة الأوهام، تأليف الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني )