قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني في كتاب إزالة الأوهام:
السؤال 14: مع أن موت المسيح ثابت من القرآن الكريم، ولكن لا يثبت لموته وقت محددٌّ. فما السبيل إلى رفع التعارض بين القرآن والحديث إلا أن يُعتبر زمن هذا الموت بعد نزوله الثاني؟
أما الجواب: فاعلموا أن نصوص القرآن الكريم البينة تدل بصراحة تامة على أن المسيح قد مات في زمنٍ جاء فيه لإصلاح فِرق اليهود الفاسدة كما يقول الله جلّ شأنه: “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”. والواضح هنا أن الله تعالى قد أورد أولاً: “إِنِّي مُتَوَفِّيكَ” ثم أورد: “رَافِعُكَ”، وهذا يثبت أن عيسى عليه السلام مات أولا، ثم رُفع بعد الممات. والدليل الآخر هو أن الله جلّ شأنه يقول في هذه النبوءة أني سأجعل متّبعيك – بعد مماتك- غالبين على خصومك من اليهود، وذلك إلى يوم القيامة. فالواضح الآن أن النصارى والمسلمين كلهم يقبلون أن هذه النبوءة قد تحققت بكل جلاء بعد زمن المسيح عليه السلام إلى ظهور الإسلام، لأن الله تعالى جعل اليهود خاضعين للمسيحيين والمسلمين، ومحكومين على يدهم، ولا يزالون يخضعون لهم بعد مرور مئات السنين. وليس أنهم سيخضعون لهم بعد نزول المسيح عليه السلام. إن هذا المعنى باطل بالبداهة.
وجدير بالتدبر أيضا أن في القرآن الكريم آية يقول الله جلّ شأنه فيها على لسان المسيح عليه السلام: “وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي” (مريم:31-32). والواضح أن العمل بهذه الواجبات الشرعية في السماء محال. والذي يعتقد أن المسيح قد رُفع بجسده إلى السماء حيا، لا بد له أن يؤمن أيضا بناء على مضمون هذه الآية بأن كافة أحكام الشريعة- التي يجب على الإنسان أن يعمل بها بحسب الإنجيل والتوراة- لا تزال واجبة على المسيح عليه السلام حتى الآن، مع أنها تكليفٌ بما لا يطاق. واللافت في الموضوع أن يأمر الله تعالى عيسى من ناحية بأن عليك أن تخدم أمك ما دمتَ حيا، ثم يفصل بنفسه بينه وبينها في حياته. وكذلك يأمره بأداء الزكاة طول حياته، ثم يوصله في حياته إلى مكان لا يستطيع أن يؤدي فيه الزكاة ولا يستطيع أن ينصح أحدا بأدائها. كذلك ينصحه الله أيضا بالصلاة، ثم يرميه بعيدا عن جماعة المؤمنين الذين كانت صحبتهم ضرورية لتكميل الصلاة. فهل حصلت أية فائدة من هذا الرفع سوى النقصان الكبير في العمل وضياع حقوق العباد وفوات مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فلو بقي عيسى عليه السلام حيا على الأرض إلى هذا العام -1891م – لاستفاد خلق الله من ذاته جامع البركات فوائد جَمَّةً، ولكن ماذا كانت نتيجة صعوده إلا أن فسدت أمته، وحُرم هو من أداء مهمات النبوة كليا؟
عندما نتعمق في آية يقول الله جلّ شأنه فيها: “وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ” (الأنبياء:8)، وهذا يستلزم – بحسب اعتقاد خصومنا – أن يأكل المسيحُ الطعام في السماء ويتبرّز، وتتيسر له هنالك الحاجات البشرية الأخرى كلها، مثل اللباس والأواني والمأكولات وغيرها. ولكن هل يثبت كل ذلك من القرآن الكريم والحديث الشريف؟ كلا.
لا يسع خصومنا إلا أن يقولوا في الجواب بأن حياته عليه السلام في السماء تختلف عن حياة الإنسان العادية، فهو ليس بحاجة إلى أيٍّ من الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان الساكن على الأرض، وإن جسمه الآن من نوع خاص بحيث لم يعد بحاجة إلى الطعام ولا إلى اللباس ولا إلى البول والتبرُّز ولا يؤثر فيه الدهر كما يؤثر في الأجساد الأرضية، ولم يعد مكلَّفا بأحكام الشريعة.
وجواب ذلك أن الله تعالى يقول بكل وضوح إن هذه الحاجات جزء لا يتجزأ من الأجساد المادية كلها ما دامت حيَّةً؛ فقد قال تعالى: “وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ”. والواضح جليا أنّه قد ذُكِر في الآية الجزء، وأُريدَ منه الكلُّ؛ فمع أن الله سبحانه وتعالى قد قال بأنه ما جعل جسد نبيٍّ يمكن أن يعيش بغير الطعام، إلّا أنه ذكر في هذا الصدد ضمنيًّا جميع المستلزمات والنتائج التي تعقب تناول الطعام. فإذا رُفع المسيح إلى السماء بجسده، فلا بد أن يأكل الطعام، وأن تلازمه حاجات ضرورية أخرى أيضا مثل البول والتبرز، لأنه لا يمكن أن يكون كلام الله كاذبا.
وإن قلتم بأن المسيح لم يصعد إلى السماء بالجسد المادي، بل دُفن ذلك الجسد في الأرض، وأن الجسد النوراني الذي أُعطيه المسيح كان بريئا من حاجات الأكل والشرب فرُفع بذلك الجسد. قلتُ: هذا هو الموت بعينه الذي أقررتموه أخيرا، وهذا ما نعتقد به نحن أيضا؛ وهو أن المقدَّسين يُعطَون جسما نورانيا بعد الممات. والنور الذي يصحبهم، يصبح لهم جسدًا وبه يُرفَعون إلى السماء. هذا ما يشير إليه الله جلّ شأنه في قوله: “إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ” (فاطر:10). أيْ أن الأرواح الطيبة والنورانية تصعد إلى الله تعالى، والأعمال الصالحة ترفعها أكثر، أيْ كلما كثرت الأعمال الصالحة رُفعت الروحُ أكثر فأكثر.
لقد أطلق الله تعالى على الروح هنا “الكَلِمُ” وفي ذلك إشارة إلى أن الأرواح كلها كلمات الله في الحقيقة، ولكنها تحولت إلى الأرواح كسِرٍّ لا يُدرَك، ولا يمكن للعقل أن يسبر غوره.
وإلى هذا الأمر يشير مضمون الآية: “وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ” (النساء:171). ولما كان ذلك سرّ الربوبية، فليس لأحد أن ينبس ببنت شفة أكثر من أن كلمات الله هي التي تَلبس حلَّة الروح بأمر الله وإذنه سبحانه وتعالى، وتنشأ فيها كافة القوى والقدرات والخواص التي توجد في الأرواح. والأرواح الطيبة تتخلى عن جميع قواها في حالة فنائها في الله، وتفنى في طاعته، فكأنها تخرج من حالة الروح، وتتحول إلى كلمة الله نهايةً، كما كانت كلمة الله بدايةً.
إذًا، فإن تسمية هذه الأرواح الطيبة بكلمة الله، إشارة إلى كمالها البالغ ذروته، فإنها تُعطَى لباس النور، وبقوة الأعمال الصالحة تُرفع إلى الله تعالى.
إن المشايخ الحرْفيين في عصرنا يظنون بسبب أفكارهم السطحية أنه ليس المراد من الكلمات الطيبات إلا المعتقدات والأذكار والأشغال، وأن المراد من الأعمال الصالحات أيضا هي الأذكار والخيرات وما شابهها فقط؛ فإنهم بتفسيرهم هذا يخلطون بين العلة والمعلول، ويجعلون منهما شيئا واحدا. لا شك أن الكلمات الطيبات أيضا تعود إلى الله، ولكن المعنى الذي ذكرته معنىً باطني، يعرفه العارفون، ويشمل إشاراتٍ دقيقةً في القرآن الكريم.
( المصدر: كتاب إزالة الأوهام، تأليف الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني )