قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني في كتاب إزالة الأوهام:
السؤال 5 :لم يفسّر أحد من السلف والخلف نزول ابن مريم في الأحاديث – التي يُفهَم منها أنه المسيح عيسى عليه السلام ظاهريا – بأن “ابن مريم” يراد منه غير ابن مريم الحقيقي، بل مثيله. وبالإضافة إلى ذلك هناك إجماع على حمل النصوص على ظاهرها ولا يجوز صرفها إلى باطنها دون قرائن قوية.
أما الجواب: فليتضح أن الأمر كان قضية إيمان عند السلف والخلف فآمنوا بالنبوءة إجمالا، ولم يدّعوا قط أنهم وصلوا إلى كنهها، ولم يقولوا إن المراد من ابن مريم هو عيسى بن مريم حقيقةً. لو قاموا بادّعاء كهذا، لما اعتقدوا بموت الدجال، ولما سكتوا على آيات القرآن الكريم التي تتناول ذكر موت المسيح معتبرين إياها خارجة عن موضوع النقاش. ولو افترضنا جدلا أن أحدا من الصحابة حسِبَ أن المراد من ابن مريم هو عيسى بن مريم نفسه، لما حدث أيّ خلل، فقد صدرت أحيانا أخطاء من الأنبياء أيضا في فهم النبوءات قبل تحققها، فلا غرابة إذا أخطأ صحابي في ذلك. إن فراسة رسولنا صلى الله عليه وسلم وفهمه، أكثر من فراسة كافة أفراد الأمة وفهمها مجتمعة. ولولا أن يغضب إخواننا المسلمون بسرعة، فإن مسلكي الذي أستطيع إثباته بالحجة هو أن فراسة جميع الأنبياء وفهمهم لا يساوي فراسة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك اعترف صلى الله عليه وسلم بنفسه أنه أخطأ في فهم حقيقة بعض النبوءات. لقد ذكرتُ بضع مرات من قبلُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزوجاته بوضوح: أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا، فبدأن – بحضوره صلى الله عليه وسلم – يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا. ولما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا يعرف حقيقة النبوءة حينها، فلم يمنعهن من ذلك ولم يقل بأنكُنّ مخطئات في ذلك، حتى سُدِّد الخطأ عند تحقق النبوءة. ولو أمهل الله تعالى أمهات المؤمنين وبقينَ كلُّهن على قيد الحياة إلى عصرنا هذا لكان واردا تماما أن تبقى الأمةُ مجمِعةً منذ عهد الصحابة إلى العصر الراهن على أن أطولهن يدًا ستموت قبل غيرها. وكم كان هذا الإجماع سيكون مدعاةً للخجل والندم إنْ ماتت مَن ليست أطولهن يدا عند تحقق النبوءة، وإلى أيِّ مدى كانوا سيعرِّضون النبي صلى الله عليه وسلم للإساءة بغير حق، ويعرِّضون إيمانَهم للشبهات!
وبالمناسبة، تذكَّرت قول أحد الأصدقاء، وكان اسمه المرحوم “الحافظ هدايت علي”، تغمده الله بواسع رحمته – وقد شغل فيما سبق منصب نائب المفوَّض في محافظة غورداسبور، ورئيس المديرية في بتالة إلى فترة طويلة – إذ قال في أحد الاجتماعات: (إن الأمور التي وُعد بظهورها في الزمن الأخير والنبوءات التي أُنبئ بها، ينبغي ألا نعتقد أنها ستتحقق بمعناها الحرفي حتما، وذلك حتى لا نتعثّر ولكي يسلم إيماننا لو ظهرت حقيقتها بطريقة أخرى في المستقبل. وأضاف قائلاً: لعلنا قد ولِدنا في الزمن الذي قيل عنه قبل 1300 عام – أو أقل من ذلك بقليل – إنه الزمن الأخير؛ فلا غرابة لو تحقّقت بعض تلك النبوءات في حياتنا. فعلينا أن نتمسك بمبدأ الإيمان الإجمالي بقوة، وينبغي ألا نركِّز على شق معين كتركيزنا عندما نصل إلى كنه حقيقة ما.) تم كلامه.
وهذا هو الحق والصدق الجلي، أنْ لا علاقة لإجماع الأمة بأمور النبوءات، وإن المشايخ المعاصرين مخدوعون جدا إذ يريدون أن يجرّوا إلى قبضة الإجماعِ تلك النبوءاتِ أيضا التي لا تزال في حُجُب الغيب.
الحق أن مَثَل الأنباء كمثل امرأة حامل، فيمكننا مثلًا أن نقول إن في أحشائها جنينا حتما، وأنه سيولَد أيضا في غضون تسعة أشهر وعشرة أيام، ولكن لا يمكننا الجزم على وجه الدقة بشكله أو حالة جسمه أو ملامح وجهه، أو إنْ كان ذكرا أم أنثى.
وهنا قد يخالج قلب أحد اعتراضٌ أنه لو كان هذا هو حال النبوءات، لما كانت جديرة بالاعتبار، ولما كانت جديرة بأن تُعدَّ دليلا على صدق نبيٍّ أو جديرة بأن تقدَّم شهادةً أمام مُعارضٍ ومنكِر.
فجوابه أن النبوءات تتحقق أحيانا بصورة ظاهرية، وفي بعض الأحيان بصورة باطنية، وهذا لا يحط من شأن النبوءات الإلهية شيئا، بل تزداد عظمةً في عيون أصحاب النظرة الدقيقة. فمثلا لو فهم ذو فهْمٍ بليد قولَ فيلسوف على عكس الحقيقة، ثم تبيّنت بعد ذلك معانيه المعقولة والمتحققة والثابتة، فهل يحط خطأ الغبي من شأن المعنى الصحيح شيئا؟ كلا.
إضافة إلى ذلك يبقى قاسم مشترك ملحوظا في الأنباء في كل الأحوال، بحيث لو حُملت على ظواهر كلماتها أو ظهرت لها معانٍ مجازية في نهاية المطاف، فإن ذلك القاسم المشترك يُبيِّن بالبداهة أن النبوءة صادقةٌ في الحقيقة وتفوق قدرات البشر.
إضافة إلى ذلك فالنبوءات التي تُقدَّم أمام الخصوم تحدِّيا تضم في طياتها لمعانا خاصا وبداهةً، ويتوجّه الملهَمون إلى الله تعالى بوجه خاص فتُكشَف عليهم حقيقتها أكثر. ومع ذلك تكون معظم زواياها خافية كما جرت العادة. فمن الجهل والتعنت الظنُّ أن النبوءات تُحمَل على ظواهرها في كل الأحوال. كل من قرأ كتب اليهود والنصارى يعلم جيدا كم استُخدمت من الاستعارات في النبوءات الواردة فيها بحيث قد ذُكر في بعض الأماكن فيها يومٌ وأُريدَ منه سنة. الحق أن النبوءات تكون من قبيل الكشوف وتصدر من النبع الذي يتدفق بالاستعارات. تأمَّلوا في رؤاكم، هل ترون رؤيا واضحة تمام الوضوح إلا فيما شذ وندر. كذلك يُظهر الله الكشوف أيضا بواسطة أنبيائه مزيّنةً بخلعة الاستعارات. وإن تسمية قبول هذه الحقيقة إلحادًا، هو إلحادٌ في حد ذاته، لأن الإلحاد ليس إلا صرف المعنى عن حقيقته. فما دام قانون الله في الطبيعة قد وضع للكشوف والرؤى الصالحة مبدءًا بأن تغلب عليها الاستعارات في معظم الحالات فإن صرفها عن هذا المبدأ والادعاءَ أن النبوءات تُحمَل على ظاهرها دائما ليس إلا الإلحاد بعينه. إن اعتبار النبوءة حقيقة مكشوفة مثل أحكام الصوم والصلاة خطأ فادح وخديعة كبرى. لقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام بعمله وأماطَ اللثام عنها كليًّا. ولكن هل قال النبي صلى الله عليه وسلم بحق الأنباء أيضا بأنها مكشوفة من كل الوجوه، ولا توجد فيها حقيقة أو كيفيةٌ مكنونةٌ تُفهَم عند تحققها؟ إذا كان هناك حديث بهذا المعنى فلماذا لا تقدّمونه؟
لستم أكثر فراسة وعلمًا من النبي صلى الله عليه وسلم، اقرأوا صحيح البخاري تجدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ صورة عائشة رضي الله عنها على قطعة حرير على أنها ستكون زوجه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يدَّعِ أبدا أن المراد منها هو عائشة في الحقيقة، بل قال إنه إذا كان المراد من صورة عائشة هو عائشة حقيقةً، فلسوف أنالها، وإلا يمكن أن يكون المراد منها امرأة أخرى. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا إنه أُعطِي عنقودا من عنب الجنة لأبي جهل، ثم ثبت أن مصداق هذه النبوءة هو ابنه عكرمة. فلم يصرّح النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قط بشأن جزء معين من أجزاء نبوءةٍ ما لم يكشف الله عليه جميع جوانبها بوضوح.
تعرفون جيدا أنه حين شارطَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبا جهلٍ، وجعل مدار الشرط في نبوءة القرآن الكريم: “الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ” (الروم:1-4) مدة ثلاثة أعوام لتحققها؛ غيّر النبي صلى الله عليه وسلم بفراسته في الشرط بعض الشيء فورا نظرا إلى طبيعة النبوءة وقال لأبي بكر رضي الله عنه إن عبارة: “بِضْعِ سِنِينَ” مجملة، وتطلَق في معظم الأحيان على مدة تمتد إلى تسع سنين.
كذلك ذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم لإفهام الأمة، أنه قد صدر منه أيضا خطأ أحيانا في فهم بعض النبوءات (كالنبأ عن الهجرة؛ حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ (البخاري، كتاب المناقب، باب النبوة في الإسلام)، ففي هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد صدر منه خطأ في فهم النبوءة. وهناك أمثلة أخرى تطرق إليها المسيح الموعود عليه السلام في هذا الكتاب).
ألا يكفي الآن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ ألا يعلن هذا التعليم بأعلى صوته أن آمِنوا بالنبوءات إجمالا وفوِّضوا حقيقتها إلى الله ولا تفرِّقوا الأمة واسلكوا سبيل التقوى؟
يا أيها الناس، فكّروا في الأمر جالسين في بيوتكم فُرادى، وتدبَّروا في كلامي ببساطة وأنتم في أسرّتكم، اذهبوا إلى المقابر، واطلبوا لأنفسكم نظرة غير ضبابية ذاكرين موتكم، وتأمّلوا جيدا؛ ما هو طريق التقوى؟ وما هي سبل الحذر وخشية الله؟ وإن كان تشابَه عليكم ما قدَّمتُه لكم، فأي ضير في أن تبقوا قائمين على إيمانكم إجمالا ولا تتدخلوا في تفاصيله الخفية وتفوِّضوا أمري إلى الله؟ لا أُكره أحدا على شيء، إن هو إلا تبليغ، سواء أأصغى إليه أحد أم لم يُصغِ. فلو رزق الله أحدا يقينا وعرفني وآمن بكلامي، فهو أخي بوجه خاص، وله الأجر على إيمانه دون شك. ففكرِّوا في أنفسكم؛ أي ضير عليكم وأية مؤاخذة يمكن أن تتعرضوا لها عند الله لو فوَّضتم – على الأقل – الدقائق الخفية لهذه النبوءة إلى الله وتوقّفتم على حدود الإيمان فقط وما ادّعيتم المعرفة الكاملة دون مبرر؟ هل ستؤاخَذون لو فعلتم ذلك؟ ولكن لو تجاوزتم حدود الإيمان وادّعيتم ما لم تُعطَوا من علمه شيئا، لسُئلتم حتما عن هذا التدخل غير المبرَّر.
يا أيها المشايخ الكرام، لماذا تُلقون الناس في الابتلاء؟ ولماذا تدّعون أكثر مما تعلمون؟ حتى لو لم تكن هناك قرينة مضادة في حديثٍ عن نزول ابن مريم، بل كشف عليكم مسلمٌ المعنى بإلهامه فقط، وقال إن المراد من ابن مريم هنا ليس عيسى بن مريم في الحقيقة؛ لما كان لكم حقّ بأن تدّعوا وتقولوا مقابله بأن المراد من ابن مريم هو ابن مريم الحقيقي، لأن الاستعارات هي السمة الغالبة في الكشوف، وإن الإلهام من الله يفيد قرينةً قوية لصرفها عن الحقيقة، وأنتم مأمورون بحسن الظن.
أما هنا فلا يقتصر الأمر على الإلهام فقط، بل هناك قرائن قوية أخرى أيضا. ألا يكفيكم قرينةً أن الله تعالى قد بيّن في عدة آيات موت المسيح، ولم يذكر كونه حيًّا أو رفْعه إلى السماء حيًّا ولو بإشارة خفيفة؟ أوَلا يكفيكم قرينةً أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ملامح ابن مريم الآتي مختلفة عن الراحل؟ أوَلا يكفيكم قرينةً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن المسيح الآتي سيكون فردا من الأمة، ورآه يطوف بالكعبة؟
أما العذر بأن هناك إجماعا على حمل النصوص على ظواهرها أي أن تؤخَذ من القرآن والأحاديث معانٍ ظاهرية، فليتضح في جوابه أنه عذرٌ تَتِمّ به حجتنا على خصومنا في الحقيقة، لأنهم هم الذين اختاروا طريقا غير سليم إذ يصرفون نصوص كلام الله البينة إلى الباطن دون قرينة. لقد استخدم القرآن الكريم فعل “التوفِّي” في 25 موضعا بمعنى قبض الروح، وبيّن في كل موضع أن معنى “التوفِّي” هو قبض الروح وترك الجسد على حاله. لكن هؤلاء القوم – هداهم الله – يقبلون هذا المعنى المذكور في 23 موضعا، أما في الموضعينِ المتنازع فيهما حيث ذُكر موت المسيح، فينحتون معانيَ أخرى من عند أنفسهم.
والآن يجب الانتباه جيدا، أَنحن مَن أعرض عن ظواهر النصوص أم هؤلاء القوم؟ صحيح أن المراد من كلمة نزول “ابن مريم” الواردة في الأحاديث ليس ابن مريم الحقيقي حسب رأينا، ولكن هذا لا يستلزم أننا صرفنا النص من الظاهر إلى الباطن، بل اضطررنا لقبول هذه الاستعارة – بغض النظر عن إلهام الله – لأن نصوص القرآن البيّنة والأحاديث الصحيحة تحول دون حملها على الحقيقة. ولقد بيّنّا الأدلة الصريحة بهذا الصدد مرارا، فحتّامَ نكرر الكلام نفسه؟
( المصدر: كتاب إزالة الأوهام، تأليف الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني )