النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء أبرياء من مس الشيطان
ذهب الإمام المهدي (لمسيح الموعود) ميرزا غلام أحمد عليه السلام للنزهة صباحا مع لفيف من الصحابة وقال: لقد قرأت كتاب شيخ ألّفه حديثا جاء فيه أنه لم يولَد أحد في العالم نزيها من مس الشيطان إلا عيسى عليه السلام وأمَّه مريم وأن مريم وابنها وحدَهما بريئان من مس الشيطان. لقد تأسفت لقراءة هذا الكتاب كثيرا على أن هؤلاء الناس يكفروننا أما حالتهم فقد بلغت مبلغا حيث لا يحسبون الأنبياء كلهم– بمن فيهم نبينا الأكرم، وهو سيد الأطهار– بريئين من مس الشيطان، وأنه كان في ولادة النبي دخلٌ للشيطان والعياذ بالله، ولكن لم يكن له دخل في ولادة عيسى وأمه. إنني لأتأسف مرة بعد أخرى نظرا إلى ما بلغته حالتهم. إنا لله وإنا إليه راجعون.
يقدم هؤلاء القوم حديثا من صحيح البخاري تأييدا لادعائهم هذا ولا يفكرون أن القرآن الكريم هو المقدَّم على كل شيء وقد ورد فيه أن الله تعالى قال للشيطان: “إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنࣱ” (الإسراء:65)، ألم يكن النبي من العباد بحسب رأيهم؟ أولا، إن الحديث الذي يعارض القرآن ليس حديثا أصلا وإن كان في البخاري أو مسلم. ثانيا: الحديث الذي يستلزم الإساءة إلى نبينا الأكرم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، حبيب الله وسيد الأنبياء جميعا، أنى لمسلم غيور أن يقبله حديثا صحيحا؟ لم يبق عند أولئك الذين يهاجمون النبي صلى الله عليه وسلم هجمات سخيفة مثلها أدنى حياء.
لو كان في قلوبهم ذرَّةٌ من حب النبي صلى الله عليه وسلم لما استنبطوا هذا المعنى من هذا الحديث. لا شك أن لورود كل كلام سببا معينا. فقد جاءت في القرآن الكريم هذه الكلمات بحق عيسى عليه السلام وأمه لضرورة أن مريم كانت صدِّيقة وأن روح عيسى عليه السلام كانت من الله تعالى، كذلك جاءت الكلمات في الحديث المشار إليه لضرورة أن ولادة عيسى عليه السلام كانت بريئة من مس الشيطان. وقد مسَّت هذه الضرورة لأن اليهود كانوا ولا يزالوا يقولون إن مريم كانت زانية، والعياذ بالله، وأن ولادة يسوع كانت غير شرعية وبمس الشيطان. فقال الله تعالى في كلامه وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ردا على قولهم هذا بأن هذه التهم باطلة بل كانت مريم صديقة وأن ولادة عيسى عليه السلام كانت بريئة من مس الشيطان. ولما لم يخطر حتى ببال كافر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأمه الطاهرة فكرة كهذه قط، بل كان صلى الله عليه وسلم طيبا وطاهرا لدى الجميع من حيث ولادته وكانت أمه عفيفة وطاهرة، فلم تكن هناك حاجة لبيان مثل هذه الكلمات، أيْ أنه بريء من مس الشيطان، بحقه صلى الله عليه وسلم أو بحق أمه. ولكن مسَّت الحاجة لبيان هذه الكلمات بحق عيسى وأمه لتبرئتهما من تهم اليهود. والحال نفسه ينطبق على الأنبياء الآخرين؛ أي لم يوجَّه إليهم أيضا اعتراض مثله وبالتالي ما مسَّت الحاجة إلى دحضه. من المؤسف حقا أن هؤلاء المشايخ لا يعرفون لماذا ذكُرت هذه الأمور في القرآن الكريم والأحاديث.
إنهم لا يدرون أن الكلام من هذا القبيل يأتي لذبّ بهتان ما. لقد ذكُر في القرآن الكريم أن مريم اتُّهمت تهمة كبيرة لذا سماها الله تعالى صدِّيقةً. من المؤسف أنه لا يفهم كبارهم ولا أتباعهم أن هذا المعتقد يصِّم النبي صلى الله عليه وسلم. ولولا ذكرُ براءةِّ عباد الله من مس الشيطان في القرآن الكريم لكان مع ذلك مِّن مقتضى حب النبي وعظمته والإيمان به ألا يُعتقد عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا المعتقد الخبيث.
وردَ عن مريم عليها السلام دعاء ” وَإِنِّیۤ أُعِیذُهَا بِكَ وَذُرِّیَّتَهَا مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ ٱلرَّجِیمِ” ولكنه أيضا جاء لدفع الاعتراض نفسه. وإلا فإن الله تعالى يريد سلفا أن يجعل أنبياءه وأولياءه رسلا مقدسين، والإرادة نفسُها تجعل ولادتهم وجُلّ أمورهم مقدسة منذ البداية. الأنبياء يكونون طاهرين منذ الولادة ويُبعَدون عن الشيطان. الولادة في الدنيا نوعان، من الرحمن ومن الشيطان. إن ولادة عباد الله تكون ولادة رحمانية، ولا دخل للشيطان فيها. فيقال عنهم “رُوحࣱ مِّنۡهُۖ” أي تكون روحهم من الله، ولا خصوصية لعيسى فيها. بل أرواح جميع عباد الله الصالحين تأتي من الله.
استنتاج العلامة الزمخشري
لقد استنتج الزمخشري في حاشية البخاري من هذا الحديث المعنى نفسَه الذي نستنبطه. إن هؤلاء القوم لا يحبذون الزمخشري ولكني أرى أنه كان أفضل من هؤلاء المشايخ وإنْ كان من المعتزلة، ولكن إيمانه لم يقبل أن توصَم عظمة النبي صلى الله عليه وسلم بل ثارت في قلبه غَيرة الإسلام وحبِّه. الحق أن هؤلاء الناس ليسوا حائزين على تزكية النفس. عندما يختار المرء تزكية النفس تُكشَف عليه معاني القرآن الكريم ومعارفُه1.
ضرورة المجدد
قال الإمام المهدي (المسيح الموعود) ميرزا غلام أحمد عليه السلام :
لقد دعم هؤلاء المشايخ القسسَ كثيرا بمعتقداتهم هذه، إذ ينسبون إلى عيسى عليه السلام بوجه خاص صفات معينة ويقولون بأنها لا توجد في غيره. إن قولهم بأن هذه الصفات لا توجد في أي إنسان يدعم النصارى، ولا بد أن يكون عيسى إلها إذ توجد فيه صفات خاصة دون أن يشاركه فيها أحد.
لقد حلت الآن بالإسلام فتنتان. الأولى هي فتنة خارجية إذ قد ارتد وتنصَّر مئات آلاف الناس، وكثير من غيرهم صاروا شبه مرتدين. إن أبواب الارتداد مفتوحة في كل مكان. والفتنة الثانية هي الفتنة الداخلية، وهي أن المسلمين يساعدون في الارتداد بواسطة معتقداتهم. أليست هناك حاجة لمجيء مجدد عند هذه الفتنة العظيمة؟ من الواضح أن الإصلاح الذي يأتي القادم من أجله يُعطى اسًما بحسبه. فلما كانت الفتنة الكبرى في هذا العصر هي فتنة المسيحية، لذا فالمجدد الذي بُعث لإصلاحها سُمِّي مسيحا.
(المصدر: جريدة بدر؛ مجلد 6، رقم 43، ص 7، بتاريخ: 1907/10/24م.)
وقال الإمام المهدي (لمسيح الموعود) ميرزا غلام أحمد عليه السلام :
العلامات المتنوعة والظروفُ السائدة في العصر الراهن ورأسُ القرن، كلها أمور تُثبت ضرورة المجدد. مهمة المجدد هي إصلاح عصره وإزالة الفتنة الراهنة التي تكون أكبر الفتن، ويأتي للإصلاح بحسب مقتضى العصر. والمعلوم أنه ما من فتنة أكبر في العصر الراهن من أن يُتَّخذ العبد الضعيف إلها من جانب ويُحسَب خالق الأرض والسماء، ومن جانب آخر يكذَّب– والعياذ بالله– نبي صادق جاء كأكبر محافظ على التوحيد في العالم. هذه هي الفتنة التي جعلت مئات آلاف الناس ينحرفون عن عبادة الله ويعبدون الإنسان، وبسببها صار كثير من الناس ملحدين وتلاشى حب التوحيد من القلوب وبقي الإسلام بالاسم فقط، وتأثر الجميع صغارا وكبارا من هذه الفتنة العظيمة. فالإمام والمجدد الذي كان الله تعالى سيبعثه لإصلاح هذا الزمن وبحسب مقتضى الحال سماه المسيحَ لإزالة هذه الفتنة، لأن أمة عيسى عليه السلام هي التي فسدت وأحدثت هذه الفتنة، لذا كان ضروريا لإصلاحها ولإنقاذ الزمن من فتنتها أن يُخلق أحد بالاسم نفسه. فبناء على هذه الحكمة سُمِّي مجدد هذا القرن وإمامُه مسيحا موعودا. الفتنة قسمان، الداخلية والخارجية. أما الخارجية فكانت بأنْ وجّه القسس وأصحاب الأديان المعادية الأخرى إلى الإسلام اعتراضات باطلة ارتد بسماعها آلاف الناس. ونُشرت آلاف الكتب والكتيبات ضد الإسلام، وسعوا لتدمير هذا الدين المقدس من خلال آلاف الاعتراضات الباطلة من كل نوع. واتُّخذ ابن امرأة إلها بتقديمه بأساليب متنوعة.
صحيح أنه كان عليه السلام رسول الله ولكن لم يكن إلها، ولا يفوق الأنبياء الآخرين قيد شعرة، وليست معجزاته نادرة الوجود. أما داخليا فقد واجه الإسلام فتنة أن المسلمين أنفسهم نسبوا إلى عيسى صفات خاصة بالله تعالى وبذلك نصروا المسيحيين كثيرا.
(المصدر: جريدة الحَكَم؛ مجلد 11، رقم 38، ص 1، بتاريخ 1907/10/24م.)
1جاء في جريدة الحَكَم الزيادة التالية: إن تزكية النفس شيء لا يمكن أن يفهم المرء بغيره جزءا كبيرا من القرآن الكريم. الذين تتزكى نفوسهم وهم ذوو قلوب نقية ومطهَّرون تخطر ببالهم أفكار كثيرة تلقائيا تنسجم مع مفاهيم القرآن الكريم، وينحل عليهم القرآن الكريم تلقائيا. (مجلد 11، رقم 39، ص 9، بتاريخ: 1907/10/31م)