قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني :
ألا ترون أنه – صلى الله عليه وسلم – قال في علامات المسيح وفي بيان وقت ظهوره إنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير؟ فاعلموا أنّه – صلى الله عليه وسلم – أشار إلى أنه يأتي في وقت يُعبَد الصليب فيه، ويؤكل الخنزير بكثرة، ويكون لعبدة الصليب غلبة في الأرضين. فيأتي ويكسر غلبتهم، ويدقّ صليبهم، ويهدم عماراتِهم، ويخرّب مرتفعاتهم بالحجج والبراهين.
( المصدر: كتاب التبليغ، تأليف الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني )
قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني :
يعتقد المسلمون والمسيحيون بشيء من الاختلاف أن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام قد رُفع إلى السماء بجسده المادي، وسينـزل من السماء في وقت من الأوقات. ولقد سبق أن بيّنتُ خطأ هذا الاعتقاد في هذا الكتيب، وبيّنت أيضا أن المراد من النـزول ليس نزول المسيح ابن مريم في الحقيقة، بل قد أُنبئ على سبيل المجاز والاستعارة بمجيء مثيل المسيح وأنا مصداقه وفق إعلام من الله وإلهامه.
وإنني أعلم يقينا أن أقلاما كثيرة ستتحرك في المعارضة بعد نشر عقيدتي هذه التي ثُبِّتُّ عليها ببيِّنات الإلهام، وستقوم في العوام ضجة كبيرة ملؤها الاستغراب والإنكار. كنت أنوي بالفعل أن أتجنّب الإسهاب في هذا الموضوع، وأن أُقدِّم لدحض الاعتراضات حين ظهورها أدلةً مفصلة بحسب أفكار المعترضين. ولكني أرى في هذه الفكرة عيبا؛ وهو أن التقصير في الكتابة من جانبي قد يقود عامة الناس أيضا – دع عنك خواص المسلمين أيْ بعض مشايخهم – إلى النهوض لرفض كلامي دون مبرر، وذلك لقصور فهمهم الذي صار جزءًا لا يتجزء منهم نتيجة حالتهم المتردية، وأيضا بسبب تأثُّرهم بفكرة بالية، ولتحيُّزهم إلى إثبات صدق دعواهم. وإن ادّعاءهم مقابلي سيشكِّل عليهم حجابا غليظا يتعذر بل يستحيل عليهم الخروج منه والتراجُع عن رأيهم بعد ترويجه، لأن ما يلاحَظ دائما هو أنه عندما يعلن شيخٌ ما رأيه على الملأ ويعدُّه قرارا نهائيا؛ فإنه يرى التراجع عنه أسوأ من الموت. لذا أردت لوجه الله، ورحمةً بهم – قبل أن يتورطوا في بلاء التعنُّت والتعصُّب بمواجهتهم لي – أن أُفهِّمهم بوضوح وبأدلة قاطعة؛ بما يطمَئن به العاقل والعادل والباحث عن الحق. وإذا مسّت الحاجة لتحرير شيء فيما بعد، فقد يكون للسذج والبليدين للغاية فقط الذين ليس لديهم أدنى إلمام بالاستعارات والمصطلحات والتأويلات الدقيقة المستخدمة في الكتب السماوية، بل لم يمسّوها، وهم تحت النفي الوارد في قوله تعالى: “لا يَمَسُّهُ”.
أولا أريد القول بغية التوضيح: إن هناك نبيَّين اثنينِ يُظَنُّ أنهما صعدا إلى السماء بالجسد المادي بناء على ما ورد في الكتاب المقدس والأحاديث الشريفة وكتب الآثار. أحدهما هو يوحنا الذي يسمَّى إيليا وإلياس أيضا، والثاني هو المسيح ابن مريم الذي يُسمَّى أيضا عيسى ويسوع. تقول بعض الأسفار في العهدَين القديم والجديد عن هذين النبيَّينِ إنهما رُفعا إلى السماء وسينـزلان إلى الأرض في عصر من العصور، وسترونهما نازلَين من السماء. وإن كلمات مشابهة نوعا ما بما ورد في هذين الكتابينِ؛ موجودةٌ في الأحاديث النبوية الشريفة أيضا. ولقد صدر القرار في الإنجيل في نزول إلياس – الذي أُطلق عليه في الكتاب المقدس اسم يوحنا وإيليا أيضا- من السماء؛ بأنه قد تحقق بولادة يحيى بن زكريا. فقد قال عنه المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام بكلمات واضحة: “وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ”. إذن، فقد صدر القرار في محكمة نبيٍّ في قضيةِ صاعدٍ إلى السماء ونازلٍ منها في وقت من الأوقات – أي قضية يوحنا – وتبيَّنت حقيقة النـزول الثاني وكيفيته. فلا بد أن يكون للمسيحيين كلهم اعتقاد متفَق عليه، بحسب ما ورد في الإنجيل، أن إيليا الذي كان يُنتظر نزوله من السماء؛ قد نزل منها في زمن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام إذ وُلد في بيت زكريا ولدٌ اسمه يحيى، بالطبيعة والصفات نفسها. أما اليهود فما زالوا ينتظرون نزوله ويقولون إنه سينـزل من السماء حقيقةً. فأولا؛ سينـزل على منارات بيت المقدس، ثم يقوم اليهودُ مجتمعين بإنزاله من هناك بواسطة السلَّم. وعندما يقدَّم أمام اليهود تفسيرٌ قاله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام عن نزول يوحنا؛ يستشيطون غضبا من فورهم ويشرعون في التفوه بكلمات نابية بحق المسيح وبحق يحيى عليهما السلام أيضا، ويَعُدّون كلامه عليه السلام إلحادا.
على أية حال، لقد ظهرت حقيقة كلمة “النـزول” القابلة للتفسير، من خلال بيان المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وبُتّ في قضية نزول يوحنا من السماء وتبيّنتْ حقيقة نزوله. أما المسيح فلا يزال الناس يؤكدون على نزوله المادي بكل شدة وحماس ويقولون إنه سينـزل من السماء في صحبة الملائكة لابسا لباسا فاخرا وحُلّة مَلكية من أقمشة ثمينة جدا. (هل تكون تلك الأقمشة من قبيل الحرير والاستبرق والسندس وما إلى ذلك من الأقمشة المتنوعة الفاخرة والثمينة؟ ومن نسجها ومن خاطها في السماء؟ لم يخبرنا بذلك أحد المسلمين أو المسيحيين إلى الآن). ولكن لم تتفق هاتان الأمتان على مكان نزوله، هل سينـزل في مكة المعظمة أو في كنيسة في لندن أو في كنيسة ملكية في موسكو؟
لو لم يُضلّ المسيحيين تقليدُ الأفكار القديمة لاستطاعوا أن يفهموا بسهولة أكثر من المسلمين أنه يجب أن يكون نزول المسيح حسب الشرح الذي بيّنه بجلاء تام كلام المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام نفسه، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يُحمَل أمران صنوان على معنيين متناقضينِ. وحريّ بأهل الرأي السديد أن يتدبروا في أنه إذا كان التفسير الذي قام به المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام لنـزول يوحنا من السماء صحيحا فعلا، أفلا ينبغي أن يُطبَّق التفسير نفسه على قضية نزول المسيح التي تشبه تماما القضية التي سبقتها؟ فما دام المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام قد أماطَ اللثام عن حقيقة سرٍّ مكنون، وقانونُ الطبيعة أيضا يقتضي الأمر نفسه ويؤكد على المبدأ نفسه؛ فهل يُعقلُ في هذه الحال أن نترك صراطا مستقيما ونحفر من عند أنفسنا طريقا معوجا ومحط اعتراض؟ هل لضمير أهل العلم والإيمان – الذي يدعمه بيان المسيح بكل قوة – أن يتجه اتجاهًا آخر؟ ولقد سبق أن نشر المسيحيون قبل عشرة أعوام في الجرائد الإنجليزية نبوءتهم أن المسيح سينـزل من السماء في غضون ثلاثة أعوام. أما الآن وقد بعث الله ذلك النازل؛ يتحتم عليهم أن يكونوا أول المؤمنين به حتى لا يُعَدُّوا مكذِّبي نبوءتهم بأنفسهم.
المسيحيون يعتقدون أيضا أن المسيح دخل الجنة بعد الرفع. ففي إنجيل لوقا يُطمئن المسيحُ نفسه لصًّا ويقول: “إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ”(إنجيل لوقا: الإصحاح 23، العدد: 43). ومن معتقدات المسيحيين المتفق عليها أنه لن يُخرَج أحدٌ من الجنة بعد أن يدخلها، مهما تدنّت درجته. وهذا ما يعتقد به المسلمون أيضا؛ إذ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ” (الحجر:48)، أيْ أن الذين يُدخَلون الجنة لن يُخرَجوا منها، علما أن القرآن الكريم لا يصرح بدخول المسيحِ الجنةَ، ولكن وفاته مذكورة في ثلاث آيات، (“فلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ” (المائدة:117)، “وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ” (النساء:159)، “إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” (آل عمران:55)). والحق أن وفاة العباد الأطهار ودخولهم الجنة في حكم واحد، لأنهم يدخلون الجنة فورا حسب مفهوم الآية: “قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ”(يس:26) و “وَادْخُلِيْ جَنَّتِيْ” (الفجر:30). والآن يجب على المسلمين والمسيحيين أن يفكروا جيدا؛ هل يمكن أن يُخرج عبد مقرَّب عند الله مثل المسيح من الجنة بعد أن يدخلها؟ ألا يستلزم ذلك إخلاف وعد الله الوارد في جميع كتبه المقدسة بالتواتر والصراحة بأن الذين يدخلون الجنة لا يُخرجون منها. ألا يُحدث نقضُ هذا الوعد الكبير والقاطع زلزالا شديدا في كافة وعود الله تعالى؟
اعلموا يقينا أنكم باعتقادكم هذا لا تجلبون مصيبة كبيرة لا مبرر لها للمسيح فقط، بل تحطّون أيضا من شأن الله، وترتكبون إساءة شديدة في حقه تعالى بسبب هذه الأفكار العبثية. عليكم أن تنظروا بعين التدبر والإمعان إلى أن الحقائق الدينية العظيمة تفلتُ من أيديكم نتيجة معتقد سخيف مع أن سبيل الاستعارة والمجاز مفتوح أمامكم للتخلص منه. والحق أن هذا الاعتقاد فاسد وتصحبه آلاف المثالب المعقَّدة، ويتيح للمعارضين فرصةً للاستهزاء والسخرية. لقد ذكرت من قبل أيضا أن كفار مكة طلبوا من سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم المعجزة نفسها؛ أن يصعد إلى السماء أمام أعينهم وينـزل منها بين ظهرانيهم، ولكنهم تلقوا ردًّا: “قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي” أي أن الله تعالى أعظم وأسمى شأنا من أن يُري في دار الابتلاء هذه مثل هذه الخوارق البينة ويُضيع الحكمة من الإيمان بالغيب.
أقول: إن الأمر الذي لم يُعتبَر جائزا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أفضل الأنبياء، بل عُدَّ خارج سنة الله، كيف يجوز للمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام؟ فمن الإساءة الشديدة أن نستبعد كمالا بحق النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقبل إمكانية الكمال نفسه بحق المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام. هل يسع مسلما صادقا أن يرتكب إساءة كهذه؟ كلا، ثم كلا.
والجدير بالذكر أيضا أن الفكرة المذكورة آنفا التي راجت بين المسلمين منذ فترة، لا يوجد لها أثر في كتبنا بصورة صحيحة، بل هي ناتجة عن فهم خاطئ لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أضيفت إليها هوامش كثيرة وزُيِّنت بالموضوعات التي لا أصل لها، وقد أُهملت جميع الأمور التي من شأنها أن تهدي إلى الغاية المنشودة. وفي ذلك حديث صريح وواضح قد أورده الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه روايةً عن أبي هريرةرضي الله عنه نصه: “كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم”.
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بوضوح أنه يجب ألا تفهموا من كلمة ابن مريم أن عيسى بن مريم نفسه سينـزل في الحقيقة، بل قد ذُكر هذا الاسم على سبيل الاستعارة. والحقيقة أن إمامكم سيُبعث منكم ومن قومكم حاملا صفات ابن مريم. إن أصحاب الأفكار البالية يستنتجون من هذا الحديث أنه حين ينـزل المسيح عيسى من السماء سينـزل مستقيلا من نبوتهِ، ولن تكون له أدنى علاقة مع الإنجيل، بل سينضم إلى الأمة المحمدية ويعمل بالقرآن الكريم، وسيصلي خمس صلوات وسيُدعَى مسلما، ولكنهم لا يوضِّحون لماذا سيواجه هذا الانحطاط؟
على أية حال، لقد قبل إخواننا المسلمون أن ابن مريم سيأتي عندئذ مسلمًا، ويُظهر كونه من الأمة المحمدية، ولن يذكر مطلقا نبوته التي كان مشرَّفا بها من قبل. هذه في الحقيقة هي الطامة الكبرى التي واجهها إخواننا نتيجة حمل الاستعارة على الظاهر، فاضطروا لحرمان نبيٍّ من نبوته. ولو قبلوا المعنى الصريح الذي يتبيَّن بكل وضوح من كلام النبي الطاهر صلى الله عليه وسلم، وصّرح به سابقا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام عن النبي يوحنا؛ لتخَلَّصوا من هذه المشاكل العويصة كلها، ولما احتاجوا لإخراج روح المسيح من الجنة، ولما اضطروا لعزل نبي مقدس من منصب النبوة، ولما ارتكبوا انتقادًا مبطَّنًا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولما اضطروا للاعتراف بنسخ أحكام القرآن.
لعل العذر الأخير لدى إخواننا هو: كيف يمكننا تطبيق بعض الكلمات التي وردت في الأحاديث الصحيحة كعلامات للمسيح ؟ فقد ورد على سبيل المثال أن المسيح بعد نزوله سيكسر الصليب ويضع الجزية ويقتل الخنـزير، وسيأتي عند رواج صفات اليهود والنصارى السيئة بين المسلمين.
أقول: ليس المراد من كسر الصليبِ القتالُ الماديّ، بل المراد هو كسر الديانة الصليبية روحانيا وإثبات بطلانها. والمراد من وضع الجزية واضح بيّن؛ ففي ذلك إشارة إلى أن القلوب في تلك الأيام ستُهيَّأ للانجذاب إلى الصدق والحق دون الحاجة لأي قتال. وستهُبُّ الرياح فيدخل الناس في الإسلام أفواجا.
إذن، عندما يُفتح باب الدخول في الإسلام على مصراعيه وينضم إليه عالَـمٌ بأسره، فممن ستُوخَذ الجزية؟ ولكن لن يحدث كل ذلك دفعة واحدة، غير أنه قد وُضع أساسه من الآن.
والمراد من قتل الخنـزير هو قتل مَن لديهم صفات الخنازير، وسيُغلَبون يومئذ بالحجة والبرهان، وسيقتلهم سيف الأدلة البيِّنة، وليس أن يخرج نبي مقدس إلى الفلوات ويتصيَّد فيها الخنازير.
فيا قومي الأعزاء، إنها استعارات كلها. والذين رزقهم الله فهما سليما من عنده سيفهمونها بكل سهولة، بل يفهمونها بذوقهم. إن مَثل حمل كلماتٍ فصيحة وبليغة على الحقيقة؛ كمَثل رسمِ حبيب وسيم بصورة الشيطان. الحق أن البلاغة كلها مبنية على الاستعارات الدقيقة، ولذلك فقد استخدم كلام الله الذي هو أبلغ الكلِم، هذا الأسلوب البليغ من الاستعارات بكثرة بحيث لا يوجد نظير هذا الأسلوب الدقيق في أي كلام آخر. إن حمل الاستعارات البليغة المستخدمة في القرآن الكريم على الحقيقة دائما، ليس إلا تشويها لهذا الكلام المبني على نظام معجز؛ فهذا الأسلوب لا يؤدي فقط إلى قلبِ الهدف الحقيقي من كلام الله البليغ رأسا على عقب، بل يقضي أيضا على البلاغة العظيمة الكامنة فيه. إن الأساليب المليحة والممتعة للتفسير هي تلك التي تراعي عظمةَ بلاغة المتكلم وأفكارَه الروحانية السامية أيضا، وليس أن يختلق المفسر من عنده معانيَ رديئة ومُقرفة للغاية وغير مناسبة تدخل في حُكم الهجو المليح، أو أن يَحصر كلام الله تعالى المقدس الذي يشمل الدقائق الطاهرة والدقيقة في بعض الكلمات البسيطة. لا أفهم لماذا تُفضَّل المعاني الغليظة والمقرفة والكريهة على الأسرار الدقيقة واللطيفة التي لا بد من وجودها في كلام الله تعالى وهي موجودة بكثرة؟ ولماذا لا تُعطَى الأهمية اللائقة للمعاني اللطيفة التي تطابق حكمة الله وعظمة كلامه؟ ولا أدري لماذا مُلئت رءوس علمائنا بتمرد غير مبرَّر وكأنهم لا يريدون أن يقربوا الحكمة الإلهية؟
لا شك أن الذين قاموا بأبحاث مضنية في هذا المجال لن يُنكروا بياني هذا بل سيستمتعون به، وسيطّلعون على حقيقة جديدة، وسيبيّنونها للقوم بكل شدة وحماس، ويفيدون الناس فائدة روحانية. أما الذين حصروا أفكارهم وعقولهم في نظرة سطحية فقط؛ فهم لا يستطيعون أن ينفعوا الإسلام بوجودهم بشيءٍ إلا أن يُثقلوا كفة اعتراضاتهم دون مبرر، ويثيروا ضجة من فراغ.
والآن أريد أن أبين أن هادينا وسيدنا ومولانا خاتَم المرسلين لم يكتف في بيان العلامات الفارقة بين المسيح الأول والمسيح الثاني بالقول بأن المسيح الثاني سيكون مسلما وسيعمل وفق شريعة القرآن الكريم، ويكون ملتزما بالصوم والصلاة وغيرهما من أوامر القرآن مثل بقية المسلمين، ويُولَد في المسلمين ويكون إماما لهم ولن يأتي بدين جديد ولن يدّعي نبوة مستقلة؛ بل بيّن صلى الله عليه وسلم أيضا الفرق الواضح بين ملامح المسيح الأول والمسيح الثاني. فملامح المسيح الأول التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هي التالية: “فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْر.” (صحيح البخاري، كتاب الأنبياء). وفي الكتاب نفسه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بيّن ملامح المسيح الثاني بأن شعره ليس جعدا بل قال:”رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعَرِ.” يجب أن نفكر الآن: ألا تؤكد هذه العلامات المميِّزة التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم للمسيح الأول والمسيح الثاني بما فيه الكفاية على أنهما شخصان مختلفان؟ وأن تسميتهما بابن مريم استعارة لطيفة قد استُخدمت نظرا إلى المماثلة في طبيعتهما وصفاتهما الروحانية؟ والمعلوم أن شخصين صالحينِ يمكن أن يستحقا اسما واحدا للتشابه بين صفاتهما الباطنية، وكذلك يمكن أن يطلق اسمٌ واحد على شخصين سيئين بناء على اشتراكهما بالتساوي في صفة شرٍّ واحدة. المسلمون الذين يسمون أولادهم بأسماء: “أحمد” أو “موسى” أو “عيسى” أو “سليمان” أو “داود” وغيرها من الأسماء يفعلون ذلك تفاؤلا، ويهدفون من وراء ذلك أن يُنشِئ أولادُهم أيضا في أنفسهم ملامح هؤلاء المقدسين الروحانية وصفاتهم بصورة أتم وأكمل وكأنهم نسخة منتسخة منهم.
إن طُرح هنا اعتراض: أنه يجب أن يكون مثيل المسيح الناصري أيضا نبيا؛ لأن المسيح كان نبيا. فالجواب الأول على هذا الاعتراض هو أن سيدنا ومولانا صلى الله عليه وسلم لم يشترِط النبوة للمسيح الآتي، بل قال صراحة إنه سيكون مسلما وملتزما بشريعة القرآن الكريم مثل بقية المسلمين، ولن يفعل شيئا أكثر من ذلك لإظهار إسلامه وكونه إمامَ المسلمين. وبالإضافة إلى ذلك، فإنني دون أدنى شكٍ قد جئت من الله تعالى، محدَّثا في هذه الأمة، والمحدَّث أيضا يكون نبيا من وجهٍ. ومع أن نبوته ليست تامة، لكن فيه جزء من النبوة لأنه يحظى بشرف مكالمة الله تعالى. وتُكشف عليه أمور غيبية، ويُنـزَّه وحيُه من تدخّل الشيطان مثل وحي بقية الرسل والأنبياء. ويُكشف عليه لبُّ الشريعة، ويأتي مأمورا مثل الأنبياء تماما. ويكون واجبا عليه مثل الأنبياء أن يُعلِن عن نفسه، وإن منكره يستوجب نوعا من العقاب؛ ولا معنى للنبوة إلا أن تتحقق فيها الأمور المذكورة آنفًا.
ولو قُدِّم عذرٌ أن باب النبوة مسدود، وأن الوحي الذي ينـزل على الأنبياء قد انقطع؛ لقلت: لم يُغلَق باب النبوة من كل الوجوه ولم ينقطع كل أنواع الوحي أيضا؛ بل إن باب الوحي والنبوة مفتوح جزئيا للأبد لهذه الأمة المرحومة. ولكن يجب الانتباه جيدا إلى أن النبوة التي بابها مفتوح إلى الأبد ليست نبوة تامة، بل كما قلت قبل قليل: إنها نبوة جزئية وتسمى بتعبير آخر “المحدَّثية” التي تُنال بالاقتداء بالإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع كمالات النبوة التامة؛ أي سيدنا ومولانا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
“فاعلم أرشدك الله تعالى أن النبي محدَّث والمحدَّث نبيٌّ؛ باعتبار المحدَّثية نوعا من أنواع النبوة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، أي لم يبق من أنواع النبوة إلا نوع واحد؛ وهي المبشرات من أقسام الرؤيا الصادقة والمكاشفات الصحيحة والوحي الذي ينـزل على خواص الأولياء، والنورُ الذي يتجلى على قلوب قوم موجَع. فانظر أيها الناقد البصير، أَيُفهَم من هذا سد باب النبوة على وجه كلّي؟ بل الحديث يدلّ على أن النبوة التامة الحاملة لوحي الشريعة قد انقطعت، ولكن النبوة التي ليس فيها إلا المبشرات فهي باقية إلى يوم القيامة، لا انقطاع لها أبدا. وقد علمتَ وقرأتَ في كتب الحديث أن الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءا من النبوة، أي من النبوة التامة. فلما كان للرؤيا نصيب من هذه المرتبة، فكيف الكلام الذي يوحى من الله تعالى إلى قلوب المحدَّثين. فاعلم، أيدك الله، أن حاصل كلامنا أن أبواب النبوة الجزئية مفتوحة أبدا. وليس في هذا النوع إلا المبشرات أو المنذرات من الأمور المغيّبة أو اللطائف القرآنية والعلوم اللدنِّية. وأما النبوة التي هي تامة كاملة جامعة لجميع كمالات الوحي؛ فقد آمنا بانقطاعها من يوم نزل فيه: “مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” (الأحزاب:40).
( المصدر: كتاب توضيح المرام، تأليف الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني )