ضرورة الإيمان بالمسيح الموعود
قال أحدهم للإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام: إنا نؤمن بالله وكتابه القرآن الكريم ورسوله محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم بصدق القلب ونحرز جميع الأعمال أيضًا مثل الصلاة والصيام وغيرهما، فما الحاجة للإيمان بك أيضًا؟ فقال عليه السلام :
انظروا أن الذي يدَّعي الإيمان بالله وكتابه ورسوله ثم لا يعمل بأوامره في التفاصيل ولم يتمسك بالصلاة والصيام والحج والزكاة، ولم يتقِ ولم يتطهَّر وأهمل الأحكام النازلة حول تزكية النفس وترْك الشر وإحراز الخير، فلا يستحق أن يدعى مسلما، ولا يصح أن تطلق عليه كلمة “المتحلي بحليِّ الإيمان”، وكذلك الذي لا يؤمن بالمسيح الموعود أو لا يرى أي ضرورة للإيمان به، فهو الآخر يجهل تماما حقيقة الإسلام والغاية من النبوة والرسالة، ولا يجدر بأن يقال بحقه إنه مسلم صادق وتابع حقيقي لله ورسوله ومطيع لهما، لأنه كما أعطانا الله الأوامر عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم فقد أنبأ بكل قوة بمجيء خليفة أخير أيضًا في الزمن الأخير، وسمى غير المؤمنين به والمنحرفين عنه فاسقين. فالفرق بين كلمات القرآن الكريم والحديث
-الذي هو ليس فرقا في الحقيقة بل هو تفسير للقرآن الكريم- إنما هو أن القرآن الكريم استخدم كلمة الخليفة بينما سُمي نفس الخليفة الأخير في الحديث بالمسيح الموعود. فالإنسان الذي وعد القرآن الكريم بمجيئه، وبذلك منح بعثته نوعًا من العظمة، فأيُّ مسلم يمكن أن يقول بأنه ليس بحاجة إلى الإيمان به؟!
لقد مدد الله بعثة الخلفاء إلى يوم القيامة، وللإسلام شرف وميزة بأن المجددين ظلوا يأتون لتأييده وتجديده، وسيأتون في المستقبل أيضًا. انظروا أن الله سبحانه وتعالى قد شبه النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام كما هو ثابت من لفظة ” كَمَا” في قوله تعالى “إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا” (المزمل:15) وكان عيسى عليه السلام آخر خلفاء شريعة موسى عليه السلام .كما قال صلى الله عليه وسلم بنفسه إنه آخر لبنة. ومثل ذلك جاء الخلفاء على الدوام لخدمة الشريعة المحمدية وتجديدها، وسيأتون إلى يوم القيامة بانتظام، وبذلك سمي الخليفة الأخير نظرا للمشابهة والخدمة المعهودة إليه بالمسيح الموعود.
ولم يكتف سبحانه وتعالى بذكره إجمالا بل قد بيَّن علامات بعثته بكل تفصيل في جميع الكتب السماوية، ففي العهد القديم والإنجيل والأحاديث والقرآن الكريم نفسه قد ذكُرت علامات بعثته، وجميع الأمم من اليهود والنصارى والمسلمين يؤمنون ببعثته وينتظرونها بالإجماع. فكيف يُعدّ إنكارُه من الإسلام في شيء. ثم لما كان ذلك إنسانا قد أظهر الله من أجله الآيات من السماء تأييدا له وأظهرت الأرضُ أيضًا معجزات، وظهر لتأييده الطاعونُ وحدث الخسوف والكسوف في موعده بحسب النبوءة؛ فهل الإنسان الذي أظهرت السماء آيات له وقالت الأرض أيضًا “حان الوقت”، يعدّ إنسانا عاديا؟ حتى يستوي الإيمان به وعدمُه؟ ويبقى المسلمون عباد الله الأحبة حتى دون الإيمان به أيضًا؟ كلا لا يمكن.
اعلموا أن علامات بعثة الموعود كلها قد ظهرت، فقد نَّجست أنواع المفاسد العالَم، وحدد العلماء المسلمون ومعظم الأولياء هذا الزمن لبعثة المسيح الموعود، أي أنه سيأتي في القرن الرابع عشر. وقد ورد في كتاب “حجج الكرامة” أيضًا عن هذا القرن أي الرابع عشر، ولم يتجاوز أحدٌ في هذا الخصوص القرن الرابع عشر. أما القرن الرابع عشر فقد ورد أنه سيكون مباركا. إذا كان أحد يشك بعد هذه الشهادة الإجماعية التي ذكرها الأولياء وغالبية العلماء فعليه أن يقرأ القرآن الكريم بتدبر، ويقرأ سورة النور بإمعان. انظروا كما جاء عيسى عليه السلام بعد مضي أربعة عشر قرنا من موسى عليه السلام كذلك جاء هنا المسيح الموعود في القرن الرابع عشر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما كان عيسى عليه السلام خاتم خلفاء موسى عليه السلام كذلك سيكون المسيح الموعود خاتم الخلفاء.
كان الإسلام الآن كالمريض الذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد مورست المظالم عليه، ويشن الأعداء عليه هجمات شرسة بمنتهى الجور والجفاء مسلحين بأنواع الأسلحة للقضاء عليه، وكان الإسلام قد صار شبه الميت نتيجة الهجمات الداخلية والخارجية، وكان قنديل الإسلام يوشك على الانطفاء، وكانت السكين قد وضعت على رقبته بكل شراسة. فلأي وقت كان وعْد الله :سبحانه وتعالى “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9) ؟ فهل كانت تُنتظر أي مصيبة أخرى لتحل عليه. فاعلموا أن الحفظ لا يعني مجرد حفظ الأوراق، بل قد فسَّر ذلك أحد الأحاديث حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: سيأتي على الناس زمان يرتفع فيه القرآن من العالم، فقال أحد الصحابة كيف يرتفع والناس يقرأونه؟ فقال صلى الله عليه وسلم كنت أراك عاقلا لكنك سفيه، ألا يقرأ النصارى الإنجيل؟ أوَلا يقرأ اليهود التوراة؟ فالمراد من ارتفاع القرآن
الكريم أن علومه سترفع، وأن الهدى سيختفي من الدنيا، وأن الناس سيجهلون أنوار القرآن الكريم وأسراره، ولن يعمل به أحد، وأن الناس سوف يتركون الطريق الذي جاء به القرآنُ ليهدي إليه، ويتبعون أهواءهم وأمانيهم، وعندما يحدث ذلك فسوف يأتي من أبناء فارس شخص يستعيد الدين من جديد، ويجدد الدين والقرآن، وينشر في العالم من جديد المجدَ الضائع للقرآن الكريم والهدى المنسي والإيمان المعلق بالثريا، كما ورد لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء (أي أبناء فارس).
باختصار، قد ثبت من القرآن الكريم والأحاديث النبوية بجلاء أن هذه الأمة قد وُعدت بمجيء خليفة في الزمن الأخير، وذكُرت علاماته وأماراته أيضًا. وأنا أعلن هنا أنني أنا ذلك المسيح الموعود، والآن يجب على كل من يحب الله ورسوله ويريد أن يبقى إيمانه سليما، أن يفكر في هذا الأمر، هل أنا صادق في دعواي أو كاذب. فالذين يأتون من الله تكون معهم آيات الله، أما مجرد الادعاء باللسان فقط فلا يجدر بالقبول.
فمن جملة العلامات التي وردت في كُتب الله ورسوله لبعثتي تعطيل ركوب الجمال أيضًا، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الموضوع بقوله: ” وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ” (التكوير:4)، وبيّن الحديث النبوي هذا المضمون بالقول: “وَلَتُتْركَنَّ القلاص فلا يسعى عليها”.
الآن يجب على المتدبر أن يتأمل في هذه الكلمات التي خرجت من فم النبي صلى الله عليه وسلم قبل 13 قرنا من اليوم وتُظهر بتحققها الآن بكل شوكة وعظمٍ عظمةَ قائلها وجلالَه. فانظروا كيف تظهر أسباب تحقق هذه النبوءة الآن، إذ سوف تُعطَّل الجمال والنوق عند إطلاق قطار الحجاز، وسيتم السفر من مكة المعظمة إلى المدينة المنورة بالقطار بدلا من الجمال، وتُعطَّل النوق.
أما القول: ما علاقة هذه النبوءات بكلمة المسيح الموعود؟ إذ لم ترِدْ كلمة “المسيح الموعود” في القرآن الكريم قط. تذكروا أني أعلنت أني خاتم الخلفاء، وإن وعد ظهور خاتم الخلفاء عند قرب القيامة موجود في القرآن الكريم. ثم قد أُنبئت مرارًا وتكرارًا بالإلهام الإلهي بأن الله سماني وحدي المسيح الموعود، الذي كان قد وُعد بمجيئه في الأحاديث. تذكروا أن الذي ينبذ الأحاديث كالمهملات لا يمكن أن يكون مؤمنا أبدا. إن جزءا كبيرا من الإسلام يبقى ناقصا دون مساعدة الأحاديث. فالذي يقول إنه في غنى عن الأحاديث، فلا يمكن أن يكون مؤمنا أبدا، وسيضطر يوما لترك القرآن الكريم أيضًا.
فالإنسان الذي سمي في القرآن الكريم بخاتم الخلفاء قد سُمي نفسه في الأحاديث بالمسيح الموعود، وكذلك فإن جميع النبوءات المتعلقة بهذين الاسمين كليهما تخصني أنا وحدي. فالخليفة من يأتي بعد أحد، والكامل من يأتي بعد الجميع. فالواضح أن الذي سيأتي قرب القيامة فهو نفسه آخِر، فهو يعدّ أفضل وأكمل، فالفرق هو في الكلمات، إذ قد دعاه القرآن الكريم بالخليفة وسمي في الحديث بالمسيح الموعود. أما دعواي فتذكروا أن إثبات دعواي هذه، هو حصرًا ما ثبت به صدقُ الأنبياء والمبعوثين على الدوام. فالإثبات الذي يقدمه أحد لتصديق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم أستطيع أن أُثبت بالدليل نفسه صدقي أيضًا، فالمبعوثون من الله يعدّون صادقين بشهادة من الله.
فالصادق يدعي والكاذب كذلك، فهما سيّان في تقديم الدعوى، لكن هناك ما يميز هذا عن ذلك.
فلنفترض جدلا أنه إن لم يكن المسيح الموعود مذكورا في القرآن الكريم ولا في الحديث، فمع ذلك يمكن معرفة الصادق بآياته. ففي أي كتاب سابق ذكُر موسى عليه السلام؟ فهل يمكن أن يخبرني أحد أن نبوءة بعثة موسى عليه السلام كانت موجودة في كتاب كذا. إذن فكيف عُدَّ موسى نبيا صادقا؟ تذكروا أن شهادة الله المتجددة حصرا تعد دليل الصدق، إذ مجرد الدعوى بلا دليل لا تعد دليل صدق أبدا. بل الدعوى التي لا يقترن بها البرهان من الله كاذبةٌ، ويستحق صاحبها المؤاخذة من الله. إن الله نفسه يهلك المدعي الكاذب، فلا ينال مهلة، لأنه يفتري على الله، ويريد أن يلبس الحق بالباطل.
إنما بعثت لخدمة هذه الشريعة نفسها وتجديدها فقط
ما جئت بأمر جديد، ولم أقم بشريعة جديدة، وإنما أتيت لخدمة الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وتجديدِها. إن الآيات موجودة لاختبار صدقي على منهاج النبوة، ولقد سجلتها في كتبي. كما قد ألفت حديثا كتاب “حقيقة الوحي” فاقرأوه، لتعرفوا كم من آية أظهرها الله تأييدا لي، فهل تظهر هذه الآيات لكاذب أيضًا؟
ألا إن بعض الأنبياء قد صُدِّقوا بمعجزة واحدة فقط، أما هنا فآلاف الآيات موجودة. ثم إذا كنت أعلنت عن دين جديد، أو بينت أي أمر معارض لكتاب الله، وأضفت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، أو نقصت منها شيئا، أو ادعيت بنسخها، أو أجريت تعديلا في المسائل مثل الصلاة والزكاة والحج؛ لكان هناك مجال للشك والشبهة من هذا النوع. أما أنا فأقول بأن الذي ينحرف عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ذرة فهو كافر. فإنما الكافر في نظرنا من يعرض عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فما بال من ادَّعى أنه جاء بشريعة جديدة، أو غيَّر أو بدل القرآن الكريم أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو نسخ أحد الأوامر. إنما المؤمن في نظرنا من يتبع القرآن الكريم اتباعا صادقا، وآمن بأن القرآن الكريم خاتم الكتب، وآمن بأن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هي وحدها باقية للأبد، ولم يغير فيها حرفا ولا حركة ويتفانى في اتباعها، ويوظف كل عضو من جسمه في اتباعها ولا يعارضها عملا وعلما، عندها يعد مسلما حقا. أما الكلام الإلهي الذي ينزل علينا فلا يُفهمن من ذلك أننا أعلنا عن نبوة جديدة وتشريعية، بل إنما سُمِّينا نبيا لكثرة المكالمات والمخاطبات كمًّا وكيفا. فإذا كان أحد في هذا المجلس يعرف اللغة العربية أو العبرية فهو يعرف أن كلمة النبي مشتقة من نبَّأ، ونبأ يعني أخبر. والنبي هو ناقل الخبر، أي أن الذي يتلقى من الله كلاما مقدسا يحتوي على النبوءات الغيبية القوية ويبلِّغها المخلوق، فهو في المصطلح الإسلامي نبي، فقد ورد في القرآن الكريم “أَنْبِئُونِي بَِأسْماءِ هَؤُلَاءِ” (البقرة:31)، فالنزاع بيني وبين هؤلاء لفظي فقط.
لو أن معارضينا لم يتركوا التقوى والطهارة ولم يتعصبوا ولم يُبدوا العناد فهم يعرفون كل شيء. فقد كتب الصلحاء القدامى وأولياء الله بوضوح أن لله مع أوليائه مكالمات ومخاطبات. وفي العالم ألوف بل مئات الألوف- وليس مئات فقط- مَن يرون رؤى صادقة، بل يمكن أن يرى رؤيا صادقة أحيانا الصالح والطالح أيضًا والكافر والمسلم أيضًا دون أي تمييز. بل إن الزناة والداعرين والأنذال والأراذل أيضًا يرون أحيانا رؤيا صادقة. ثم إن المؤمن- الذي يستحق ذلك أكثر منهم ببركة إيمانه الصحيح- لماذا لا يسلَّم بأنه رأى رؤى صادقة وكشوفا وتلقى إلهامات؟ بل إن المؤمن يتمتع بكل هذه الأمور بكثرة.
فلا يُفهمن أن ذلك يحط من شأن رؤى الصادقين والمبعوثين والأنبياء والرسل وكشوفهم وإلهاماتهم ويقلل أهميتها، كلا بل هذه الأمور تصدق وحي النبوة ومكالماتِ الله ومخاطباته التي يشرِّف الله بها أنبياءَه ورسله، وتشكل دليلا قويا على صدقهم، لأنه إن لم يكونوا يتمتعون بشيء منها،كان من المحتمل أن ينكر أولئك الفساقُ والفجار والملحدون وجودَ الوحي والإلهام أصلا، ولكان اعتراضهم في هذه الحالة قويا. ولذلك قد خلق الله سبحانه وتعالى بحكمته الكاملة في نفوس أناس من كل طبقة كبذرة هذه الشهادة على مكالمات الأنبياء والأولياء ومخاطباتهم ووحيِ نبوتهم، لكيلا يبقى لهم مفر ومهرب للإنكار ويُتم الحجة عليهم من دخيلة نفوسهم.
إن سلسلة المكالمة والمخاطبة روح الإسلام
من المسلَّمات أن الإنسان حين لا يعطى أي نموذج لشيء ما فهو يقع في الشبهات فيه. هذا الأمر يخص الإسلام وحده فقط، وهو من أعظم الأدلة على صدق أي دين وهو لا يوجد في أي دين آخر، إن الإسلام دين محبب ومقرب ومقبول عند الله، ولذا أجرى بفضله المحض أكمل فيض لسلسلة المكالمات والمخاطبات في كل زمن ليحمي المسلمين من العثار والشبهات؛ إذ تساور قلوب الناس عادةً أفكاٌر من قبِيل أني أنا أيضًا إنسان وهذا المدعي هو الآخر إنسان مثلي، فلماذا لا أتلقى الإلهام والمكالمات مثله؟ إذن فلقمع مثل هذه الشبهات قد أودع الله طبعَ كل إنسان شيئا من هذا الفيض. فانظروا، كما أن قرشا واحدا يكفي شهادةً على وجود مائتي ألف روبية وأن روبية واحدة تكفي شهادةً على وجود ملايين الروبيات والكنوز، كذلك فإن رؤيا صادقة واحدة تعد دليلا وشاهدا على وجود الإلهام. فقد أُودع طبعُ الإنسان الرؤيا الصادقة، لكي يوقن بها بوجود ذلك الفيض الكامل. فإذا كان يمكن للإنسان العادي بل لفرد من الطبقة الدنيا أيضا أن يرى رؤيا صادقة فلأي سبب لا يعد الإنسان الطيب المطهَّر من الدرجة العليا فائزا بأسمى مرتبة للرؤيا، أي الإلهام؟ لأن الرؤيا الصادقة أيضًا جزء يسير من كمالات النبوة.
تذكروا أن سلسلة المكالمة والمخاطبة هي روح الإسلام، فلو لم يكن الإسلام حائزا على هذا الشرف، لعُدَّ هو الآخر دينا ميتا حتما كالأديان الأخرى. افهموا جيدا أنه لو كان الإسلام محروما من هذا الفضل الإلهي والبركة، لما كانت فيه أي فضيلة.
فمن فضل الله الخاص أنه ظل يرسل نماذج حية من هذا النوع في المسلمين على رأس كل قرن، وبذلك ظل يثبت للعالم أن الإسلام دين حي.
كان الإسلام في زمن مضى دينًا إذا ارتد عنه إنسان قامت القيامة، لكن الآن قد ارتد عن الإسلام نفسِه مئات الألوف من المسلمين وصاروا ملحدين، وقد بُذلت الجهود للقضاء على الإسلام من خلال الهجمات الداخلية والخارجية، وأسيء إليه وديس تحت الأقدام، والمسلمون أنفسُهم غافلون عن حقيقة الدين، وبذلك يُثبتون أنهم أعداء الدين. فأخبروني أي ضلال وغواية باقية تُنتظَر؟ فاقرأوا كتاب القس “فندر” حيث كتب أنه ليست في الإسلام أي نبوءة، ولم تتحقق أي نبوءة، وهو يعدّ نبوءة “الم * غُلِبَتِ الرُّومُ” (الروم:1-2) أيضًا ظنية ومن باب التخمين والتقدير، إذ كان النبي بحسب زعمه قد نشرها بعد الاطلاع على الأوضاع السائدة آنذاك. وبالإضافة إلى هذا الكتاب قد صدرت مئات الكتب والكتيبات ضد الإسلام. لا يقدر أي مسلم على التصدي لأي مسيحي، ولا يستطيع أي مسلم أن يردّ على أعداء الإسلام ردًّا مفحما. إذا كانت حياة الإسلام تتوقف على القصص القديمة فقط، فاعلموا أن الإسلام لا وجود له اليوم، ولن يكون غدا. تذكروا أن الله سبحانه وتعالى كما أيد الإسلام في البداية وظل يؤيده، يقدر اليوم أيضا على إظهار الآيات الجديدة على صدق الإسلام، ومن أجل كل مؤمن أيضًا- بشرط أن يكون هناك مؤمن- وهو قادر على أن يجعل له فرقانا. لكن هؤلاء المشايخ وحماة الدين المتين- بالاسم فقط- هم أنفسهم يصعدون على المنابر ويعلنون أنه لم يبق في المسلمين من يمكن أن يُظهر أي آية. فالشيخ محمد حسين قد أقر بنفسه في مؤتمر الأديان العظيم- حيث كان قد اجتمع أتباع جميع الأديان- أنه لا يوجد الآن في المسلمين من يقدر على إظهار آية. فقد اعترف بنفسه بأن دينه أيضًا ميت كالأديان الأخرى، وأنه لم يعد يتمتع بعلامات الحياة.
تأمَّلوا الآن هل شرف الإسلام منحصر في هذه الأمور فقط؟ كلا، وأي إساءة أكبر من أن يعدّ الإسلام خاليا من أناس يكلمهم الله ويخاطبهم، والذين تتوفر الآيات المحتوية على الغيب العظيم لإثبات صدقهم. تذكروا أنه حين يأتي على الإسلام زمنٌ لم تبق فيه هذه البركات فاعلموا أن الإسلام أيضًا قد مات كالأديان الأخرى، لأنه إذا فُقدت علامة الحياة فما معنى الحياة؟ فالبرهمو أيضًا يؤمنون بأنه لا إله إلا الله، وإذا سألوكم أي قوة وميزة نشأت فيكم بإضافة “محمد رسول الله” فبم تردُّون عليهم؟ على المسلم أن يتمسك بأمر قوي، ويتخذ مبدأً يغلب به الآخرين.
إذا كان الأمر هكذا فأخبروني ما هي العلامة الفارقة بينكم وبين غيركم، إذ يؤمن بالتوحيد البرهمو أيضًا، والنصارى أيضًا عندهم أفكار التوحيد، والآريون أيضًا يؤيدون التوحيد، واليهود هم الآخرون موحدون. فقد أرسلتُ إلى راهب يهودي رسالة سألته فيها ما هي عقيدتكم في التوحيد؟ فقال ردًّا على ذلك إن تعليمنا تعليم التوحيد، وإنما إلهنا هو نفس الإله الذي قدَّمه القرآنُ الكريم. فمما يجدر بالفهم والتدبر أنه ما دام هؤلاء يدَّعون التوحيد فقط، فبم يتميز به المسلمون؟
المعجزات التي تميز الحق من الباطل
أما البحوث النظرية الدقيقة فهي مهلكة، فهل قبِل أحد بالبحوث؟ انظروا كيف واجهني ليكهرام وتنبأ ضدي أني سأموت خلال ثلاث سنوات، وكنت تنبأت بتلقي العلم من الله بهلاكه قتلا خلال ست سنين. فاقرأوا الآن كتاب ليكهرام “خبط أحمديه” كيف كان قد التمس من البرميشور باكيا ومبتهلا، وطلب من الله بمنتهى الضراعة والتواضع أن يحكم بتأييده ونصرته للصادق وهلاك الكاذب ودماره، لكي يتميز الحق من الباطل، ويتبين للعالم أي الدينين؛ الآري والإسلام، جميل ومقبول عند الله وأيهما مردود. والُحكم الذي صدر أخيًرا يعلمه العالم، من الذي أيده الله ومن مات خائبا. وبذلك انحسمت إلى الأبد قضية الصادق والكاذب والإسلام والدين الآري.
( المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/5/6م)
هذه هي آيات الله وتسمى العلامة الفارقة. أما المناظرات العقيمة فما الجدوى منها؟ فهل رأى أحدكم مناظرًا تمكَّن من استصدار الاعتراف بالهزيمة من خصمه في المناظرة؟ فخذوا كتاب “خبط أحمديه” وكتبي التي تتضمن هذه النبوءة بكل تفصيل، ثم قارِنوا أيهما كلام الله وأيهما كلام الشيطان. فإن لم يكن نطقي من الله وبأمر منه، أفلم يكن من المحتمل أن أموت أنا ويعيش ليكهرام؟ لأن الأوضاع في الظاهر كانت تقتضي ذلك، إذ كنت مريضًا، وأكبره سنا، وكان قويا متينا مقابلي ويتمتع بالصحة. وليس ذلك فحسب بل كل من باهلني قد هانَ وهلك. فقد باهلني غلام دستغير القصوري ومحيي الدين من لكهوكي وهلكا كلاهما، وبهلاكهما خَتَما على صدقي للأبد. لقد تنبأ الشيخ جراغ دين بأني سأموت بالطاعون وباهلني، لكن انظروا كيف مات هو نفسه بالطاعون. كان فقير مرزا هو الآخر قد أعلن بأنه قد تلقَّى الخبر من العرش أن الميرزا سيموت في شهر رمضان، فلما جاء رمضان أخيرا هلك بنفسه. كما كان بابو إلهي بخش أيضًا قد تنبأ في كتابه بهلاكي بالطاعون، لكنكم تعرفون كيف مات.
قولوا الآن هل كل هذه الأحداث أقل من المعجزات؟ حين تصدى لي القس دوئي الذي كانت تفصلني عنه محيطات، وتنبأت بتلقي العلم من الله أنه سيَهلك بمنتهى الحسرة، بدأتْ بوادر الإدبار تظهر عليه فورا، وأخيرا هلك بعد مواجهة خيبات كثيرة وأنواع الألم والخزي والإصابة بالفالج. باختصار، لو سجلتُ الآيات في كتاب لتشكل له خمسون جزءا، أخبروني أين عبد الله آتهم الآن؟
يطالبني الناس أن أُظهر لهم معجزة جديدة، فهل صارت آيات الله قديمة ورديئة فيردونها ويطالبون بآيات بحسب رغبتهم. إن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يكون تابعا لأحد وخاضعا لرغبته، فهو يُظهر الآيات بانتظام لكن بحسب مشيأته، أفلم لم تكن مقنعة حتى يطالبوا بالمزيد!
باختصار، قد سمي الموعود في الزمن الأخير في القرآن الكريم بالخليفة، وذكُر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمسيح. فقد سماني الله سبحانه وتعالى أنا أيضًا باسَمين وهما موجودان في كتابي البراهين الأحمدية الذي نُشر قبل 26 عاما وهو موجود عند الأحبة والأعداء أيضًا. فقد ورد في إلهام لي: “إني جاعل في الأرض خليفة” وفي إلهام آخر ورد: “الحمد لله الذي جعلك المسيح ابن مريم”. غاية القول إن الله سبحانه وتعالى قد سماني أنا حصرا بهذا الاسم بحسب القرآن الكريم والحديث. وجعلني أنا وحدي موعودًا.
لقد توفي المسيح الناصري، وقد ذكُرت وفاته مرارًا وتكرارًا في القرآن الكريم بكل قوة، فلا يمكن أن يستعيد حياته من جديد بأي طريقة ممكنة. فما دام الله سبحانه وتعالى قد أجلس في مكانه غيره، فكم من الغباء والسفه أن ينتظره الناس نفسَه. أود أن أقول إن الناس يناقشون في أن تعطى لهم الآياتُ التي يريدونها، انظروا قد ظهر مئات الأنبياء الذين لم تصدر بحقهم أي نبوءة في كتاب سابق.
الواقع أن النبي الصادق تحالفه الهيبة من الله، فالذي يأتي من الله تكون معه راية الآيات الإلهية وتأييده حتما. انظروا كيف يذكر الكتاب المقدس والإنجيل والقرآنُ والحديث معجزات، لكن العدو يخلق أوجُهًا كثيرة لعدم الإيمان بها. فيمكن أن يتهم بأنه قد حصل التحريف والتبديل، كما يمكن أن يبين لها معاني أخرى من منطلق آخر. باختصار لو كان الحكم والقرار يتوقف على الأمور السابقة، فتعترض صعوبات كثيرة. لكن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يختلط الحق بالباطل ويلتبس الحق على العالم، ولذلك من سنته أنه ظل يُظهر أمر الحق من خلال الآيات المتجددة. ففي هذا العصر أيضًا حين بعثني الله مأمورا وسماني بالمسيح الموعود وخاتم الخلفاء، قال أيضا: “قل عندي شهادة من الله فهل أنتم مسلمون؟” أي قد زوَّدني بشهادته، فأنا الآن مؤيَّد بشهادة من الله، فأنا جاهز كل حين وآن للرد على كل اعتراض يثار على منهاج النبوة بحسب القرآن والحديث. فكل مدَّع يطالَب بإثبات صدق دعواه، وأنا جاهز لهذا الامتحان دوما، بشرط أن يكون على منهاج النبوة.
الله أعلم ما الذي يوجد في القصص القديمة، بحيث لا يؤمنون بآيات الله الجديدة ويتمسكون بالقصص. فليسألهم أحد ما الذي اكتسبوه من القصص. فقصص اليهود تفوق قصصكم كثيرا، فهل سوف تؤمنون بها؟ في كل قوم قصص كثيرة، لكن القصص العقيمة لا تستطيع أن تقوِّي الإيمان وتنشِّط الروح من جديد. فالإيمان الناتج عن سماع القصص أيضًا ناقص وضعيف. فالذين لا يؤمنون بآيات جديدة ولا يقبلون شهادة الله، فإنما عقوبتهم أخيًرا أن يتبعوا القصص والأساطير.
غاية الخلفاء والمجددين
سئل حضرته ما هي الغاية من بعثة الخليفة؟ فقال حضرته عليه السلام :
الإصلاح. انظروا، قد بدأ هذا النسل الإنساني من آدم عليه السلام، وبعد مدة طويلة حين ضعفت الحالات العملية للناس، ونسي الناس الغاية المنشودة من خلقهم وكتابِ الله، وابتعَدوا عن سبيل الهدُى، هَدى الله العالم عن طريق مبعوث ومرسل منه وأخرجهم من هوة الضلال، وتجلى الكبرياء، وأقيم نور المعرفة في العالم من جديد كالمصباح، وجعل الإيمان نورانيا ومنيرا.
باختصار، من سنة الله المستمرة منذ القدم أن الناس حين ينسون تعليمَ نبي سابق بعد مرور زمن ويفقدون الطريق القويم ومتاع الإيمان، ونور المعرفة، ويحيط العالم من الجهات الأربع ظلامٌ خطير من الظلم والضلال والفسق والفجور، فإن صفات الله تجيش، ويقام اسم الله وتوحيدُه والأخلاقُ الفاضلة في العالم من جديد بواسطة إنسان جليل القَدْر، بعد إقامة معرفة الله وتُقدَّم الأدلة الساطعة على وجود الله سبحانه وتعالى بإظهار آلاف الآيات. ويقام في العالم العرفان الضائع والتقوى والطهارة المفقودة من جديد، ويحدث انقلاب عظيم. باختصار، قد أقيمت جماعتُنا بحسب هذه السنة نفسها.
تذكروا أن الإيمان يُعرف بالإيمان فقط وبالنور يُعرَف النور، فالشمس موجودة في العالم لكن الذي ليس في عينيه نور كيف له أن يستفيد منها؟ فالادعاء باللسان بأنّا لسنا بحاجة إلى إمام أو مصلح لخطير جدًّا.
أقول صدقا وحقا: إن المصاعب الشاقة والعقبات الوعرة تعترض سبيلَ الله، فالإيمان لا ينحصر في النطق باللسان فقط بشهادتي “لا إله إلا الله محمد رسول الله.” بل هو سرٌّ عميق ودقيق جدا، واسمٌ ليقين يُبعد عن الإنسان الثوائرَ النفسانية، ويُحدث فيه حالة تحرق الذنوب. فالذين ينشأ في نفوسهم نورُ الإيمان الصادق والمعرفةُ الحقيقية لا يكونون كالرجال العاديين في العالم بل يتميزون، بل يكونون متميزين.
فاغترار المرء بعد ترك ذنب واحد واطمئنانُه بأنه قد صار مؤمنا، وأنه قد قطع جميع مدارج الإيمان، ما هو إلا خياله الذاتي فقط.
انظروا كيف أن الإنسان بفطرته لا يثبت على حالة واحدة دوما، فما دمتم غير متأكدين بعد تجربة طويلة واستقامة أنكم قد آثرتم الله في الحقيقة، وأن عادتكم المحرقة للذنوب صارت دائمة، وأنكم أُعطيتم النفس المطمئنة بعد الانسلاخ من الأمارة واللوامة، وأنكم أحرزتَ الطهارة الحقة عمليا؛ فلا مبرر لاطمئنانكم.
مراتب ترك الشر وكسب الخير
انظروا أن الله سبحانه وتعالى قد قال: “قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ” (الأعلى:14)، أي قد نال الفلاح من طهَّر نفسه كاملة واتقى وصلح، ولم يعد يخطر بباله ارتكابُ الذنوب والمعاصي مطلقا، وقطعَ مراحل ترك الشر وكسب الخير كاملة، عندها ينال الفلاح. فالفوز بالإيمان ليس أمرا هينًا يسيًرا، كلا بل من المستحيل أن ينال الإنسان الإيمان الصادق ما لم يُورد الموت على نفسه.
انظروا، إن للإيمان علامتين فقط؛ فأولًا يجب أن يتخلى المرء عن الذنوب، وتتحقق له الحالة التي يرى فيها ارتكابَ الذنب بمنزلة الارتماء في النار أو إدخال إصبع في جحر فيه حية سوداء، أو ارتشاف كوب سمّ زعاف. تذكروا أن مجرد ترك الشر ليس برًّا، بل البر أن يكسب الحسنات أيضا بعد ترك الشر، فحين يتقدم الإنسان على درب ترك الذنوب لهذه الدرجة عندها يجب عليه أن ينشط في إحراز الحسنات عملا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم بحسب مشيئة الله، حيث لا يبقى أي عائق في طبعه ويصبح قادرا على إحراز البر بانشراح الصدر.
انظروا كيف أن بعض الناس بطبعهم لا يقدرون على ارتكاب بعض المعاصي، فالإنسان الذي لم يعطَ قوة الرجولة، هل يمكن أن يتباهى بأنه لا يزني، أو الذي لا يتيسر له قوت اليوم البسيط إلا بصعوبة هل يستطيع أن يدعي أنه لا يشرب الخمر، أو الضعيف العاجز عديم الحيلة الذي يواجه الذلة والهوان هل يمكن أن يزعم أنه يتحلى بالصبر والتحمل والحلم دوما، ولا يقاوم أحدًا، بل يعفو عن الجميع؟ باختصار إن بعض الناس بطبعهم لا يقدرون على ارتكاب بعض الذنوب. فمن المحتمل أن يكون هناك بعض البسطاء لم يرتكبوا أي ذنب طول الحياة. إذن فترك الذنوب فقط ليس شرطا للحسنة، بل لكسب الخير أيضًا جزء كبير. فلا يمكن أن يكون الإنسان كاملا ما لم يشرب كلا الشرابين. فقد قال الله في “سورة الإنسان” إن هناك شرابا كافوريا وآخر زنجبيلي. ويسقى المقربون والورعون كليهما، فبارتشاف الشراب الكافوري يسكن قلب الإنسان وتتوانى قوى الذنوب. فالكافور يكظم المواد الخبيثة، فالذين يُسقون شرابا كافوريا، فإن قواهم لارتكاب الذنوب تندفن نهائيا، ولا تصدر منهم الذنوب نهائيا، ويتحقق لهم نوع من السكينة، وينزل عليهم كالماء نور يغسل قلوبهم من جميع الأدران في صدورهم، وتُقطع عنهم علاقاتُ الحياة السفلية كلها، وتخمد نار الميل العارم إلى ارتكاب الذنوب للأبد. لكن تذكروا أن البر والحسنة لا تنحصر في هذا. هنا تذكرت حادث شخص دعاه أحد لتناول الطعام في بيته، وبعد تقديم الطعام والفراغ من الضيافة قال له صاحب البيت معتذرا: أنا آسف، فلم أستطع أن أقدم الضيافة كما كان واجبا، أو كما كنت تستحق -وبذلك قدم اعتذارا وفق العادة السائدة-، لكن الضيف كان متمردا لدرجة أنه اغتاظ من قول المضيف هذا وقال له: أتريد أن تمن علي بقولك هذا؟ فاعلم أنه ليست لك مِنّة علي، وإنما لي عليك مِنّة عظيمة. فقال له صاحب البيت: هذا يسرني فتفضل وأسمعني كيف ذلك، فقال له الضيف: عندما كنتَ مشغولا في الضيافة وإحضارِ الطعام كنتَ غافلا عني تماما، وكنت في الغرفة وحدي فلو أني أشعلت النار في بيتك فكم كنت ستواجه من الخسائر. فمنَّتي عليك أني لم أفعل ذلك، ولم تمنّ علي.
باختصار، هذا مثال ترك الشر، لكن تذكروا أن أحدًا لا يمكنه تقديم المثال من هذا القبيل أمام الله، بل هناك سيواجه الجزاء على ما عمل، فقد شبَّه الله ترك الذنوب بشراب كان مزاجه كافورا.
والمرحلة التالية أن يُسقى الإنسان شرابا زنجبيليا، فكلمة زنجبيل مركبة من “زنأ” و”جبل.” فمن تأثير الزنجبيل أنه يزيد حرارة الغريزة. والمعنى اللُغوي للزنجبيل صعود الجبل. فالنقطة فيها أنه كما يصعب على الإنسان صعودُ الجبل، لكنه يسهل باستعمال هذا الشيء المقوي. وكذلك صعود جبل الحسنات الروحاني أيضا صعب جدا، لكنه يسهل بتناول شراب الزنجبيل الروحاني.
فإحراز الأعمال الخالصة لوجه الله فقط بالإخلاص والثواب أيضًا جبل، وهو يشبه المرور من العقبة الوعرة جدا، وليس من شأن كلّ قديم أن تصل إليها. فانظروا أنّ في الأمور المادية تُتوخى النتيجة الظاهرة، وتُبذل الجهود لأمر معين، ويسعى الإنسان واضعا في البال هدفا معينا وغاية منشودة، ويستنزف الجهود المضنية لنيل النجاح. وكم يتحمل المشاق المرهقة لنيل مدارج العز والمراتب، بحيث يصاب أحيانا بالجنون بسبب هذه الجهود الشاقة، وأحيانا يصاب بعوارض السل وحُّمى الدِّق وغيرهما من الأمراض. فإذا كانت عقبات الامتحانات المادية صعبة لهذه الدرجة، فكم يحتاج الإنسان للجهود الشاقة لصعود عقبات الأهداف الدينية والروحانية التي نتائجها ما زالت في الغيب؟ كما لا يقدر بعض أصحاب الطباع الظنية على التأكد من وجودها وعدمها؟ فالزعم بأننا نستطيع الوصول إلى الله نتيجة نفخة واحدة، ونتطهر بالإقرار باللسان فقط، زعْم الذين لم يروا الإصلاح قط ولم يسمعوا عنه.
إن مراحل الطهارة بعيدة جدا
تذكروا أن مراحل الطهارة صعبة المنال جدا، وهي تفوق هذه الأفكار. فإحراز الطهارة المحضة واجتناب الصغائر والكبائر عملُ أولئك الذين يضعون الله في الحسبان كل حين وآن، وهم الذين يكونون ملائكيّي السيرة. فانظروا إذا رُبط المعز أمام أسد فسوف ينسى الأكل والشرب أيضًا، فضلا عن الرعْي في الحقول هنا وهناك وأكْلِ زروع الناس التي زرعوها ببذل الجهود الشاقة. فهذا هو مثال الإنسان، إذا كان يوقن بأنه يرى الله أو على الأقل يراه الله، فمن المستحيل أن يصدر منه أي ذنب. فمن القاعدة الفطرية أن الإنسان حين يعرف يقينا وقطعا، أن الذهاب إلى مكان معين مدعاة للهلاك، أو في جحر حية سوداء وقد شاهدها بأم عينه، فهل يمكن أن يُدخل فيه أصبعه؟ أو هل يمكن أن يتوجه وحده ودون سلاح إلى غابة يتأكد من وجود أسد هصور فيه؟ كلا فهو المستحيل. باختصار، قد فُطر الإنسان على اجتناب الذهاب إلى مكان يوقن بأنه مُهلك. فما لم تتحقق معرفة الله لهذه الدرجة وما لم يوقن المرء بأن معصية الله والذنبَ نارٌ محرقة، أو سمٌّ قاتل، فهو لم يدرك حقيقة الإيمان. والإيمان دون هذا اليقين الكامل ناقصٌ ، فالإيمان الذي لا يؤثِّر في الأعمال أو الذي لا يُحدث أي تغير في أوضاع الإنسان، عديم القيمة، ولا فضل له.
فالذين يريدون أن يعيشوا في هذه الدنيا منشغلين في أعمالهم براحة واطمئنان، ويفوزوا بقرب الله أيضًا، ويتطهروا دون أن يبذلوا جهدا وسعيا يذكر، فهذا خيال فاسد. فقد أجمع جميع الأنبياء والأولياء والأتقياء والصالحين على أن التطهير فعل الله، وأنه لنيل هذا الفضل الإلهي لا بد من اتباع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعال :ى “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” (آل عمران:31). معلوم أن الشمس موجودة في العالم، لكن للاستفادة منها لا بد من العين الباصرة أيضًا. إن قانون الله في الطبيعة ليس لغوا ولا عديم الفائدة. فالوسائل التي خلقها الله للحصول على أمر معين لا بد من استخدامها لنيل النتائج المتوخاة. فقد خلق الله الآذان للسمع لكنها لا تقدر على الرؤية، بينما العين التي خُلقت للرؤية لا تستطيع أن تسمع، فمثل ذلك إن الطريق الذي حدده الله سبحانه وتعالى لنيل فيوض فضله، كيف يمكن أن ينجح أحد بإهماله. لا تُنال الطهارة الحقة إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله بنفسه قد وعد أنكم إذا أردتَ أن تكونوا أحباء الله فاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم. فالذين يقولون ما الحاجة إلى أي نبي أو رسول فكأنهم يريدون إبطال قانون الله في الطبيعة.
يقول الله سبحانه وتعالى: لا يستطيع أحدكم أن يتزكى ما لم أزكِّه، وأنتم عميان إلا من وهبتُ له العينين، وأنتم ميتون إلا من أحييتُه. فعلى الإنسان أن يداوم على الدعاء، ويولِّد في نفسه الرغبة الصادقة والحرقة الحقة لإحداث التغير الطاهر، ويخلق في قلبه عطش حب الله لكي ينصره فيضُه ويقيمه بإظهار القدرة. يجب أن يتفانى في طلب الله والبحث عن رضوانه لكي يحييه الله ويسقيه شراب الوصال. لكنْ إذا تسرَّع الإنسان ولم يعبأ بالله تعالى مطلقا أو أعرض عنه إعراضا بسيطا، فاعلموا أن الله أيضا غني عن العالمين. فهل يقدر أحد على محو قانون الله الذي حدده للحصول على فضله. وهو أن الآملين في نيل الفضل من الله يجب أن يدخلوا من باب التواضع والخشوع، عندها ستتحقق آمالهم. وإلا لو ظلوا يتيهون طول العمر لما وسعهم الوصول إلى الغاية المتوخاة دون هذا الطريق الأصلي (أي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم) . فالذي لا يتبع طريقا علَّمَنا إياه الله فإنه هالك. لكن الناس رغم التبيين والشرح لا يفهمون ويُعرضون. إن أكثر ما أطلب منهم هو أنهم يجب أن يجربوا الطريق الذي أدلُّهم عليه، ليعرفوا هل أصدق أم أكذب. إن الله هو يحاور من قِبلي بنفسه، وإلى الآن قد أظهر آلاف الآيات أيضًا تأييدا لي، فمن ذا الذي لم يشاهد أيًّا من آياتي؟ قبل فترة جاء إنجليزي من أميركا وأقر قبل عودته أن دوئي قد مات فعلا تحقيقا لنبوءتي، وأن دوئي نفسه كان رجلا سيئا.
باختصار، ليس دوئي وحده آية بل ثمة آلاف الآيات النيرة العظيمة. فالله سبحانه وتعالى لا يخضع لأحد سواء أحيا الموتى أو أمات الأحياء.
باختصار، إنكم تبذلون أعماركم وأموالكم وثروتكم وصحتكم ووقتكم من أجل الأعمال المادية. لكن الدين أيضًا يستحق أن يُبذل له شيء من الوقت والعمر والثروة، إنك لبثتَ في بريطانيا ثلاث سنوات ونصف. ونقول لك دع عنك السنوات الثلاث وأقم عندنا نصف سنة على الأقل، ثم انظر كم تزداد معلوماتك.
معنى خاتم النبيين
سُئل حضرته ما معنى خاتم النبيين؟ فقال عليه السلام :
معناه أنه لن يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم أي نبي مشرع، وأنه لا يمكن أن يأتي بعده نبي لا يحمل تصديقا من خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
يقول رئيس المتصوفين ابن عربي: إن انقطاع النبوة وموت الإسلام سيَّان. انظروا أن في زمن موسى عليه السلام كانت النساء أيضًا يتلقين الإلهام إذ كلَّم الله أمَّ موسى عليه السلام. وما قيمة الدين الذي لا تستمر بركاته وفيوضه بل انقطعت. إذا كان الله ما زال يسمع الآن كما كان يسمع في الماضي، ويرى الآن أيضًا كما كان يرى في الماضي، وإذا كان في الماضي يتكلم أيضًا كما يسمع ويرى، فلأي سبب انقطعت الآن صفة التكلم هذه؟ إذا كان الأمر كذلك فيُخشى أن يفقد الله سبحانه وتعالى يومًا من الأيام القدرة على السمع والرؤية أيضًا. فالأسف على مثل هذه الأفكار السخيفة. فالحق أن الله ما زال يكلم الآن أيضًا كما كان في الماضي يكلِّم جميع الأنبياء. فأنا شخصيًّا موجود لإثبات ذلك. فاعلموا يقينا أن الله سبحانه وتعالى كما ينظر ويسمع يتكلم أيضًا. فالإسلام لا يبقى حيا ولا ينال أي عزة إلا بالإيمان بأن مكالمته ومخاطبته سبحانه وتعالى مستمرة في المسلمين للأبد، وبدون ذلك يصبح الإسلام أيضًا دينًا عديم الفيوض والبركات وميتا كسائر الأديان.
إذا لم تفهم هذا الأمر الآن فسوف تفهمه في وقت آخر، فبدون الإيمان به لا يبقى الإسلام، ولن تجد بدا من التسليم بذلك. إذا كان طبع أحد غير مبال، فلا يقدر أحد على سدّ النقص الطبعي، أما إذا كان الطبع سليما، فسوف ينجذب إلى هنا يوما من الأيام حتمًا.
ثم سُئل عليه السلام : هل يمكن أن يكون أنبياء عدة في عصر واحد؟
فقال عليه السلام : نعم، لا ننكر حتى ولو كانوا ألفا في وقت واحد ولكن ينبغي أن يقدموا إثبات دعاويهم وأدلة صدقهم.
هل هذا القرن هو الأخير؟
سئل حضرته هل هذا هو القرن الأخير؟ فقال عليه السلام :
الله أعلم به، فهو قادر على أن ينهي العالم كله بزلزال واحد، فالواقع أنه يخطر ببال الإنسان مثل هذه الأسئلة في زمن الراحة والسعادة، وحين تطرأ مشكلة بسيطة أو يحدث زلزالٌ، وتهتز البيوت، عندها فورا يفكرون أن القيامة قد قامت، وأن وقت نهاية العالم قد حان وسوف يؤمنون بالله بصدق القلب. لكنه حين يسود السلام تخطر ببالهم الأسئلة من هذا القبيل حصرا.
قال عليه السلام : سرد مير محمد إسماعيل قصة عن هزة سابقة حدثت في 1905/4/4 وهي أن رجلا كان ملحدا لا يؤمن بوجود الله، لكنه حين حدث الزلزال بدأ يردد الله، الله، وحين قيل له بعد انقضاء ذلك الوقت إنك تنكر وجود الله، فلماذا كنت تردد الله الله؟ فقال بشيء من الخجل: لقد أخطأت في الحقيقة إذ قد فقدتُ صوابي.
باختصار، إذا أراد الله سبحانه وتعالى أهلك بهزة واحدة فقط، فلا شيء يستحيل على الله. لقد أنبأني الله الآن أيضًا عن زلزلة، فسوف تحدث حتما وبغتة، حيث يكون كل إنسان مشغولا في أعماله هادئ البال. فالأفكار الفلسفية أيضًا تخطر في زمن الرخاء، وحين يأتي العذاب ينسى الإنسان كل شيء. فالزلزال الذي حصل في 4/4 كنت قد تنبأتُ به سلفا أيضا. وهذا الطاعون الذي يفتك بالعالم ويثير ضجة كنت قد تنبأت به أيضًا قبل وقوعه، وقد نشرتُ هذا النبأ وأشعته في الكتب والإعلانات، ولم يكن أمرا شفهيا، فقد ظهر بحسب النبوءة تماما، ولم يتوقف الله سبحانه وتعالى بعد، وقد قرر تنبيهَ العالم ولن يكُفَّ ما لم يسُقْ العالم إلى الإيمان بصولات قوية. أما أنا فكل ليلة هي جديدة لي، الله أعلم ما الذي يكاد أن يحدث، وماذا سيحدث، فينبغي الانصراف دومًا إلى الدعاء خائفين خاشعين.
(المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/5/10م)