ليتجهز كل واحد لسفر الآخرة
قال الامام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام: إن هدفي من هذا الخطاب هو بيان أن لا ضمان لحياة الإنسان، وظني أن الأحباب الذين هم مجتمعون حولي الآن ربما لن يجتمعوا بهذا القدر في العام الآتي. وقد رأيت في هذه الأيام كشفًا بأن بعض الأحباب لن يكونوا في الدنيا في العام القادم، غير أني لا أستطيع القول مَن هم أولئك الأحباب الذين سيكونون مصداقا لهذا الكشف؟ وإني لأعلم أن الحكمة في هذا الإخفاء هي أن يكون كل واحد منكم جاهزًا لسفر الآخرة. وكما قلت آنفا إني لم أُخبَر باسم شخص معين، غير أني أعلم جيدا بإعلام الله تعالى أن للقضاء والقدر وقتًا محددا، ولا بد للمرء أن يغادر هذه الدنيا الفانية يوما ما، لذا فلا أرى مناصًا من القول إنه يجب على كل شخص وأخ موجود في هذا الجمع ألا يعدّ كلامي قصة قصّاص، بل إنه قولُ واعظٍ مأمورٍ من الله تعالى، ينصحكم كناصح أمين وبصدق قلبٍ وحرقةٍ بالغة.
الإيمان بالله تعالى
فها إني أقول لأحبابي أن يتَذكّروا، وأقول لهم ثانيةً أنْ اسمعوا بآذان القلوب، واحفظوا في الأفئدة بأن الله تعالى ذات عليا ونورٌ، كما قد أثبتَ وجودَه ووحدانيته بأدلة قوية وسهلة وواضحة في كتابه القرآن الكريم. اعلموا يقينا أن الذين تساورهم الشكوك والشبهات حول وجود ذات البارئ العظيمة مع رؤية قدراتها وعجائبها لأشقياء جدا. لقد قال الله تعالى عن ذاته العظيمة المقتدرة: “أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (إبراهيم:10). إنه لمن الأمور البديهية البيّنة أنه لا مناص من الاعتراف بوجود الصانع برؤية صنعته. فبرؤية حذاء جيد أو صندوق لا يسع المرء إلا الاعتراف الفوري بصانعه، فمن العجب العجاب أن ينكر أحد مع ذلك وجود البارئ تعالى.كيف يسع أحدًا إنكار وجود صانع نجد الأرض والسماء مليئة بملايين صنائعه؟ اعلموا يقينا أن الغبي الذي يشك في وجود الله تعالى مع رؤية عجائبه وصنائعه هذه التي لا دخل ليد البشر وعقلهم فيها، أقول إن ذلك الشقي واقع في قبضة الشيطان، وعليه أن يستغفر الله تعالى. إن إنكار وجود البارئ تعالى ليس مبنيا على الدليل والرؤية، كلا بل إن إنكاره جل شأنه رغم مشاهدة هذا الكم الهائل من عجائب القدرات وغرائب المخلوقات والصنائع التي تملأ السماوات والأرض لهو منتهى العمى.
والعَمى نوعان: عَمى العيِن وعَمى القلب. أما عمى العين فلا تأثير له على الإيمان، ولكن عمى القلب يؤثر على الإيمان، فلا مناص لكل إنسان من الانهماك في الدعاء كل حين بمنتهى التذلل والخشوع بأن يهبه الله تعالى معرفة صادقة وبصيرة حقة ويفُظه من وساوس الشيطان.
الإيمان بالآخرة
ووساوس الشيطان وشبهاته كثيرة، وأخطر شبهة تساور قلب المرء وتجعله مصداقا لقوله تعالى: “خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ” (الحج:11) هي عن الآخرة. ذلك أن الإيمان بالآخرة من أكبر الوسائل الدافعة للإنسان إلى فعل الصالحات والحسنات، أما إذا عدّ الإنسان الآخرة وما يتعلق بها قصةً فارغة فاعلموا أنه قد أصبح من المردودين، وخسر الدنيا والآخرة.
لذا فإن خوف الآخرة أيضا يجعل الإنسان خائفا وَجِلًا ويجذبه إلى نبع المعرفة الحقيقي جذبًا. والمعرفة الحقيقية لا تتيسر بدون خشية الله وتقواه الحقيقية. فاعلموا أن نشوء الوساوس عن الآخرة في القلب يعرّض الإيمان للخطر ويهدد العاقبة الحسنى.
عيشة الأبرار
هل تظنون أن كل الأبرار والأخيار والصالحين الذين كانوا يبيتون الليالي سجّدًا وقيامًا حتى الصباح كانوا أكثرَ منكم قوةً وكانت لهم أجسام هيكلية قوية كالمصارعين؟ كلا. اعلموا واعلموا جيدا أن هذه الأعمال لا تُنجَز بالقوة الجسدية أبدا بقدر ما تُنجَر بالقوة الروحانية. لا شك أنكم قد رأيتم أناسًا يأكلون في اليوم الواحد ثلاث أو أربع مرات كل ما لذ وطاب من الأطعمة المغذية من الأرز مع اللحم وما إلى ذلك، ولكن ما هي النتيجة؟ يغطّون حتى الصباح من شدة النوم، ويغلب عليهم النوم والكسل، ويشقّ عليهم أداء صلاة العشاء، دعَْ عنك أن يصلّوا التهجد.
هل غلب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم العظام على الكفار لأنهم -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا مولعين بالعيش الهنيء والطعام الشهي؟ كلا، لم يكن الأمر هكذا. لقد وردت صفتهم في الصحف السابقة أيضا أنهم يقيمون الليل ويصومون الدهر، ويبيتون ذاكرين متفكرين. أما وكيف كان عيشهم، فإن الآيات التالية ترسم أسلوب حياتهم رسمًا تاما : “وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” (الأنفال: 60)، و “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا” (آل عمران:200)، أي: رابِطوا بخيولكم على الحدود، لأن أعداء الله وأعداءكم سيَرهبون من استعداداتكم هذه. فعليكم أيها المؤمنون الصبر والمصابرة والمرابطة.
معنى الرباط
والرباط هي الخيول التي تُربَط على حدود العدو. فالله تعالى يأمر هنا الصحابة بأن يكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة العدو دائما، ونبّههم باستخدام لفظ الرباط إلى الاستعداد التام والحقيقي. قد عُهدت إليهم مهمتان: محاربة العدو الظاهري، ومحاربة العدو الروحاني. والرباط يُطلَق في اللغة على نفس الإنسان وقلبه، ومن لطائف الأمور أنه لا يعمل من الخيل إلا ما يكون مروَّضا ومعلَّما. في هذه الأيام يتم ترويض الخيل وتعليمها على هذا النحو، فتُربَّى وتُعلَّم كما يعلَّم الأطفال ويُربَّون بحيطة وعناية كبيرتين، لأنها إذا لم تُروَّض وتُدرَّب فلا تصلح لشيء على الإطلاق، وتكون مجلبة للخطر والضرر بدلًا من النفع والفائدة.
وفي ذلك إشارة إلى أن النفوس البشرية، وهي الرباط، يجب أن تكون هي الأخرى مروضة مدربة بحيث تعمل قواها وكفاءاتُها ضمن حدود الله تعالى، إذ لولا ذلك فإن نفس الإنسان لا تجديه نفعًا في القتال الدائر في الخفاء كلَّ حين بينه وبين عدوه اللدود أعني الشيطان. وكما أنه لا مناص من المعرفة بفنون القتال والتدريب في القتال المادي، علاوةً على القوة البدنية، كذلك لا بد للنفوس البشرية في القتال والجهاد الباطني من ترويض وتدريب إلى حد مناسب، وإلا فإن الشيطان سيتغلب عليها، فتلقى الذلة والإهانة جدا. إذا كان أحد يمتلك المدافع والبنادق وغيرها من الأسلحة، ولكنه يجهل كيفية استعمالها تماما، فلن يفلح في مواجهة العدو أبدا. ولو كان أحد يمتلك المدافع والبنادق وغيرها من أسلحة الحرب، ويتقن استعمالها، ولكن لا يملك السواعد القوية، فهو أيضا لن ينجح في الحرب. فثبت من هنا أن تعلُّمَ استعمال السلاح أيضا لا يجدي شيئا ما لم يقوِّ المرء عضده بكثرة الرياضة، فإن الذي يعلم استعمال السيف، ولكن لا يمارس الرياضة ولا يتدرب، فإنه إذا خاض الحرب فسوف يضرب بالسيف بعض الوقت، ثم تشل يداه وتخور قواه، فيسقط على الأرض مرهقا متعبا، ويصبح فريسة للعدو.
ضرورة المجاهدة وترويض النفس
فاعلموا جيدا أن مجرد العلم لا ينفع شيئا ما لم يكن مقرونا بالعمل والمجاهدة والترويض. انظروا إلى الدولة كيف إنها لا تدَع الجيوش عاطلة عملًا بهذا المبدأ نفسه، بل في أيام السلم والأمن أيضا تعمل على تدريبهم وترويضهم بمناورات حربية في قتال مصطنع لكيلا يظلوا عاطلين. أما تدريبهم العادي وإطلاقهم النيران خلاله فيتم كل يوم.
وكما بينت آنفا فإن النجاح في ساحة القتال يتطلب الخبرة والمهارة في استعمال السلاح من جهة، ومن جهة أخرى يتطلب إلى حد كبير الرياضةَ البدنية ومعرفةَ المحل الأنسب لاستعمال سلاح معين. كما لا بد للحرب والضرب من الخيل المدربة، أي تلك التي لا يخيفها دويُّ المدافع وأزيزُ البنادق، ولا يجعلها الغبار الثائر خلال القتال تتشتت أو تتخلف، بل تمضي قدما. وبالمثل فإن النفوس البشرية أيضا لا تتغلب في معركة القتال على أعداء الله بدون رياضة كاملة وتدريب كامل وتعليم حقيقي.
ميزة اللغة العربية
اللغة العربية عجيبة، فلفظ الرباط في هذه الآية الكريمة يبين فلسفة الحرب وفنون القتال من جهة، ومن جهة أخرى يميط اللثام عن حقيقة الحرب الروحانية ومجاهدة النفس. وهذه ميزة عجيبة للعربية، ولذلك سُّميت “أُمَّ الألسنةِ”، فهي تعبّر عما تعجز عن تعبيره سواها من اللغات، وإن شاء الله سوف أكشف هذه المعارف بمنتهى الوضوح واللطافة في كتابي “منن الرحمن” الذي قد بدأت في تأليفه في هذه الأيام لإثبات فضل العربية وكونها أم الألسنة، وسوف يتأكد منه بأن البحوث التي قام بها الأوروبيون عن اللغات ناقصة وعقيمة الجدوى، وسيعرفون أن أم اللغات التي كانت قد أصبحت مفقودة الخبر قد عُثر عليها الآن شأن الحقائق الدينية المفقودة التي عُثر عليها في هذا العصر، وأن تلك اللغة هي العربية.
مجمل القول، إن اللغة العربية تبين الحقائق المادية كما تكشف الحقائق الروحانية أيضا، ذلك أن الأمور المادية والجسمانية نشاهدها في الخارج وندرك ماهيتها وحقيقتها بمنتهى السهولة، فلا صعوبة في معرفة فلسفة الأمور الروحانية قياسا على الأمور المادية. وإنه لمن فضل الله وبركته علينا أنه أنزل في هذا العصر المظلم نور المعرفة من السماء ليهدي الذين قد ضلوا السبيل، وكشف هذا الأمر الذي كان سرًّا من الأسرار الكامنة حتى الآن. وما هو ذلك يا ترى؟ إنه ذلك الاستدلال الذي قمنا به بشأن فلسفة اللغة العربية وماهيتها. فمباركون الذين يقدرون فضل الله ويستعدّون لقبوله.
أعطيَ الإسلام قوتين للحرب
خذوا مثلًا كلمة “الرباط” هذه، فهي تُطلق على الخيول المربوطة على الحدود لحمايتها من الأعداء، كما تُطلق على النفوس المدرَّبة استعدادًا للحرب الدائرة في باطن الإنسان بينه وبين الشيطان كل حين. والحق أن الإسلام قد أُعطيَ قوتين للحرب؛ والقوة الأولى هي التي استُخدمت في صدر الإسلام دفاعًا وانتقامًا، أي عندما آذى مشركو العرب جماعة المسلمين وعذّبوهم، تصدى ألف مسلم فقط لمئة ألف كافر، وأبلوا بلاء حسنا، وفي كل امتحان أثبتوا تلك القوة والشوكة الظاهرة. ثم ولى ذلك الزمن كاشفًا ما تتضمنه كلمة “الرباط” من فلسفة لقوة الحرب المادية وفنونها.
ضرورة تقديم نماذج الحرب الروحانية الآن
أما هذا العصر الذي نعيشه اليوم، فلا ضرورة ولا داعي فيه للحرب المادية أبدا، بل تقتضي هذه الأيام الأخيرة تقديَم نماذج الحرب الباطنية والمقاومة الروحانية، إذ قد اختُرعت في هذا العصر وسائل هائلة وأسلحة عظيمة لنشر الارتداد الباطني والإلحاد، فكان لزامًا مقاومتها بالأسلحة نفسها. إن هذا العصر عصر الأمن والسلام، وننعم فيه بكل نوع من الراحة والأمن، وكل إنسان يستطيع أن ينشر دينه ويبلّغ دعوته ويعمل بأحكامه بحرية، فكيف يمكن للإسلام، والحال هذه، أن يرضى بتقديم نموذج القوة الأول في زمن الأمن والحرية هذا، مع أن الإسلام هو الداعم الحقيقي للأمن والسلام، بل هو الدين الذي نشر الأمن والسِلم والوئام بصورة حقيقية. فالمطلوب في هذه الأيام هو النموذج الثاني أي المجاهدة الروحانية، فقد قيل:
أي: ما داموا قد أكلوا الحلوى مرة فهذا يكفي.
الجهاد في العصر الراهن
هذا، وكان هناك هدف آخر لتقديم ذلك النموذج الأول، وهو إبداء الشجاعة التي كانت تُعَدّ في ذلك العصر أكبر الخصال المحمودة المرضية في العالم. أما اليوم فقد أصبحت الحرب فنًّا من الفنون إذ يستطيع الجميع إطلاق النار من البندقية أو المدفعية عن بعد، أما في تلك الأيام فما كان لأحد أن يُعَدَّ بطلًا مغوارا ما لم يواجه السيوف المسلولة. لقد أصبح فن الحرب اليوم ستًرا للجبناء، ولا تُكسَب الحروب اليوم بالشجاعة، بل كل مَن امتلك الأسلحة الحربية الحديثة من مدافع وغيرها وبرع في استخدامها غلب. أما تلك الحروب فكان هدفها إظهار الشجاعة الكامنة في المسلمين، وقد كشفها الله على العالم على أحسن وجهٍ أراده، أما الآن فلم تعد هناك حاجة لذلك، لأن الحرب تحولت اليوم إلى فن ومكيدة وخديعة، وقد قضت أنواع الأسلحة الحديثة والفنون الحربية المعقّدة المعاصرة على جوهر الشجاعة الثمين الجدير بالاعتزاز قضاءً نهائيا.
وكان من الأسباب الداعية إلى الحروب الدفاعية والقتال الظاهري في صدر الإسلام أن الأعداء ما كانوا يجيبون مَن يدعوهم إلى الإسلام بالأدلة والبراهين، إنما كانوا يردّون عليه بالسيف، فحُمل السيف مقابل السيف على سبيل الاضطرار. أما اليوم فلا يُرَد على الإسلام بالسيف، بل يُطعَن فيه بالقلم والأدلة، ومن أجل ذلك أراد الله تعالى الآن أن يُستخَدم القلم مكان السيف ويُهزَم الأعداء بالكتب.
لذا فلا يجوز لأحد الآن أن يسعى للرد على القلم بالسيف.
أي: إذا لم تراعِ المراتب والمناسبة أصبحتَ زنديقا.
هناك حاجة إلى القلم الآن
اعلموا يقينا أن الوضع الراهن لا يقتضي السيف بل القلم. إن الشبهات التي أثارها معارضونا ضد الإسلام، والهجمات التي أرادوا أن يشنّوها على دين الله الحق بأنواع العلوم والمكايد، قد وجّهتني إلى النزال في مضمار العلوم والتقدم العلمي هذا متوشحًا سلاح القلم، لُأريهم معجزة الشجاعة الروحانية والقوة الباطنية للإسلام. متى كنتُ قادرا على أن أخوض هذا الغمار، إنما هو فضل الله العظيم ولطفه الجمّ أنه أراد أن تظهر عزةُ دينه على يد إنسان ضعيف مثلي. مرة عددتُ الهجمات والمطاعن التي أثارها المعارضون على الإسلام، فبلغتْ ثلاثة آلاف حسب تقديري، وظني أن عددها قد زاد على ذلك الآن. لا يظنّنّ أحد أن الإسلام أساسه على أمور ضعيفة بحيث يمكن أن يثار ضده ثلاثة آلاف اعتراض بالفعل. كلا، ليس الأمر كذلك، وإنما هذه الأمور اعتراضاتٌ عند قصيري النظر وقليلي الفهم هؤلاء. أقول والحق أقول إني حين أحصيت تلك الاعتراضات، كنتُ تأملتُ فيها أيضا، فوجدت أن نفس الأمور التي طعن فيها الطاعنون تكمن في طياتها حقائق عظيمة ونادرة وكثيرة لم يروها لعدم بصيرتهم. إنه لمن حكمة الله العظيمة أنه قد وضع كنزًا خفيًا للحقائق والمعارف حيثما تعثّر المعترضُ العَمِهُ.
غرض بعثة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام
لقد بعثني الله تعالى لكي أكشف للعالم تلك الكنوز الدفينة وأزيل عن تلك الجواهر اللامعة ما أهيلَ عليها من وحل الاعتراضات النجسة، وأنظفها منها. إن غيرة الله تعالى ثائرة في هذه الأيام بشدة لتنزيه ساحة كرامة القرآن الكريم وقدسيته عن وصمة اعتراضات كل عدو خبيث.
باختصار، ما دام المعارضون يريدون الجُوم علينا بالقلم، بل هم يهاجمون بالفعل، فمن الصفاقة أن ننبري لمقاومتهم بالعصي. وها إني أقول لكم بمنتهى الصراحة والوضوح أن أحدا لو اختار في الظرف الراهن طريقَ الحرب والقتال باسم الإسلام ردًا على الطاعنين، فإنه سيلطّخ سمعة الإسلام. لم يشأ الإسلام قط أن يُرفَع السيفُ دونما ضرورة ولا حاجة. وكما أسلفت، إن أهداف الحروب لم تعُدْ دينية بعد أن تحولّت إلى فن من الفنون، وإنما صارت الأغراض المادية هدف الحروب. لذا فمن الظلم العظيم أن نشهر السيف على المعترضين بدلًا من الرد على مطاعنهم. لقد تغيّر أسلوب الحرب بمرور الزمان، فالآن هناك حاجة لأن نستعين بالعقل والفطنة أولًا، ونزكّي أنفسنا، ونستعين بالله ونستفتحه بالسداد والتقوى. إنها سنة الله الثابتة المحكمة لا تبديل لها، أما إذا أراد المسلمون النصر والفتح بمجرد القيل والقال والكلام الفارغ فهذا محال، لأن الله تعالى لا يحب ثرثرة اللسان والكلام الفارغ، إنما يريد التقوى الحقيقية ويحب الطهارة الحقة، كما قال تعالى : “إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ” (النحل:128).
ضرورة إعمال العقل
علينا إعمال العقل أيضا، لأن الإنسان مكلف بسبب العقل. لا يمكن لأحد أن يجبر نفسه على قبول ما ينافي العقل. لم يكلفنا الشرع بما يفوق القوى البشرية. إن قول الله تعالى: “لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” (البقرة:286) يبين جليا أن أحكام الله ليست مما يستحيل أن يعمل به أحد، كما لم ينزل الله شرائعه وأحكامه في الدنيا إظهارًا لفصاحته وبلاغته ولا تدليلًا على قوته الإيجادية ولا بيانًا للقصص والأساطير، وكأنما قرر منذ البداية أن الإنسان الضعيف الحقير لن يقدر على العمل بهذه الأحكام. كلا، تعالى الله عن فعل ذلك علوا كبيرا. غير أن النصارى يؤمنون أنه ليس بوسع أحد في الدنيا أن يعمل بشرع الله وأحكامه. إن هؤلاء الحمقى لا يعلمون أن الأمر لو كان كما يزعمون فلماذا أنزل الله الشرع أصلا. فكأنما يزعمون أن الله تعالى أنزل شريعته على الأنبياء السابقين عبثًا، والعياذ بالله. الحق أن عقيدة الكفارة والفداء هي التي ألجأت النصارى لوصم ذات البارئ سبحانه وتعالى بهذا العيب. من العجب العجاب أن هؤلاء لم يتورعوا عن الإساءة إلى الله تعالى تبريرًا لعقيدتهم الملفقة.
وراء كل حكم قرآني حكمة وغاية
أجل، إنه لمن محاسن تعاليم القرآن الكريم أن وراء كل حُكم من أحكامه علّة وغاية ومصلحة، ولذلك قد حثّ القرآن الكريم مرارا على إعمال العقل والفهم والتدبر والتفقّه والإيمان. وهذا هو ما يميز القرآن المجيد عن الكتب الأخرى، إذ لم يجرؤ أي كتاب آخر على عرض تعاليمه أمام النقد الدقيقِ الُحرِّ المبني على العقل والتدبّر، بل إن الحماة الخدّاعون للإنجيل الصامت لما رأوا عجز تعاليمه أمام نقد العقل، أدخلوا في عقائدهم بمنتهى المكر والدجل أن الثالوث والفداء سِرّانِ لا يقدر العقل البشري على معرفة كنههما وحقيقتهما. وعلى النقيض يعلّمنا الفرقان الحميد: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالَْأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لُِأولِي الَْألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله” (آل عمران: 190-191)، أي أن ظاهرة خلق السماوات والأرض وتناوُبِ الليل والنهار تُرشِد أصحابَ العقول بوضوح إلى ذلك الإله الذي يدعو إليه دين الإسلام. فترون كيف تحثّ هذه الآية بمنتهى الصراحة أهلَ العقل على إعمال عقولهم.
إله الإسلام
واعلموا أن إله الإسلام ليس لغزًا محيًِّرا يُجبَر الإنسان على الإيمان به ضاربًً بعقله عرض الحائط، ولا يوجد في صحيفة الفطرة أي دليل على وجوده! كلا، بل يوجد في النواميس الطبيعية الواسعة آياتٌ كثيرة جدًّا تدلّ على وجوده دلالة واضحة.
فكل شيء في الكون يرشد إلى الله تعالى كعلامة أو لافتة توضع على رأس كل طريق وشارع لإرشاد الناس إلى اسم ذلك الطريق أو الحارة أو المدينة، ولا يُخبِر بوجود البارئ تعالى فحسب، بل يقدم على وجوده دليلا يشفي القلوب. إن شهادات السماوات والأرض لا تدلّ على وجود إله مصطَنع مزيَّف أبدا، بل تُري وجهَ ذلك الإله الحي القيوم الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، والذي يقدمه الإسلام. فها هو القس فندر- أحدُ رُوّاد القسيسين الوافدين إلى النُد الذين خاضوا المناظرات الدينية ووجهوا أنواع الطعن إلى الإسلام- قد أثار في كتابه “ميزان الحق” تساؤلا: لو كانت هناك جزيرة لم يعلم أهلها الثالوث، فهل يحاسَب سكّانُها في الآخرة بناءً على عقيدة الثالوث؟ ثم أجاب بنفسه على تساؤله وقال: سوف يحاسَبون بحسب عقيدة التوحيد.
ويمكنكم أن تدركوا من هنا أنه إذا لم يكن نقش التوحيد موجودا في كل شيء، وإذا لم يكن رسم الثالوث مختلَقًا مزيفا فلماذا يحاسَب هؤلاء بحسب عقيدة التوحيد؟
نقش التوحيد موجود في كل شيء
الواقع أن حقيقة “أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى” (الأعراف:172) محفورة في فطرة الإنسان، أما الثالوث فلا علاقة له بجبلّة الإنسان ولا بأي شيء في الكون. انظروا مثلًا إلى قطرة الماء فإنها تتراءى كروية الشكل لا مثلّثة الشكل، وهذا أيضا دليل بين على أن نقشَ التوحيد موجود في كلّ شيء في الكون. لو أمعنتم النظر في قطرة الماء وجدتموها كروية الشكل، والشكل الكروي يشير إلى التوحيد لأن الشكل الدائري لا يقبل الجهة، أما المثلّث فيقبل الجهة. ثم انظروا إلى النار مثلًا، فهي مخروطية الشكل ومع ذلك فيها كرويةٌ، ويسطع منها أيضا نور التوحيد. وخذوا الأرض مثلًا، واسألوا الإنجليز عن شكلها، سيقولون لكم إنها كروية الشكل. باختصار، كلما تقدمت البحوث العلمية الطبيعية فلسوف تؤكد التوحيد وحده. لقد أخبر الله تعالى في قوله “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالَْأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لُِأولِي الَْألْبَابِ” (آل عمران:190 أن السماوات والأرض زاخرة بالبراهين الدالة على وجود الإله الذي يقدمه القرآن الكريم.
أحبُّ مقولة أحد الحكماء جدا وهي: لو أُتلفت كل الكتب في النهر لظل إله الإسلام باقيا، إذ ليس مثلثًا ولا أسطورةً. إنما الحق اليقين المتين ما لا يكون صدقُه متوقفًا على شيء معين، بحيث لو انعدم ذلك الشيء لم يبق لذلك الأمر أثر.
الأساطير الفارغة ليس لها نقش لا في القلب ولا في صحيفة الطبيعة، إنما يسلّمون بوجودها ما دامت محفوظة في ذاكرة بانديت أو قسيس وغيره من رجال الدين، وبعدها تُمحى تلك الأساطير كما تمحى الأباطيل.
نواميس الطبيعة شاهدة على صدق القرآن
قال الله تعالى: “إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيٌم * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يََمسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ” (الواقعة: 77-79)، أي أن القرآن كله محفوظ في صندوق متين من النواميس الطبيعية. ما هو المراد من قوله تعالى بأن القرآن محفوظ في كتاب مكنون؟ المراد أنه ليس منحصرا في الصحف فقط، بل إنه لفي كتاب مكنون يسمى صحيفة النواميس الطبيعية، بمعنى أن كل ذرة من النواميس الطبيعية تشهد على صدق تعاليم القرآن كلها. إن تعاليمه وبركاته ليست مجرد قصة وحكاية حتى يأتي عليها الزمان.
ضرورة الوحي والإلهام
وبما أنه ليس بوسع كل إنسان أن يبلغ مدارج اليقين فمسّت الحاجة إلى الوحي الذي يعين العقل في الظلام كسراج منير، ومن أجل ذلك نجد أن كبار الفلاسفة قد فشلوا في الوصول إلى الإله الحق متّكلين على العقل وحده، حتى قال الفيلسوف الكبير أفلاطون عند موته: إني خائف، فاذبحوا لي ديكًا على صنم. فأي دليل أكبر من هذا، ففلسفة هذا الفيلسوف العظيم وحكمته وفطنته أيضا فشلت في أن تجلب له تلك السكينة والطمأنينة التي تتيسر للمؤمنين. اعلموا جيدا أن الإلهام جد ضروري من أجل ثلج القلب واستقامته. أقصد من قولي هذا أن أَعْمِلوا عقولكم أولًا، ومَن يُعمل عقله سيرى إله الإسلام حتمًا ويقينا، لأن اسمه مكتوب بحروف كبيرة جلية على كل ورقة من أوراق الشجر وكل جرم من أجرام السماء، ولكن لا تكونوا تابعين للعقل وحده فتقلّلوا من أهمية الإلهام الإلهي الذي لا يتيسر بدونه الاطمئنان الحقيقي ولا الأخلاق الفاضلة. ليس بوسع أتباع فرقة “البرهمو” الهندوسية أيضا أن ينعموا بالراحة الحقيقية ونور النجاة الحق، لأنهم لا يؤمنون بضرورة الوحي. الحق والحق أقول إن الذين يعدّون الوحي عبثًا معتمدين على العقل وحده فهم بأنفسهم لا يستخدمون العقل أيضا في الواقع. لقد سمى الله في القرآن مَن يعملون عقولهم “أُولِي الْأَلْبَابِ” (آل عمران:190)، ثم قال في وصفهم: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَلله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِِهمْ” (آل عمران:191). لقد بين الله تعالى في هذه الآية الثانية الجانبَ الثاني من الأمر، وهو أن أولي الألباب وأصحاب العقول السليمة إنما هم أولئك الذين يذكرون الله جلَّ شأنه قياما وقعودا.
الفراسة الحقة
لا تظنّوا أن العقل والفطنة شيء يناله المرء عَرَضًا. كلا، بل لا تتيسر الفراسة الحقة والحكمة الحقيقية بدون الرجوع إلى الله تعالى، ومن أجل ذلك قيل: “اتّقوا فِراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.” وكما قلت آنفا، لن ينال المرء الفراسة السليمة والمعرفة الحقة إلا إذا تحلَّى بالتقوى. فإن كنتم تريدون أن تكونوا من الفائزين، فأَعْمِلوا عقولكم وتفكروا وتدبروا. لقد أوصى القرآن الكريم مرارا بالتدبر والتفكر. فتدبروا الكتاب المكنون.. القرآن الكريم، وكونوا متقين. إذا تطهرت قلوبكم وأَعْملتم العقل السليم وسلكتم دروب التقوى، فاجتماع هذه الأمور سيولد فيكم حالة ينبعث بها من قلوبكم دعاء: “رَبنََّا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” (آل عمران:191)، فتدركون أن هذه المخلوقات ليست عبثا، بل إنها تدل على حقانية الخالق الحقيقي ووجوده، لكي تنكشف أنواع العلوم والمعارف التي تدعم الدين.
نور الوحي والإلهام
لم يشرِّف الله المسلمين بعطية العقل فحسب، بل أنعم عليهم بنور الوحي والإلهام أيضا، لذا يجب أن يجتنبوا السبل التي يريد منهم الفلاسفة الذين ليس بأيديهم إلا المنطق الجاف أن يسلكوها. إنهم قوم يتميزون بقوة اللسان ولكن قواهم الروحانية تكون ضعيفة جدا. انظروا كيف وصف الله تعالى عباده فقال: “أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ” (ص:45)، ولم يقل إنهم أولو الألسنة، وهذا يدل على أن الله تعالى إنما يحب الذين ينظرون إلى فعله وكلامه ببصارة وبصيرة، ثم يعملون به. وهذه الأمور كلها لا تتيسر بدون تزكية النفس وتطهير القوى الروحانية.
سبيل الفلاح في الدارين
إن كنتم تريدون أن تفلحوا في الدارين وتفتحوا قلوب الناس، فطهِّروا أنفسكم، وأَعْمِلوا عقولكم، واعملوا بهدي كلام الله تعالى، وأصلِحوا أنفسكم، واضربوا لغيركم مثالًا للأخلاق الفاضلة، عندها سوف تنالون الفلاح يقينا. ولله در القائل:
أي: إذا خرج الكلام من القلب دخل في القلب يقينا.
لذا فأَعِدّوا القلوب أولا. إن كنتم تريدون التأثير في قلوب الآخرين فعليكم بقوة العمل، لأن قوة القول واللسان بدون العمل لا تجدي نفعًا. كثيرون هم الذين يُدْعَون مشايخ وعلماء، ويعتلون المنابر زاعمين أنهم نوُّابُ الرسول وورثةُ الأنبياء، ويعظون الناس قائلين: اجتنِبوا الكبر والزهو وسيئ الأعمال، ولكن يمكنكم قياس أعمال هؤلاء المشايخ وسلوكياتهم على مدى تأثير كلامهم في قلوبكم.
ضرورة تطابق القول والفعل
لوكانت لدى أمثال هؤلاء قوةُ العمل ولو عملوا أولًا بما يقولون للناس لما قال الله تعالى في القرآن الكريم: “لَِم تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف:2). تبين هذه الآية أنه كان في الدنيا وما زالوا، وسيكونون في المستقبل أيضا، أناسٌ يقولون ما لا يفعلون.
ألا فاسمعوا وعوا، أن كلام الإنسان يخلو من التأثير إذا لم يكن نابعا عن قلب صادق ومدعومًا بقوة العمل. ومن هنا يتجلى لنا صدق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أيما جلاء، إذ لم يوجد في تاريخ بني آدم نظيٌر لما رُزق من النجاح والتأثير في القلوب. وقد حدث ذلك كله لأن قوله وفعله كانا منسجمين تمام الانسجام.
اعملوا بنصائحي
يا مَن ترتبطون بي وأصبحتم كجوارحي وأعضائي نتيجة هذا الارتباط، لم أقل لكم هذا كله إلا لكي تعملوا به مستعينين بالعقل وبكلام الله تعالى، لكي تحظوا بنور المعرفة الحقة واليقين، فتكونوا وسيلة لجلب الآخرين إلى هذا النور. ذلك أن المطاعن التي تثار اليوم إنما أساسها على علوم الطبيعة والطب والفلك، فاستلزم ذلك أن نطّلع على ماهية هذه العلوم وحقيقتها، لكي تنكشف علينا حقيقة الطعن قبل الرد عليه.
تعلموا العلوم الحديثة
وإني أرى أن المشايخ الذين يعارضون العلوم الحديثة مخطئون. الواقع أنهم لا يفعلون ذلك إلا إخفاءً لضعفهم وخطأهم. لقد ترسخ في أذهانهم أن بحوث العلوم الحديثة تجعل المرء يسيء الظن بالإسلام ويضلّ الطريق، ويزعمون أن العقل والإسلام ضدانِ لا يجتمعان. فبما أنهم عاجزون عن كشْف مواطن الضعف في الفلسفة الحديثة، فيقولون بعدم جواز تلقِّي العلوم الجديدة إخفاءً لضعفهم. تنخلع قلوبهم من هول الفلسفة الحديثة وتخرّ أرواحهم ساجدة أمام الاكتشافات الحديثة.
الفلسفة الحقة في القرآن
والحق أنه لم تتيسر لأصحاب العلوم المادية تلك الفلسفة الحقة التي تتيسر بوحي الله تعالى، والتي يزخر بها القرآن الكريم، والتي لا توهب أبدًا إلا للذين يطرحون أنفسهم على أعتاب الله تذللًا وتواضعا، وتخلو قلوبهم وأذهانهم من عفونة أفكار الكبرياء، ويقرّون بالعبودية الصادقة باكين ومعترفين بضعفهم.
اجعلوا العلوم الحديثة تابعة للإسلام
فهناك حاجة لأن تتعلموا العلوم الجديدة لخدمة الدين ولإعلاء كلمة الله في هذا العصر، وأن تتعلّموها بجهد جهيد. إلا أني أحذّركم بناءً على خبرتي أن الذين مالوا إلى هذه العلوم كلية وانهمكوا فيها وعكفوا عليها بحيث لم يجدوا فرصة للجلوس في صحبة أهل الله وأهل الذكر، ولم يكن في أنفسهم نور الله، فقد تعثّروا وزلّوا وابتعدوا عن الإسلام على العموم، وبدلًا من أن يجعلوا تلك العلوم تابعة للإسلام حاولوا عبثًا أن يجعلوه تابعا لها، زاعمين أنهم يُسْدون بذلك خدمة جليلة إلى دينهم وقومهم. ولكن اعلموا أنه لا يوفَّق لهذه المهمة، أعني لخدمة الدين، إلا الذي يحمل في نفسه نور السماء.
واقع الأمر أن العلوم الحديثة تُدرَّس تدريسًا يغلب عليه طابع القساوسة والفلاسفة، والنتيجة أن المشغوفين بتلّقي هذه العلوم يلتزمون بتقاليد الإسلام بعض الوقت بما في جبلّتهم من حسن الظن الفطري، ولكنهم كلما تقدموا في تحصيلها ابتعدوا عن الإسلام أكثر فأكثر، حتى تخلوا عن تقاليده نهائيا، ولم يبق لهم صلة بالحقيقة على الإطلاق. فهذا هو مآل الذين يكتفون بتلقي العلوم الحديثة والبحوث الجديدة فقط، كما رأينا ولا نزال نرى. إن الكثيرين يُدعَون قادة الأمة، ولكنهم لا يدرون أن تحصيل العلوم الحديثة لا يكون نافعا إلا إذا حصّلها المرء بنية خدمة الدين فقط، وأيضا إذا تمتع بصحبة بعض عباد الله المقربين ذوي العقول السماوية. وإنني على يقين أنه ليس وراء انتشار هؤلاء الطبيعيين بين أهل الإسلام، المماثلين للملحدين، إلا سبب واحد، ألا وهو أنهم يسعون أن يردّوا على هذه الهجمات الشيطانية المشْبَعة بالسموم الإلحادية والتي يشنّها أصحاب العلوم الطبيعية والفلسفة والفلك على الإسلام، أقول: إنهم يحاولون الرد عليها بحجج عقلية وأدلة قياسية افتراضية لا أساس لها، زاعمين أن الإسلام والنور السماوي عاجزانِ عن الرد على مطاعن هؤلاء الأغيار، والنتيجة أن هؤلاء المجيبين يضلّون عن مطالب القرآن ومقاصده ضلالا بعيدا، ويلُقون على قلوبهم غشاوةَ الإلحاد الخفية التي تتحول فيما بعد إلى إلحادٍ واضحٍ بيٍِّن، إن لم يتداركهم فضل الله تعالى، ويركب على قلوبهم رين الإلحاد فيهلكون.
وهناك آفة كبيرة أخرى أصابت المثقفين المعاصرين، وهي أنه ليس عندهم أدنى إلمام بعلوم الدين، وعندما يقرأون اعتراضات الفلكيّين أو الفلاسفة، تساورهم الشكوك وتنتابهم الشبهات حول الإسلام، فيتنصرون أو يلحدون. والحق أن آبائهم يظلمونهم ظلمًا عظيما إذ لا يتيحون لهم الفرصة لتحصيل علوم الدين، إنما يدفعونهم منذ البداية إلى هذه القضايا الشائكة والمعضلات العويصة التي تحرمهم من الدين المقدس نفسِه.
السن المناسبة للتعليم الديني والتربية الدينية
ألا فاسمعوا وعوا إن زمن الطفولة جدُّ مناسب لتحصيل العلوم الدينية، أما إذا صار الطفل شابً يافعا فماذا سينفعه أن يتعلم ويحفظ “ضربَ يضربُ”. في الصغر تكون الذاكرة قوية، ولكنها لا تبقى على قوتها هذه فيما بعد في أي وقت. أتذكر حتى اليوم بعض ما وقع في طفولتي، ولكن لا أتذكر معظم ما حصل بعد الخامسة عشر، ذلك أن نقوش العلم في أوائل العمر ترتسم في الذاكرة بقوة وتصبح محفوظة لا تضيع بعدها، لأنها فترة نماء القوى والكفاءات. إنها عملية طويلة.
باختصار، لا بد في طريقة التعليم من عناية كبيرة جدا بتعليم الدين منذ البداية. هذه هي أمنيتي منذ أول يوم وحتى اليوم، وأسأل الله تعالى أن يحققها. انظروا إلى مدى اهتمام الأمم المجاورة أعني الهندوس الآريين بالتعليم، حيث جمعوا لذلك عدة مئات من الروبيات، وبنوا مبنى رائعا للكلية مع أثاثها. إذا لم يهتم المسلمون بتعليم أولادهم فليتذكروا أن أولادهم سوف ينفلتون من أيديهم في وقت من الأوقات.
تأثير الصحبة
هناك مثل شهير:
أي: أن للنسب والصحبة تأثيرا. وقد يكون هناك كلامٌ في الجزء الأول من هذا المثل، أما تأثير الصحبة فهو أمر متحقق لا حاجة بنا لنقاشه كثيرا. لقد رأيتم كيف وقع أولاد كل قبيلة عريقة في فخّ المسيحيين، حتى رأيتم كيف أن أولاد كبار الصلحاء الأقطاب من المسلمين بل أولاد “السادات” يسيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تنصّروا. لقد رأينا كيف أن أولاد “السادات” الذين لا شك في نسبهم، والذين يوصلون نسبهم إلى سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه، قد صاروا متنصرين، ولا يفتأون يلصقون بمؤسس الإسلام صلى الله عليه وسلم صنوف التهم، معاذ الله منها. فمَن أظلهم من المسلم الذي لا يبدي الغيرة على دينه ونبيه صلى الله عليه وسلم، والحال هذه؟ إذا لم تنقذوا أولادكم من صحبة النصارى والآريين وغيرهم، أو لم تنووا ذلك على الأقل، فاعلموا أنكم لا تظلمون أنفسكم بل تظلمون ملتكم والإسلام ظلما عظيما. ويكون هذا دليلا على أنكم لا تكنّون أي غيرة على الإسلام، وليس في قلوبكم أدنى إكرام للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
عليكم الصدق والتقوى لتزدادوا ذكاء
فبالله عليكم، فَكِّروا مليًّا وتَدبّروا وتَعقّلوا. كونوا صادقين متقين لتزداد عقولكم جلاءً وفطنة. إن العقل الطاهر ينزل من السماء مقرونا بنور، ولكنه لا يفتأ يبحث عن الذي هو أهلٌ له. وقانون هذه السنة الروحانية المقدسة يماثل القانونَ الذي نراه ساريا في النواميس المادية. فالمطر ينزل من السماء، ويتحول به بعض الأماكن حديقةً زهراءَ غنَّاءَ، وبعضها لا يُنبت إلا شوكًا وعشبا، ويصل بعض قطر هذا المطر إلى قعر البحر فيتحول لؤلؤةً غاليةَ الثمن. ولله در القائل:
أي: يُنبت المطر في البستان أزهارًا، وفي الأرض المالحة عشبًا.
فإذا لم تكن الأرض صالحة فلا ينفعها المطر شيئا، بل يضرّها. لقد نزل نور السماء لهذا الغرض، وإنه يريد تنوير القلوب، فاستعِدّوا لتلقي نور السماء والانتفاع منه، مخافة أن تسيروا في الظلام رغم نزول هذا النور، فتتعثروا وتقعوا في بئر مهجورة فتهلكوا، شأنَ الأرض غير الصالحة التي تضيّع المطر الهاطل عليها. إن الله تعالى أشدُّ حنانًا من الأم الرؤوم، ولا يريد أن يضيع مخلوقه. إنه يفتح عليكم سبل الهدى والنور، ولكن عليكم إعمال العقل وتزكية النفس للعمل بهديه ونوره. فكما أن الأرض لا يُلقَى فيها البذر ما لم تجهَّز لذلك بالحراثة، كذلك لا ينزل العقل الطاهر من السماء على الإنسان ما لم تتمّ تزكيةُ نفسه بالمجاهدات والرياضات.
لقد منَّ الله في هذا العصر منّة عظيمة إذ بعث إنسانا لتأييد دينه غيرةً على دينه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يتحدث بين ظهرانيكم، لكي يهدي الناس إلى هذا النور. لولا هذا الفساد والفتنة وهذه المحاولات للقضاء على الدين في هذا العصر لما كانت ثمة أدنى حاجة لبعثه. ترون كيف أن الملل كلها تسعى جاهدة من اليمين واليسار للقضاء على الإسلام. أتذكر جيدا، وقد سجلت هذا في “البراهين الأحمدية” أن ستين مليون كتاب قد أُعدّتْ وأشيعت ضد الإسلام. والغريب أن عدد المسلمين في الهند يبلغ ستين مليونا، والكتب المعادية للإسلام أيضا تبلغ ستين مليونا. ولو تركنا الكتب الإضافية الأخرى المنشورة في هذه الفترة جانبًا، فإن معارضينا قد وضعوا في يد كل مسلم كتابً. ولولا غيرة الله التي قد ثارت اليوم ولولا وعدُه الحق الذي سبق: “وَإِنَّا لَهُ لََحافِظُونَ” (الحجر:9)، لقُضي على الإسلام اليوم حتما واندرست آثاره نهائيا. ولكن هذا محال، فإن يد الله الخفية تحميه. ولكن ما يؤسفني ويؤلمني أن المسلمين، رغم ادعائهم بالإسلام، لا يبالون به ولو بقدر ما يبالي المرء بأصهاره بعد الزواج. لقد قرأتُ مرارًا أن بعض المسيحيات يوصين عند وفاتهن بإنفاق الملايين من أموالهن في سبيل نشر دينهن وإشاعته، أما قضاء المسيحيات حياتَهن كلَّها في سبيل نشر المسيحية فنراه بأم أعيننا كل يوم، فآلاف المبلغات المسيحيات يتجولن في الشوارع ويترددن على البيوت وينهبن إيمان القوم بكل طريقة ممكنة. ولكن لم نر أحدًا من المسلمين يوصي قبيل موته بخمسين روبية للإنفاق في سبيل نشر الإسلام. ينفقون أموالهم في الأعراس وغيرها من التقاليد الفارغة بإسراف شديد وبلا هوادة، ويهدرونها حتى ولو اضطروا لاستدانتها من غيرهم. أما إذا أعرضوا عن إنفاقها إنما يعرضون حين يُدْعَون للإنفاق في سبيل الإسلام. فيا أسفا على المسلمين، فكم تدعو حالهم للرثاء والرحمة!
الحسنة تولد حسنة أخرى
الحق أن عاقبة السيّئة سيّئةٌ. وإن سنة الله مع الإسلام أن الحسنة تولّد حسنة أخرى. تحضرني الآن قصة قرأتها في كتاب “تذكرة الأولياء.” كان هناك شخص مسنّ مِن عَبَدةِ النار قد بلغ 90 سنة، واتفق أن المطر نزل واستمر هطوله أياما، فصعد الرجل على السقف وبدأ يلقي عليه الحبوب طعامًا للعصافير. فقال له أحد صلحاء المسلمين كان بالقرب منه: أيها الشيخ ماذا تعمل؟ أجاب: يا أخي، لقد استمرّ نزول المطر لحوالي أسبوع، وأنا ألقي الحبوب للعصافير. قال الرجل: إن عملك هذا عبث، لأنك كافر، وأنى لك أن تثاب على ذلك؟ أجابه المجوسي المسنّ: سأنال أجره يقينا. وروى هذا الرجل الصالح: ذهبتُ بعد ذلك للحج، فرأيت من بعيد ذلك المجوسي المسنّ يطوف بالكعبة، فاستغربت من رؤيته هنالك، وتقدمت إليه، فبادرني بالكلام وقال: أخبْرني هل ضاع إطعامي الطيورَ الحبوبَ ، أم نلتُ أجره؟
الحسنة لا يضيع أجرها
فترون كيف أن الله تعالى لم يُضِعْ أجر حسنة عملها كافر، فكيف يضيع أجر حسنات المسلمين؟ تحضرني هنا قصة صحابي قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أخرجتُ صدقات كثيرة في الجاهلية حين كنت كافرا، فهل أُثاب عليها؟ فقال :صلى الله عليه وسلم إن صدقاتك تلك هي التي تسببت في إسلامك.
ماهي الحسنة؟
الحسنة سُلّمٌ للصعود إلى الإسلام وإلى الله تعالى، ولكن يجب أن تعرفوا ما هي الحسنة. اعلموا أن الشيطان يقطع على الناس كل سبيل ليضلّهم عن الصراط المستقيم. فمثلًا لو صُنع الخبز في بيت المرء مساءً، وزاد عن حاجته رغيفٌ ، وفي الصباح مُدَّ له الخوان وعليه كلُّ ما لذَّ وطابَ من الطعام، وبينما كان يهمّ أن يضع أول لقمة في فمه أتى على بابه سائل ونادى وطلب الطعام، فقال صاحب البيت آتوه الخبز البائت الذي زاد عن حاجتنا البارحةَ، فهل يُعَدّ عمله هذا بِرًّا وحسنة؟ كلا، لأن الرغيف البائت الزائد سيبقى في بيته هكذا، إذ لن يأكله مَن يحب العيش الرغيد. قال الله تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيًرا” (الإنسان:8). علمًا أن الطعام يطلق على الأكل الطيب الشهي، أما الأكل القديم الرديء فلا يسمى طعاما. خلاصة القول، لو أن هذا أخذ من الطعام اللذيذ الشهي الموضوع أمامه على الخوان طازجًا، ولم يأكل منه شيئا بعد، وآتاه السائلَ الذي ينادي على الباب، فعندها سيُعَدّ عمله حسنة.
لا يحقُّ لأحد ينفق في سبيل الله الأشياء التافهة الرديئة أن يدّعي فعْلَ البّر. اعلموا أن باب الحسنة ضيق، ولن يدخله أحد بإنفاق الأشياء التافهة، فقد ورد في النص القرآني الصريح: “لَنْ تَنَالُوا الْبَِّر حَتَّى تُنْفِقُوا مَِّما تُِحبُّونَ” (آل عمران:92)، أي لن تحوزوا درجة أحباء الله تعالى ما لم تُنفقوا ما هو أحب وأعز عليكم. إن كنتم لا تريدون مكابدة المشقة ولا تريدون أن تعملوا البّر الحقيقي فأنّى لكم أن تكونوا من الفائزين والناجحين؟ هل مّجانًا نال الصحابة المكانةَ التي نالوها؟ كم ينفق الناس من الأموال وكم يكابدون من الأهوال في سبيل الفوز بألقاب دنيوية. يحظون بعد صنوف المشقة والعناء بلقب دنيوي عادي ولكنه لا يبعثهم على الطمأنينة والسكينة القلبية! فكِّروا هل مجانًا وبسهولةٍ حاز الصحابة لقبَ رضي الله عنهم الذي كان مدعاة لاطمئنان النفس وسكينة القلب ورضا الله تعالى؟
الحق أن رضوان الله الذي يبعث على السعادة الحقيقية للإنسان، لا يُنال إلا بمكابدة الصعوبات التي تكون مؤقتةً عابرة في الواقع. إن الله تعالى لا يمكن خداعه. فطوبى للذين لا يأبهون بالأذى في سبيل الفوز برضا الله تعالى، لأن نور السرور الأبدي والسعادة الأبدية لا يناله المؤمن إلا بعد تلك المعاناة المؤقتة.
من هو المسلم الحق؟
أقولها صراحةً إن من المحال أن يسمَّى المرء مؤمنًا صادقًا ما لم يؤثِر الله على كل شيء، وما لم ينظر الله إلى قلبه ويعلم أنه صار له وحده سبحانه وتعالى. وإلا فإن المرء يُدعى مؤمنا ومسلما -عُرفًا- لكونه من آل محمد صلى الله عليه وسلم، كما يدعى حتى كنّاسو المراحيض عندنا مصلّين أو مؤمنين. إنما المسلِم مَن “أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِله” (البقرة:112). والوجه يُطلق على الذات والشخص، بالإضافة إلى معناه المعروف، فمَن سلّم جُلّ قواه لله تعالى فهو الذي يستحق أن يُدعى مسلما على وجه الحقيقة. تذكرتُ أن أحد المسلمين دعا يهوديا إلى الإسلام، وكان المسلم فاسقا متورطا في أنواع الفسق والفجور، فقال له اليهودي: حاسِبْ نفسك أولًا، ولا تغتّر بأنك تُسمى مسلما، فإن الله تعالى يريد الإسلام حقيقةً لا اسًما ولفظًا فقط. ثم ذكر اليهودي قصته وقال: كنتُ سّميتُ ابني خالدًا، ولكنه مات في اليوم الثاني ووضعتُه بيدي في القبر. لو كانت البركة في مجرد الاسم لما مات.
إنك لو سألتَ مسلمًا: هل أنت مسلم، لأجابك: الحمد لله.
فاعلموا أن فارغ الكلام وثرثرة اللسان من دون العمل لا ينفع شيئا. الكلام الفارغ لا يساوي عند الله شيئا، قال الله تعالى: “كَبَُر مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف:3).
السبيل لنيل شرف خدمة الإسلام
أعود إلى مقصدي ثانية، أعني إلى قول الله تعالى: “صَابِرُوا وَرَابِطُوا”(آل عمران:200)، وأقول: كما أنه لا بد من رباط الخيل على الحدود صدًّا للعدو من دخولها،كذلك كونوا مستعدين دائمًا مخافةَ أن يدخل العدوُّ الحدودَ فيضرّ بالإسلام. لقد سبق أن بينت أنكم إن كنتم تريدون حماية الإسلام وخدمته فتحلَّوا أولًا بالتقوى والطهارة لكي تدخلوا في حصن الله الحصين، فتكونوا أهلًا لنيل شرف هذه الخدمة. ترون كم ضعُفت قوة المسلمين الخارجية، إذ تنظر إليهم الأمم بكراهية وازدراء. أما إذا خارت وضعفت قوتكم القلبية والروحانية أيضا، فلا مصير لكم إلا الهلاك. فطهِّروا أنفسكم حتى تتسرب إليها القوة القدُسية، فتصبح قوية وحامية كالخيول المرابطة على الحدود. إن فضل الله يحالف المتقين والصادقين فقط دوما، فلا تكونوا سيئي الأخلاق والتصرفات فتصيبوا الإسلام بوصمة عار. إن المسلمين الفاسقين الذين لا يعملون بتعاليم الإسلام يصمون الإسلام بوصمة عار. يشرب بعضهم الخمر، فيتقيأ هنا وهناك وتكون عمامته ملتفة في رقبته، ويقع في المجاري والُحفَر الوسخة، وتضربه الشرطة بالنعال، ويضحك عليه الهندوس والنصارى. والحق أن تصرفه هذا المنافي للشرع لا يجعله هو وحده عرضة للسخرية، بل يسيء إلى الإسلام نفسه. يصيبني حزن شديد بقراءة مثل هذه الأخبار وتقارير السجون، وعندما أعلم أن هذا العدد الهائل من المسلمين يعاقَبون على تصرفاتهم السيئة، يصاب قلبي بصدمة شديدة بأن هؤلاء الذين كانوا قد هُدوا إلى الصراط المستقيم يتضررون بأعمالهم السيئة، وليس هذا فقط، بل يعرِّضون الإسلام أيضا للسخرية والازدراء. ومن أجل ذلك قد كتب السيد أيبوتسون عن المسلمين كثيًرا في تقريره لدى إحدى الإحصائيات السابقة. إنما أقصد من قولي هذا أن المسلمين رغم ادعائهم بالإسلام يتورطون في هذه المنهيات والرذائل التي لا تسيء إليهم فحسب، بل تثير الشبهات حول الإسلام نفسه. فاجعلوا أعمالكم وتصرفاتكم صالحة حتى لا يجد الكفار فرصة الطعن فيكم، لأنه في الواقع طعنٌ في الإسلام.
التقوى والطهارة هما الشكر الحقيقي
إنما يكمن شكركم الحقيقي في تَحلِّيكم بالتقوى والطهارة، أما قول أحدكِم: “نعمْ أنا مسلم، والحمد لله” فليس من الشكر في شيء؟ إذا سلكتم درب الشكر الحقيقي، أي درب الطهارة والتقوى، فإني أبشِّركم أنكم مرابطون على الحدود، ولن يغلبكم أحد.
أتذكَّرُ أنه كان هناك هندوسي متعصب باسم “جغن ناث” وكان محاسبا أعلى في المحكمة، وأخبرني مرة وقال: كنت أعمل في أمرتسر أو في مكان آخر، وكان هناك موظف مسلم يصلي في الخفاء ولكنه كان يتظاهر أنه هندوسي، فكنت أنا وسائر الموظفين الهندوس نزدريه جدًا، فقررنا أن نكيد له كيدًا حتى يُطرَد من العمل. وكنتُ أكثرهم كيدًا له، فشكوته إلى المدير مرارا أنه قد ارتكب خطأ كذا ومخالفة كيت، ولكن المدير كان لا يعير شكايتي بالًا. ولكنا كنا مصممين على تسريحه من العمل في كل حال، فجمعنا كثيًرا من المطاعن والشكاوى ضده لتنجح مكيدتنا، وكنت أرفع هذه الشكاوى للمدير من حين لآخر، فكان لو غضب على هذا أحيانًا استدعاه ولكنه ما إن يقف أمامه حتى يهدأ غضبه كما تهدأ النار إذا صبّ عليها الماء، فكان ينصحه بغاية اللطف والرفق وكأنه لم يرتكب أي خطأ.
تقوى المرء ترعب الآخرين
الحق أن تقوى المرء تخلق الهيبة في الآخرين، والله لا يضيع المتقين. لقد قرأت في كتاب أن حضرة عبد القادر الجيلاني -رحمة الله عليه- الذي كان من أكابر الأمة وذوي النفوس المطهرة جدا، قال لأمه مرة: إني راغبٌ عن الدنيا، وأريد أن أبحث عن مرشد يرشدني إلى سبيل السكينة والطمأنينة. فلما رأت أنه لم يعُدْ ذا نفع لها رضيتْ بما أراد وقالت: حسنا، سأودّعك حالًا. ثم دخلت البيت وجاءت بثمانين دينارا كانت ادخرتها، وقالت له: إن لك أربعين دينارا، ولأخيك الأكبر أربعين دينارًا بحسب الشرع، فأعطيك الأربعين، ثم خاطت هذه الدنانير في قميصه في موضع الإبط، وقالت له: بعد وصولك إلى مأمنك استخرجْها من هنا واصرفها عند الحاجة. فقال: أَوصِيني بشيء يا أماه. قالت: اصدق القول ولا تكذب، فإن في الصدق بركات كثيرة. وبعد سماع وصية أمه خرج في السفر، واتفق أنه مرّ بفلاة يختفي فيها لصوص يقطعون على المسافرين طريقهم وينهبونهم. فلما رأوا حضرة عبد القادر من بعيد اقتربوا منه، فوجدوه رجلا فقيرا. ثم سأله أحدهم مستهزئا: هل عندك شيء؟ وكان حضرته قد خرج مسافرا قبل قليل بعد سماع وصية والدته بألا يكذب، فما كان منه إلا أن قال: نعم عندي أربعون دينارا خاطتها أمي في قميصي في مكان الإبط. فظنّ اللصّ أنه يمازحه. ثم قال له لص آخر: هل عندك شيء؟ فأعاد حضرته الرد نفسه. وكلما سأله أحد من اللصوص أجابه بنفس الجواب. فأخذوه إلى زعيمهم وقالوا إن هذا يردّ علينا برد واحد. فقال لهم زعيمهم: فتِّشوا ثوبه. فلما فتّشوه ووجدوا في قميصه أربعين دينارا، فأخذتهم الحيرة من أمره وقالوا لم نر شخصا عجيبا مثله! فسأله زعيمهم: لماذا أخبرتنا هكذا عن مالك؟ قال: كنتُ خرجت في طلب دين الله، وكانت أمي قد أوصتني عند الوداع بألا أكذب أبدا، وكان هذا أول اختبار لي، فما كان لي لأكذب. فأخذ زعيم اللصوص في البكاء وقال: آه، لم أُطِعْ ربي في أي من أحكامه قط! ثم خاطب أصحابَه وقال: لقد قضى علي كلام هذا الرجل واستقامته، ولا أستطيع البقاء معكم الآن، وها إني أتوب. فتاب معه سائر اللصوص.
أرى أن المقولة الشهيرة عندنا:
أي: لقد صيّرتَ اللصوص أقطابًا، إنما تشير إلى هذه الواقعة نفسها. وقد قال حضرة سيد عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه: كان هؤلاء اللصوص أول التائبين على يدي.
ومن أجل ذلك قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا” (آل عمران:200). ويكون الصبر كنقطة في أول أمره، ثم يتسع كالدائرة ويحيط بالجميع، حتى إنه يؤثّر على الصعاليك أيضا. فعلى المرء أن لا يتخلى عن التقوى أبدًا ويسير على سبل التقوى بقوة، لأن المتقي لا بد أن يؤثر على غيره، حتى يرعب تقواه قلوب المعارضين كذلك.
عناصر التقوى
وللتقوى عناصر عديدة، فالكفّ عن العُجب والزهو وأكل المال الحرام وسوء الُخلق أيضا كلها شُعب التقوى. إن صاحب الُخلق الحسن يصبح أعداؤه أيضا أصدقاء له. قال الله تعالى: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (المؤمنون:96). فكِّروا ماذا يعلّمنا الله هنا؟ إنما يريد الله بذلك أنه إذا شتمكم أحد من المعارضين فلا تردّوا عليه بالشتيمة بل اصبروا، لأن هذا يجعل المعارض يعترف بفضلكم فيندم ويخجل، وهذه العقوبة أشدُّ إيلامًا له من العقوبة التي قد تصبُّونها عليه انتقاما. قد يدفع هذا الموقف (الشتم) بشخص عادي لسفك دم الخصم أيضا، ولكن هذا ليس مما تقتضيه الإنسانية والتقوى. إن حسن الخلق ميزة تؤثّر حتى على أشد الناس إيذاء. ونِعْم ما قال الشاعر:
أي: أَحسِنْ إلى الناس، فإن الإحسان يحول الغريب صديقا حميما.
إن الفساق الذين عارضوا الأنبياء، ولا سيما الذين عارضوا نبينا صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا بسبب المعجزات، كما لم تكن المعجزات والخوارق لتقنعهم، وإنما اقتنعوا بصدقه برؤية أخلاقه الفاضلة. إن المعجزات الُخلقية تعمل ما لا تعمله المعجزات الاقتدارية، وهذا المراد من القول الشهير: “الاستقامة فوق الكرامة”. ويمكنكم أن تجربوا بأنفسكم لتروا كيف أن الاستقامة تُري العجائب. لا يلتفت الناس إلى الكرامة مطلقا سيّما في العصر الحاضر، أما إذا علموا شخصًا متخلقًا بأخلاق فاضلة فيتوافدون إليه بكثرة، وهذا ليس بخاف على أحد. تؤثر الأخلاق الحميدة حتى في أولئك الذين لا يطمئنون ولا يقتنعون برؤية معجزات متنوعة. الواقع أن بعض الناس يؤمن برؤية المعجزات والخوارق، وبعضهم يؤمن برؤية أنواع الحقائق والمعارف، ولكن معظم الناس يهتدون ويطمئنون برؤية الأخلاق الفاضلة والألطاف الكريمة.
معجزات نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم
من أجل ذلك قد أُعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الخوارق والمعجزات من كل نوع وصنف. إنه صلى الله عليه وسلم أسمى شأنًا من بياننا. حيثما نظرت تجد ما لا يعد ولا يُحصى من معجزاته صلى الله عليه وسلم من الأقسام الثلاثة المذكورة آنفا، إذ كان جامعًا لهذه الأنواع الثلاثة، منها الخوارق الظاهرة المادية كشق القمر وغيره، وأما المعجزات الأخرى فيتجاوز عددها ثلاثة آلاف، وأما معجزات المعارف والحقائق فكل القرآن الكريم زاخر بها، وهي تتجدد كل حين، وأما معجزاته صلى الله عليه وسلم الُخلقية فكان مصداقًا لقول الله تعالى: “إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم:4). وقد أعلن القرآن بشأن إثبات إعجازه: “إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مَِّما نزََّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ” (البقرة:23). هذه معجزات روحانية. وكما ساق القرآن الكريم الأدلة على وحدانية الله تعالى، كذلك لا يقدر البشر على الإتيان بمثله في حكمته وفصاحته وبلاغته. وقد قال الله تعالى في آية أخرى: “لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الِْإنْسُ وَالِْجنُّ عَلَى أَنْ يَْأتُوا بِِمثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأتُونَ بِِمثْلِهِ” (الإسراء:88).
فصاحة القرآن وبلاغته
ولا يظنّنّ أحد بأن المعجزات الروحانية إنما هي مجرد زعم المسلمين ووَهِْمهم. إن الطبيعيين المعاصرين -بل الأحرى أن أسّميهم غير الطبيعيين- لا يؤمنون بمعجزة فصاحة القرآن وبلاغته، حتى إن السيد سيد أحمد أيضا قد تعثر وأنكر معجزة فصاحة القرآن وبلاغته. عندما نتذكر ذلك نتأسف على أن السيد سيد أحمد قد أنكر المعجزات. من المحال أن يؤمن السيد المحترم بكون القرآن معجزة بشكل من الأشكال، إذ يزعم أن بوسع أي شخص بسيط أو شخص عالي الطراز أن يأتي بنظير القرآن. من المؤسف أنه لا يدري أن الإنسان الذي جاء بالقرآن الكريم قد بلغ من العظمة أنْ وصفه الله تعالى بقوله: “يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ” (البينة:2-3)، أي يتلو سِفرًا جامعًا لكافّة الكتب والحقائق. والمفهوم العام للكتب هنا هو كل الأمور الحسنة التي يراها الإنسان بطبعه صالحة للعمل.
شمولية القرآن المجيد
والقرآن الكريم جامع لمثل هذه الِحكم والمعارف كلها، كما هو خالٍ تماما من كل ما هو تافه وغير نافع، ويفسّر كل أمر بنفسه، وفيه ما يسدّ كل حاجة، وهو آية ومعجزة من جميع النواحي. ولو أنكر أحد هذا فإننا مستعدون لإثبات وإراءة إعجازه من كل النواحي.
تُشنّ اليوم على وحدانية الله ووجوده هجمات شديدة، وقد بذل النصارى أيضا جهدهم وكتبوا كثيرا في الدفاع عن الله تعالى، ولكن كل ما كتبوه وقالوه فإنما هو عن إله الإسلام فقط، وليس عن إله ميت مصلوب وعاجز. ونقول على الملأ بكل تحدٍّ إن كل من أراد أن يمسك قلمه دفاعًا عن وجود الله تعالى سيرجع في النهاية -طوعًا أو كرهًا- إلى ذلك الإله الذي قدّمه الإسلام، ذلك أن كل ورقة في الكون تنبئ عن ذلك الإله، وكل إنسان يحمل في طبعه نقش ذلك الإله نفسه. فمثل هؤلاء القوم كلما تقدموا في هذا الموضوع فإنما يتقدمون إلى ساحة الإسلام. وهذا في حد ذاته إعجاز عظيم للإسلام.
التحدي القرآني
إذا كان أحد ينكر معجزة القرآن هذه فيمكن أن نختبره في أمر واحد فقط، أعني أن الذي يزعم أن القرآن ليس بكلام الله فعليه أن يكتب، في عصر النور والعلوم هذا، الأدلةَ على وجود البارئ تعالى، ونحن بدورنا سوف نستخرج له كل تلك الأدلة من القرآن الكريم. ولو كتبَ أدلة مماثلة ثم ادّعى أنها لا توجد في القرآن الكريم فسوف نستخرج له كل تلك البراهين من القرآن نفسه، ثم لو كتب أدلة أخرى مدعيا أنها لا توجد في القرآن الكريم، أو كتب حقائق وتعاليم مقدسة زاعما أن لا أثر لها في القرآن، فسوف نثبت له بكل جلاء مدى صدق دعوى القرآن الكريم: “فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ” (البينة:3). أو لو أراد أن يكتب الأدلة على الدين الحقيقي الفطري، فسوف نكشف له إعجاز القرآن الكريم من جميع النواحي، ونريه أن كافة الحقائق والتعاليم الحقة موجودة بين دفّتي القرآن الكريم.
باختصار، إن القرآن الكريم كتاب يحوي المعارف والأسرار بكل أنواعها، ولكن الاطّلاع عليها يتطلب تلك القوة القدسية التي أشار الله إليها بقوله: “لَا يََمسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ” (الواقعة:79).
كذلك من المحال أن يُبارَى القرآنُ الكريم في فصاحته وبلاغته. خذوا سورة الفاتحة مثلًا، فلو غيّرنا ترتيبها الحالي لاستحال بيان ما فيها من معان سامية ومقاصد عظمى تتبين بترتيبها الحالي. بل خذوا أيّ سورة قرآنية، بل خذوا مثلًا سورة “قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ” أيضا، فإن المعارف والحقائق التي احتوتها هذه السورة بمنتهى اللطف والروعة، لا يقدر أحد على بيانها. إنما هذا من إعجاز القرآن فقط. تأخذني الحيرة حين يقول بعض الجهلة أن المقامات الحريرية أو المعلقات السبع لا نظير لها ولا مثيل، وذلك لكي يهاجم حقيقة كون القرآن منقطعَ النظير. إن هؤلاء لا يدرون أن صاحب المقامات الحريرية لم يدّع قط أنها عديمة النظير. هذا أولًا، وثانيا كان الحريري نفسه معترفا بإعجاز فصاحة القرآن الكريم. وثالثا إن هؤلاء الطاعنين لا يأخذون في الاعتبار ما في القرآن من حق وصدق، وإنما يأخذون الكلمات وحدها في الحسبان. والحق أن الكتب المذكورة أعلاه خالية من الحق والحكمة.
إنما ميزة الإعجاز وسببه أن يكون الكلام متحليا بكل أنواع المحاسن من فصاحة وبلاغة وصدق وحكمة. وهذه المعجزة لا توجد إلا في القرآن الكريم الذي هو واضح وضوح الشمس ومزود بقوة إعجازية منكل النواحي. إن القرآن لا يقوم على ثرثرة اللسان كالإنجيل الذي قال: “مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الَأيَْمنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا” (انجيل متّى 5:39)، دون أن يراعي مدى انسجام هذا التعليم مع الحكمة والفطرة. وعلى النقيض لو قرأت القرآن الكريم لأدركت أن أفكار البشر لا تقدر على الإحاطة بالنواحي كلها كما فعل القرآن، وأن هذه التعاليم القرآنية الكاملة المنزهة عن النقص والعيب يستحيل أن تكون نتاج عقول أهل الأرض. إذا كان أمامنا ألف مسكين، فهل يجوز لنا أن نعطي بعضهم شيئا ولا نفكر في الآخرين ونهملهم تماما؟ ولكن هذا ما فعل الإنجيل، فقد ركّز على جانب واحد فقط مهملًا الجوانب الأخرى تماما.
إلا أننا لا نتّهم الإنجيل في ذلك، إذ نزل هذا التعليم عقابًً على سوء أعمال اليهود، وجاء الإنجيل بما يتفق مع كفاءاتهم،كما يقال عندنا: “كيفما تكون الأرواح، تكون معها الملائكة.” فأي ذنب في ذلك للإنجيل؟
تعاليم الإنجيل مختصة بزمان معين
ثم هناك قانون آخر، وهو كون الشيء مختصّا بمكان وزمان وقوم. نجد الإنجليز أيضا يسنّون بعض القوانين التي تكون مختصة بمكان وزمان ولا يكون لها أثر فيما وراء ذلك. وكان الإنجيل قانونًا مختصًّا بعصره ولم يكن عامّا. أما القرآن فنطاق تعاليمه واسع جدا، فهو قانون أبدي لن يتبدل إلى يوم القيامة، وهو لكل قوم ولكل زمان ومكان. قال الله تعالى: “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ” (الحجر:21)، أي إنما ننزل من كنوزنا بقدر معلوم. جاء الإنجيل لسد حاجة ذلك العصر فقط، ولذلك يمكن تلخيصه في صفحة واحدة فقط.
القرآن الكريم للعصور كلها
أما القرآن الكريم فكانت غايته إصلاح العصور كلها. كان هدفه الارتقاء بالإنسان من حالته الوحشية ليكون إنسانا، ثم إنسانًا مهذَّبًً متحلّيًا بالآداب الإنسانية، لكي يكون قادرًا على العمل بحدود الشرع وأحكامه، ثم ليكون إنسانا ربّانيّا. إنها كلمات موجزة إلا أن لها آلاف الفروع والشُّعَب. لما كان اليهود والطبيعيون والمجوس وغيرهم من الأمم يعيشون عيشة انحراف وسوء، فخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعا بإعلام ربَّاني وقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَِميعًا” (الأعراف:158)، فكان لزاما أن يكون القرآن الكريم جامعًا للأحكام الصادرة في الماضي من حين لآخر، وشاملًا لكافة الحقائق التي وصلت من السماء إلى أهل الأرض على أيدي الأنبياء عبر العصور الغابرة. لقد أخذ القرآن الكريم في الحسبان جميع البشرية، لا أمة معينة أو بلدًا خاصا، أو عصرًا خاصا، أما الإنجيل فكان جُلُّ اهتمامه بأمة معينة، ولذلك قال المسيح عليه السلام مرارا: “لَْم أُرْسَلْ إِلا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ” (انجيل متّى 15 : 24)
ضرورة القرآن بعد التوراة
يقول البعض ما الجديد الذي أتى به القرآن، إذ ليس فيه إلا ما في التوراة؟! إن هذا الاعتراض ناشئ عن قصور نظر، وهذا ما شجع بعض المسيحيين على كتابة مقالات مثل “عدم ضرورة القرآن.” ليتَهم أُعطوا نصيبًا من الفطنة والفراسة الحقة لكيلا يضلّوا. يقولون: ورد في التوراة لا تزنوا، وكذلك ورد في القرآن: لا تزنوا، ويعلّم القرآن وحدانية الله، كما تعلّم التوراة عبادة الإله الأحد، فما هو الفرق بينهما إذن؟ هذا السؤال معقد جدا في بادئ النظر، ولو وُجّه إلى شخص لا علم له لأصابه الذعر، الحق أن الرد على مثل هذه الأسئلة الدقيقة والمعقدة محال إلا بفضل خاص من الله تعالى. وهذا هو السبيل لانكشاف المعارف القرآنية التي تنكشف في حينها. الواقع أن هناك توافقًا بين القرآن الكريم والتوراة، لا ننكر ذلك، ولكن التوراة ذكرت الأحكام فحسب دون بيان الأدلة والبراهين عليها ولا شرحها، أما القرآن الكريم فقد ذكر الأحكام بأسلوب معقول. ذلك أن كفاءات الناس عند نزول التوراة كانت لا تزال ذات صبغة همجية، أما عند نزول القرآن فكانت كفاءات الناس متصبغة بصبغة المعقولية، فاتّبع القرآن أسلوبً يكشف فوائد الأخلاق، وبيَّن ما في الأحكام من حِكَم ومنافع، ولم يكتف القرآن ببيانها فحسب، بل ذكرها بأسلوب منطقي مصحوب بأدلة وبراهين، لكيلا يبقى أمام الذين يُعمِلون عقولهم مجال للإنكار. وكما قلت إن كفاءات الناس عند نزول القرآن تطورت وأخذت طابع المعقولية والمنطق، أما في زمن التوراة فكانت مصطبغة بصبغة الوحشية. لقد ظلت الكفاءات البشرية تتطور عبر العصور منذ آدم إلى أن اكتمل تطورها في عصر القرآن الكريم. لقد ورد في الحديث الشريف أن الزمان مستدير، وقال الله تعالى: “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” (الأحزاب:40).
والضرورات بمنزلة محرّك للنبوة، والليالي المظلمة تجذب ذلك النور الذي ينجّي العالم من الظلام، ووفقًا لهذه الضرورة بدأت سلسلة النبوة، ولما وصلت النبوة إلى زمان القرآن اكتملت، وكأن كل الضرورات قد سُدَّت، فاستلزم ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
إن من أكبر وأوضح الفروق بين تعاليم التوراة والقرآن أنه قدّم الأدلة والبراهين التي لم تمسسها التوراة مطلقا.
الفرق الثاني بين التوراة والقرآن
والفرق الثاني أن التوراة إنما وجّهت خطابها إلى بني إسرائيل فقط، لم تتوجه إلى الأمم الأخرى بتاتا، ولهذا السبب لم تهتمّ بتقديم الأدلة والبراهين، لأنها لم تأخذ في الحسبان أي فرقة أو طائفة أخرى كالملحدين والفلاسفة والبراهمة وغيرهم. أما القرآن الكريم فكان خطابه موجهًا إلى الملل والطوائف كافة، وكانت الضرورات كلها قد اكتملت بنزوله، ولذلك تناولَ بيان العقائد والأحكام العَملية أيضا بأسلوب منطقي. فقال الله تعالى في القرآن الكريم: “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ” (النور:30)، أي قُلْ للمؤمنين ألا يمدّوا عيونهم إلى أماكن سترهم، وأن يحافظوا على كل فروجهم الأخرى أيضا. على المرء أن ينظر بنظرة فاترة لكيلا يقع في الفتنة برؤية النساء غير المحارم. علمًا أن الأذن أيضا من الفروج حيث يسمع بها المرء القصص فيقع في الفتنة، ولذلك أمر الله المؤمنين بحفظ الفروج كلها من الأمور التافهة، وقال: “ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ” (النور:30)، أي أن هذا خير لكم وأدعى لطهارتكم بأعلى المستويات بحيث إذا عملتم به فلن تكونوا من أهل الفحشاء.
القرآن بنفسه يقدم براهين صدقه
انظروا إلى هذا الحكم الذي كان موجودا في التوراة بكلماته، إلا أن القرآن الكريم ذكره مقرونا بشرح وافٍ مع أدلة وبراهين. وهذا هو الإعجاز القرآني حيث لا يدَع أتباعه بحاجة إلى أحد، بل يذكر بنفسه الأدلة والبراهين لهم فيغنيهم عن الآخرين. لقد ذكر القرآن الأحكام مع أدلتها، وساق على كل حكم أدلة مستقلة.
باختصار، هذان هما الفرقان الكبيران بين التوراة والقرآن الكريم، فالكتاب الأول لا يذكر دعواه مقرونة بالأدلة، بل على القارئ أن يبحث عن أدلتها بنفسه، أما الكتاب الثاني فيقدم دعواه مع الأدلة بكل أنواعها، ولا يُكره المرء على قبول أحكام الله قهرًا، بل يجعله يقول بطيب نفسه: قد صدّقتُ وآمنتُ ، ولكن لا بالإكراه والجبر بل باستدلاله اللطيف وبسيادة الفطرة. كانت رسالة التوراة موجهة إلى فئة معينة، لكن القرآن يخاطِب كافة الناس إلى يوم القيامة.
فأخبِرونا الآن كيف تكون التوراة والقرآن شيئا واحدا، ولماذا لا تمسّ الحاجة إلى نزول القرآن رغم وجود التوراة؟ عندما يقول القرآن الكريم: لا تزنوا، فكلامه موجه إلى الناس كافة، وعندما تقول التوراة: لا تزنوا، فكلامها موجه إلى بني إسرائيل فحسب. وفي هذا أيضا دليل على أفضلية القرآن الكريم، شريطة أن يكون المرء يملك فراسةً وقلبا خاشعا.
الخوارق المادية والروحانية
هذا، ومن الفروق العظيمة بين التوراة والقرآن أنه يحوي الخوارق المادية والروحانية كلتيهما، وإن معجزة شق القمر هي من قبيل المعجزات المادية.
حصر النواميس الطبيعية محال
يطعن بعض الجهال في معجزة شق القمر متذرعين بالنواميس الطبيعية، ولكنهم لا يدرون أن قدرات الله ونواميسه أسمى من الإحاطة والتقدير. آه، إنهم يقولون بأفواههم الله الله من ناحية، ومن ناحية أخرى ينسونه تماما، دع عنك أن تخرّ قلوبهم وأرواحهم ساجدة برؤية قدرات الله العظيمة والتي هي وراء الوراء. لو كانت قدرات الله محصورة فيما تصل إليه أفكارنا وتقديراتنا، فأي حاجة للدعاء؟ كلا. وها إني أخبركم أنه ليس بوسع أحدٍ الإحاطة بقدرات الله وإراداته، ومن ادعى ذلك فهو ينكر الله تعالى. ويل لجاهل يؤمن بأن الله تعالى يملك قدرات غير محدودة، ثم يقول أن معجزة شق القمر منافية للنواميس الطبيعية. اعلموا أن هذا الشخص لا يملك فكرًا سليما ولا قلبا بصيرا. اعلموا جيدا أنه لا ينبغي لكم الاعتماد على نواميس الطبيعة أبدا، أعني لا تحدُّوها بحدود، ظانين أن أسرار ألوهية الله تنتهي هنا، إذ لو كان الأمر مقتصرا على ذلك فهذا يعني أنكم قد أحطتم بألوهيته تعالى إحاطة كاملة. كلا، فإياكم وهذه الجسارة والجرأة التي تُسقط المرء من مقام العبودية، ويكون مآلها الهلاك. ما كان لمؤمن أن يرتكب حماقة الزعم بحصر قدرات الله وتحديدها. وما أصدقَ الإمامَ فخر الدين الرازي في قوله بأن الذي أراد أن يقيس قدرات الله تعالى بمقياس العقل فهو أحمق. انظروا إن الله تعالى قد خلق الإنسان من النطفة. إن التفوه بهذه الكلمة سهل ويبدو الأمر عاديا جدا، لكن الواقع أن خلْق الله الإنسانَ من قطرة ماء وتزويده بهذه القوى إنما هو سرٌّ من الأسرار. فهل بوسع العقل أن يدرك كيفية هذا السرّ وكُنْهِه؟ لقد بذل الطبيعيون والفلاسفة كل ما في وسعهم، ولكنهم لم يستطيعوا معرفة هذا السر. كذلك فكل ذرة في الكون تابعة لله تعالى، والله قادر على إظهار أمر خارق دون أن يختلّ نظام الكون الظاهري. إن العارفين يدركون هذه الأمور جيدا ويستمتعون بها، ولكن بعض الناس يعترضون على أمور بسيطة ويرتابون. فمثلا لم تحرق النار إبراهيم عليه السلام، وهذا الحادث مشابه لواقعة شق القمر. إن الله تعالى يعلم جيدا متى تحرق النار وبأية أسباب تخمد. لو اختُرعتْ مادة واقية من حرق النار، أو علموا بها هؤلاء القوم، لصدّقوا فورا بعدم إحراق النار، ولكن مثل هذا التصديق لا ييسر للمرء ميزة الإيمان بالغيب ومتعة حسن الظن؟ لم نقل قط أن الله تعالى لا يخلق الأسباب لفعل شيء، ولكن هناك أسباب تظهر للعيان وأسباب أخرى تظل خفية.
باختصار، إن أفعال الله كثيرة وخارجة عن حد الإحصاء، وإن قدرته لا تعجز عن شيء أبدا، ولا يمسّه من لغوب وتعب، “وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ” (يس:79)، وهو القائل: “أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ” (ق:15). فليس بوسع البشر، مهما بلغوا من العقل والعلم، أن يحصروا قدرة الله وأفعاله، ولا مناص لهم من الاعتراف بعجزهم تجاهها.
تذكرت في هذه المناسبة واقعة يعلمها إخوتنا الأطباء هنا جيدا، وهي أنه جاءني شخص اسمه عبد الكريم، وكان في بطنه ورم يتعاظم إلى جانب مقعده، وقال الأطباء أنْ لا علاج للرجل، والأفضل أن يُقتَل بإطلاق الرصاص عليه.
قصارى القول، هناك أمراض كثيرة لا يعرف الأطباء ماهيتها جيدا. فمثلا إن الطاعون أو الكوليرا هما من الأمراض التي حين يكلَّف الطبيب بعلاج المطعون يصاب بالهلع والهول. مهما درس المرء من العلوم ومهما عكف على البحوث الفلسفية، فإنه سيدرك في النهاية أنه لم ينجز شيئا. ورد في الحديث أننا لا ندرك من معارف كلام الله وأسرار أفعاله إلا بقدر ما يأخذه العصفور في منقاره من ماء البحر. فكيف يحق للإنسان العاجز والفيلسوف أو العالم الأحمق المغرور بعلمه الناقص أن يعترض على فعل الله تعالى ويحسب شق القمر منافيا للنواميس الطبيعية؟
نحن لا نمنع من الاعتراض. كلا، فليعترضوا كما يحلو لهم، ولكن يجب أن يضعوا في الحسبان أمرين اثنين: أولهما خشية الله وقدرته غير المحدودة، وثانيهما: عجزُ الإنسان وعلمه المحدود. إن كبار الفلاسفة والعلماء أيضا قد اضطُرّوا أخيرا للاعتراف بجهلهم. إن منتهى العقل يؤكد منتهى جهلهم دوما. خُذ الأطباء مثلا، فكلُّهم يعرفون ما هو العَصَبة المجوفة، ولكن لو سألتهم عن ماهية النور وكُنْهِه أو سألتهم عن ماهية الصوت، لقالوا يحدث كذا وكذا على طبلة الأذن، ولكنهم لن يقدروا على بيان ماهية الصوت تمامًا أبدًا. ولو سئلوا عن سبب حرارة النار وبرودة الماء فلن يستطيعوا الرد أبدًا. الوصول إلى كُنْهِ الأشياء ليس بوسع حكيم أو فيلسوف أو عالم. فمثلا تنعكس صورتك في المرآة، ولكن لا يُفصل رأسك ليدخل المرآة، بل يُرى وجهك في المرآة وأنت سالم.
فاعلموا أن الله تعالى يعلم جيدا أنه من الممكن أن ينشقّ القمر بدون أن يقع أيّ خلل في نظام العالم. الواقع أن كل هذا يتعلق بخواص الأشياء ولا يسع أحدا أن ينبس ببنت شفة في هذا الموضوع. لذا فإن إنكار الخوارق والمعجزات الإلهية نتيجة الاستعجال إنما هو دأب الجاهلين.
تحديد قدرات الله وعجائبه ليس معقولا
ليس من الفطنة اعتبار قدرات الله وعجائبه محدودة. إن الناس لا يدركون ماهية أنفسهم هم ولا يستوعبونها، ومع ذلك يقحمون آراءهم في أمور سماوية مستعجلين! وفي مثل هؤلاء قيل:
أي: لم تصنع أنت ما في الأرض، حتى تتدخل في أمور السماء!
على المرء ألا يحاول التدخل فيما هو خارج نطاق وسعه. لا يعرف الأطباء أسباب كثير من الأمراض والأسقام وعوارضها، فهل يليق بالمرء، مع هذا العجز والضعف، أن يتدخل فيما ليس في نطاقه؟ كلا، إنما العبودية أن يكون مع الذين قالوا: “سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا” (البقرة:32). انظروا إلى النجوم، هذه الأجرام الهائلة،كيف أنها معلقة في جو السماء بدون أية أعمدة. ثم إن السماوات نفسها معلقات هكذا من ملايين السنين بغير عمد ولا سند. يطلع القمر بجماله وصفائه كل يوم، وتسطع الشمس كل يوم وتسير في مدارها بسرعة مضبوطة تماما. أما أعمالنا فنرتكب فيها بعض الأخطاء حتما، ولكن انظروا إلى أفعال الله العجيبة، إذ لا تبرح الشمس والقمر سائرينِ على منوال واحد بدون أي خلل. ولو فكرتم كل يوم كيف أن الشمس تطلع في موعدها يوميا وكيف تدلّنا على شتى الجهات، لأصابكم الذهول. تطرأ علينا تغيرات شتى، ولكن الشمس لا يطرأ عليها أي تغير. فمثلًا لو أن الساعة التي تباع بألفي روبية دقّت الساعةَ الثانية عشرة في وقت الساعة العاشرة، أو العاشرةَ في وقت الثانية عشرة، لعُدّتْ ساعةً رديئةً عقيمة الجدوى، ولكن انظروا كيف أن ساعة الله هذه لا تتعطل أبدا ولا تحتاج إلى تعبئة ولا تنظيف. هل تستطيعون إحصاء قدرات هذا الصانع العظيم. من المذهل حقًا أن ثيابنا وأوانينا وغيرها من الأشياء تُستهلك بالتدريج نتيجة الاستعمال، وأن الأطفال يشبّون ويشيخون ويموتون، ولكن الشمس التي طلعت اليوم هي هي كما طلعت أمس، وتطلع هكذا منذ أزمنة غابرة سحيقة جدا، وستظل تعمل على هذا المنوال في المستقبل أيضا بدون أن تُستهلك أو يؤثّر عليها كَرُّ الغداة ومَرُّ العشي. فمن الجسارة بمكان أن يهبّ الإنسان الذي هو بمنزلة دودة حقيرة، ويحاُول الهجوم على الإله العظيم الرفيع الشأن، ويزعم أنه تعالى لا يقدر على فعل كذا وكذا.
هدف معجزات الأنبياء عليهم السلام
إن إله الإسلام إلهٌ قدير، ولا يحق لأحد الطعن في قدراته. المعجزات التي يعطاها الأنبياء عليهم السلام، إنما سببها أن تجارب الإنسان لا تساعده على معرفة الله تعالى، ولكنه عند رؤية الأمور الخارقة -على الأقل- يضطرّ للاعتراف بأنها من الله تعالى. أما لو اتكل على عقله فقط، ولم ير حاجة إلى تفهيم من الله تعالى، لانسدّ عليه الطريق من الجانبين. إن إنكار الإنسان الجاهل للمعجزات من جانب واتّكاله على عقله الناقص من جانب آخر، يدفعه إلى التفكير في معرفة كنه الدقائق الكامنة في المعجزات، والتي يستحيل انكشاف حكمتها على عقله الأرضي وأفكاره السطحية، فيدفعه إصراره على إنكارها إلى إنكار النبوة نفسها، ويجمع عنده كمًّا كبيرا من الشكوك والشبهات التي تلقيه في الشقاوة في آخر المطاف حتمًا. فأحيانا يقول إن هذا بشرٌ مثلنا، يأكل ويشرب، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه سائر البشر، فأنَّى له أن يكون أكثر منا كفاءاتٍ ومواهبَ ، وأقوى منا روحانيةً وأكثرَ منا استجابةً للدعاء؟ فيا أسفا عليهم، إنهم يتكلمون بمثل هذا الكلام معترضين، مما يدفع بهم إلى إنكار النبوة أصلا، كما قلت آنفًا. أليس غريبا أنهم لا يؤمنون حتى إيمانا بسيطا، ومع ذلك يطعنون طعنا شديدا. إذا لم يكن قولهم هذا إنكارًا متعمدا وصريحا لوجود الأنبياء أنفسهم فما هو إذن؟ هل يفخرون بهذه العقول والأفهام التي جعلتهم ملحدين رغم ادّعائهم أنهم علماء وفلاسفة. الحق أن قدرات الله الخفية لا تتجلى من دون الوحي والإلهام أبدا. كلا، إنما تتجلى في زي الوحي والإلهام نفسه.
إنما العاقل من يعرف النبي
إنه لمن فضل الله ومقتضى رحمانيته أنه يرسل أنبياءه إلى الدنيا، والعاقل من يعرف النبَّي، لأنه بذلك يعرف الله تعالى، والأحمق من يكفر بالنبي، لأن إنكار النبوة مستلزم لإنكار ألوهية الله. ومَن يعرف الولي فهو يعرف النبي. وبتعبير آخر، إن النبي بمنزلة الوتد للألوهية، والولي وتد للنبوة. فكِّروا مليا بهدوء كيف أن الله تعالى بدأ أمر الإسلام في الدنيا قبل ثلاثة عشر قرنا على يد نبينا صلى الله عليه وسلم، والآن وبعد انقضاء 13 قرنا -بل بعد انقضاء 15 عاما من القرن الرابع عشر أيضا- لو عرضتَ الإسلام على الآريين والبرهمو والهندوس والطبيعيين والمسيحيين فإنهم يضحكون ويسخرون منه. لقد أصبح تقديم هذه القضايا وإقناع الناس بها أمرا معقدا جدا في الوقت الراهن العصيب الذي كثُرت فيه الفِرق والمذاهب بسبب انتشار ضوء العلوم الجديدة من ناحية وبسبب حدوثِ ثورة في الطبائع من ناحية أخرى، وأَخَذَ الناس يعتبرون الإسلام وتعاليمه أساطير الأولين. ولكن الله تعالى كان قد تكفل بحماية القرآن والإسلام إذ وعدَ: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9)، وهكذا نَّجى المسلمين من المصيبة وجنّبَهم الفتنة.
فطوبى للذين يقدرون ظاهرة الوحي والإلهام وينتفعون بها. لا شك أنه لو لم يكن هناك ثبوتٌ ودليلٌ حيٌّ على هذا الأمر فيسيء الناس الظن في نفوسهم ويتبرأون من القرآن والإسلام باعتباره أسطورة فارغة، كما هو دأب طبائع البشر المائلة إلى سوء الظن في استعجال. فمثلا لو حصل صوتُ شيء داخل غرفة، ظنَّ الواقفُ خارجها من تلقائه أن بداخلها شخصا، ولكنه لو انتظر يومين أو ثلاثة ولم يخرج من الغرفة أحد، لغيّر ظنه وأدرك بدون أن يدخل الغرفة أنه لو كان فيها إنسان لخرج منها لسدّ حاجاته من أكل وشرب وغيرهما. فلو لم تظهر في عصر الفلسفة والعلم والنور هذا أنوارُ النبوة وبركاتها التي تظهر على شاكلة وحي الولاية لعَدَّ أولادُ المسلمين الإسلامَ والقرآنَ قصةً وأسطورةً فارغة رغم عيشهم معهم في بيوتهم، ولم يبق لهم صلة بالإسلام بتاتا، ولأخذَ الإسلام في الانقراض باستمرار. ولكن كلا، فما كانت غيرةُ الله وحماسُه لإيفائه بوعده لترضى بهذا الأمر.
سبب تسمية القرآن ذكرا
وكما قلت آنفًا فقد سبق وعد الله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9)، انظروا لقد سمى الله تعالى القرآن هنا “الذكر”، ذلك لأنه يذكّر بالشريعة الكامنة في فطرة الإنسان. علمًا أن استعمال المصدر مكان اسم الفاعل يفيد المبالغة، ومثاله قولنا: زيدٌ عَدْلٌ، أي أنه جِدُّ عادل. الواقع أن القرآن الكريم لم يأت بشرع جديد وإنما يذكّرنا بالشرع الكامن في الفطرة الإنسانية على شاكلة شتى القوى والكفاءات من حِلْم وإيثار وشجاعة وجبر وغضب وقناعة وغيرها. باختصار، إن القرآن جاء ليذكّرنا بفطرتنا الكامنة في جبلّتنا كما قال الله تعالى: “فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ” (الواقعة:78)، أي أنه ذلك الكتاب الكامن في صحيفة الفطرة الإنسانية، ولكن لم يكن بوسع كل إنسان أن يراه. كذلك قد جاء في وصف هذا الكتاب أنه “الذكر”، وذلك ليُذكّر الإنسان عند قراءته بما أُودعَت فطرتُه من قوى باطنية وروحانية ونورِ قلب، هبةً من السماء.
باختصار، قد أرى الله تعالى بإنزال القرآن الكريم معجزة روحانية، ليكتشف الإنسانُ تلك المعارف والحقائق والخوارق الروحانية التي لم يكن يعلمها من قبل. ولكن المؤسف أن المسلمين نسوا علّة نزول القرآن المذكورة في قول الله تعالى : “هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” (البقرة:2)، ويعدّونه مجموعة قصص فارغة فحسب، ويعرضون عنه بغاية الإهمال والأنانية باعتباره أساطير الأولين، وذلك كما فعل مشركو العرب. ذلك العصر كان عصر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزولِ القرآن الذي جاء يذّكر الناس بالحقائق المفقودة، أما هذا العصر فهو الزمن الذي تنبأ عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن أهل ذلك العصر سيقرأون القرآن ولكنه لن يجاوز حناجرهم. وترون بأم أعينكم اليوم كيف أن الناس يقرأون القرآن بألحان عذبة وبطريقة رائعة، ولكنه لا يجاوز حناجرهم.
جاء معلم من السماء في هذا العصر
وكما أن القرآن الكريم -الذي اسمه الآخر هو الذكر- نزل في العصر الأول لتذكير الناس بما في فطرتهم من قوى كامنة وحقائق منسية، كذلك في هذا العصر أيضا وبحسب وعد الله الموثق “وَإِنَّا لَهُ لََحافِظُونَ” (الحجر:9)، قد جاء معلِّمٌ من السماء، وهو المصداق لوعد الله تعالى في قوله: “وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِِهمْ” (الجمعة:3)، وهو ذلك الذي يتكلم بين ظهرانيكم الآن.
وأعود ثانية إلى نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم هذه وأقول: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا العصر بأن الناس سيقرأون القرآن، ولكنه لن يجاوز حناجرهم، فترون كيف إن معارضينا -بل الأحرى أن أقول-كيف إن هؤلاء الذين لا يقدّرون وعود الله ولا يعيرون أقوالَ النبي صلى الله عليه وسلم بالًا، يقرأون بملء حناجرهم وبألحان عجيبة غريبة قولَ الله تعالى: “يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” (آل عمران:55)، وقوله تعالى: “فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي” (المائدة:117)، ولكنهم لا يفهمونه. والمؤسف أن أحدا لو أراد تفهيمهم ذلك نصحًا لهم وشفقةً عليهم، فلا يسعون لفهمه. إذا كانوا لا يريدون أن يتفهموا منه شيئًا، فليصغوا إلى كلامه على الأقل. وهيهات أن يفعلوا ذلك، إذ ليس لهم آذان يسمعون بها، ويعوزهم الصبر وحسن الظن. لولا أن الله تعالى اهتم بأهل الأرض من فضله لَعُدّ الإسلام في هذا العصر ميّتًا وأسطورة كالديانات الأخرى. لا يقدر أي دين من هذه الأديان الميّتة على أن يهب الناس الحياة، ولكن الإسلام مستعدّ ليهب الحياة اليوم. غير أن السنة الإلهية أنه تعالى لا يعمل شيئًا من دون الأسباب، بغض النظر عما إذا كانت هذه الأسباب مرئية لنا أم لا، إلا أنها تكون موجودة حتما. كذلك تنزل من السماء أنوار تتحول بعد وصولها إلى الأرض أسبابًا. عندما وجد الله تعالى عصر النبي صلى الله عليه وسلم في ظلام وضلال، وأحاطت غيوم الغواية والظلمة بالدنيا من كل طرف وصوب، أشرقَ على قمم فاران سراجٌ منير، أعني بُعث نبينا صلى الله عليه وسلم لتبديد هذه الظلمة وتحويل هذه الضلالة إلى الهداية والسعادة.
ضرورة مصلح في العصر الراهن
كذلك في زماننا هذا كانت القوى الإيمانية قد ماتت وحلّ محلَّها الفسوقُ والفجور، وظهر الفساد في كل شيء سواء في معاملات الناس أو عباداتهم. لو كان الأمر متوقفا إلى هذا الحد لما كان هناك ضير ولا خطر، ولكن الأدهى من ذلك هو تلك الآفة الكبرى التي اضطررتُ للحديث عنها مرارا، وقد أحس بها كل قلبٍ ناصح للإسلام، أو يمكن أن يحس بها، ألا وهي ذلك التأثير السام الذي تتركه العلوم الطبيعية والطبية والفلكية والفلسفة الباطلة على الإسلام وأهله اليوم. أما المشايخ فلا يتوجهون إلى هذا الأمر، وأنى لهم ذلك وهم مشغولون بالحروب والخصومات والتكفيرات الجارية فيما بينهم؟ وأما الزهّاد فلو أنهم عكفوا على الدعاء والابتهال في خلواتهم، لكان لذلك شيء من التأثير الطيب، ولكنهم منهمكون في توطيد مشيختهم وفي نقاشات حول جواز السماع وما إلى ذلك. لقد حلّتْ محلَّ التصوّف الحقيقي الآن تقاليدُ ورسوم فارغة لا أثر لها في القرآن والسنة. باختصار، لا ينفك الإسلام يصبح كل يوم غرضًا لسيوف الجهلاء والسفهاء من كل طرف وصوب. في هذا الوقت قد بلغت الدواعي لظهور مصلح ومجدد ذروتَها، فكل امرئ قد اختار لنفسه ديانة جديدة في الواقع. ونظرًا إلى هذه الأمور والأوضاع كان يخيل للمرء أن نهاية الإسلام وشيكة. من عادة الأطباء أنهم إذا رأوا أن مريض الهيضة قد برد جسده كالثلج أو أنه قد أصيب بالسرسام، فإنهم يقولون لأهله أن لا علاج له الآن، ثم يتسللون من عندهم، والُحذّاق من الأطباء أيضا يُبدون يأسهم وقنوطهم برؤية أعراضه الرديئة. ولا جرم أن الإسلام في هذا العصر قد وصل من حالته التعيسة ما يبعث على اليأس والقنوط، ولو كان من نتاج أفكار البشر أو ثمرة مساعيهم لصار بقاؤه أمرًا صعبًا جدا، لما تلقاه من ضربات من كل طرف وصوب جراء المصاعب والمحن، إذ كان أعداؤه ولا يزالون يبذلون كل ما في وسعهم للقضاء عليه، كما أنه أصبح ضعيفا من داخله بسبب نفاق أهله. فلا تحلّ سَنةٌ جديدة إلا ويلجأ الأعداء إلى أسلوب جديد للهجوم على الإسلام، ولا يُخترع مخترعَ أو آلة إلا يتخذون المبادئ التي اتبعوها في اختراعه ذريعةً للهجوم على الإسلام.
التقدم العصري معجزة للإسلام
باختصار، في وقت هذه الفتنة كاد الأعداء يتّحدون فيردّوا المسلمين عن دينهم دفعة واحدة، ولكن يد الله القوية ظلت تساند الإسلام، وهذا في حد ذاته دليل آخر على صدق الإسلام. الحق أن التقدم العلمي المعاصر يشكّل معجزة للإسلام. انظروا كيف بذل الأعداء كلَّ ما عندهم من قوة وشوكة بل بكل نفس ونفيس للقضاء على الإسلام، ولكن الله تعالى أنقذه من الهلاك وفقًا لوعده: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9)، أي أن الله بنفسه سوف يذكّر الناس بتلك النقوش المنقوشة في فطرتهم، وأنه هو الذي سينقذ الإسلام من الخطر. كانت سفينة الإسلام قد وقعت في خطر كبير، بسبب هجوم القسيسين الذين أنفقوا في هذا السبيل الملايين، وأغروا الناس بالمال والوعد، حتى لم يتورعوا عن أن يعرضوا عليهم ملذات النفس المخجلة لكي يسيئوا الظن بالإسلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقومون بتشويه عقائد الإسلام. خذوا مثلا صلاة الاستسقاء التي تصلى عند شح المطر، ولو أنهم نجحوا غدًا في سعيهم لإنزال المطر، كما يسعى بعضهم في أمريكا وغيرها في هذه الأيام، فإنّ ركنًا من الإسلام يتهدم بذلك في زعمهم!
فإلامَ أُسهِبُ في هذا البيان؟ الإسلام عرضة للهجوم من كل طرف وصوب، وتُبذَل جهود مستميتة لتشويه سمعته، ولكن ما عسى أن تفعل خطط الأعداء ومؤامراتهم، فإن الله تعالى يريد أن يتولى بنفسه حمايته من هذه المكايد، وإنه تعالى لم يخذل الإسلام في عصر التقدم هذا، بل حفظه وحقق ما وعد به رسولُه الصادق صلى الله عليه وسلم، وجلَّى حقيقة نبوءاته المباركة، وأقام في هذا القرن شخصا من عنده، وأقول لكم مرة بعد أخرى إنه ذلك الذي يتكلم بين ظهرانيكم. إنه سينفخ في الإسلام روح الصدق. إنه ذلك الذي يأتي من السماء بالحقائق المفقودة ويبلّغها الناس، ويبرئهم من سوء الظن وضعف الإيمان.
سوء الظن
إن سوء الظن مرض خطير وبلاء عظيم يُعمِي الإنسان ويُلقيه في هوة الهلاك المظلمة. إن سوء الظن هو ما دفع إلى عبادة إنسان ميت، وإن سوء الظن هو ما يجعل الناسَ متعطلين من التخلُّق بأخلاق الله من رفق ورحمة ورزق وغيرها – والعياذ بالله – وكأنهم أشياء رديئة لا تصلح لشيء. باختصار، إن سوء الظن نفسه يملأ معظم الجحيم، بل لو قلتُ إنه يملأ الجحيم، فلن أكون مبالغًا في قولي هذا. إن الذين يسيئون الظن بالمبعوثين الربَّانيين يحتقرون أفضال الله وآلاءه تعالى. باختصار، إن رفض أحد أمرنا هذا الذي أقامه الله بيده، فنتأسف عليه قائلين آه، إن روحًا تطرُق باب الهلاك. إن أمْرنا يبلغ من الوضوح والجلاء بحيث لو أن أحدًا استمع إلى أقوالنا بقلبٍ واعٍ لساعتين فقط، لوجد الحق.
المعجزات الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم
أود الآن أن أختم كلمتي بتناول بضعة أمور أخرى. وأعود ثانية إلى موضوع المعجزات لبعض الوقت، وأقول: إن الخوارق أنواع، أوّلها: الخوارق ذات الصبغة العِلْمية كمعجزة شق القمر وغيرها، وثانيها: معجزات بيان الحقائق والمعارف، وثالثها: المعجزات الُخلقية. والكرامات الأخلاقية قوية التأثير جدا. إن العلماء والفلاسفة لا يمكن أن يطمئنوا بالمعارف والحقائق، ولكن الأخلاق السامية تترك فيهم وقعا عظيما وعميقا. ومن معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم الُخلقية أنه كان نائما تحت شجرة ذات مرة، فاستيقظ فجأة على سماع ضجة، فإذا بأعرابي همجي يقف على رأسه مصلتًا سيفه وقال: يا محمد (صلى الله عليه وسلم) أخبْرني مَن سينقذك مني الآن؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من طمأنينة كاملة وسكينة صادقة: الله. ولم يتكلم صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة كما يتفوه بها الناس العاديون، بل إن كلمة “الله” هذه -التي هي عَلَمٌ لذات البارئ والتي هي جامعة للصفات الكاملة كلها- خرجت مِن قلبه صلى الله عليه وسلم ووقعت في قلب الأعرابي. ويقال إن لفظ الجلالة “الله” هو الاسم الأعظم، وفيه بركات عظيمة، ولكن الذي قد نسي الله تعالى أَنَّى له أن ينتفع منها؟ باختصار، خرج لفظ “الله” من فمه صلى الله عليه وسلم بما أرعب الأعرابَّي، فارتعشت يده وسقط منها السيف، فأمسكه النبي صلى الله عليه وسلم فورا وقال للأعرابي: أَخْبِْرني الآن مَن سينقذك مني؟ فماذا عسى أن يقوله الأعرابُّي الجبانُ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا ساميا من الأخلاق الفاضلة حيث قال له: اذهبْ فقد غفرت لك، وتعلَّمْ مِنّي المروءةَ والشجاعة. فكان لهذه المعجزة الُخلقية من الوقع العظيم في الأعرابي أنه لم يلبث أن أسلمَ.
ورد في كتب السِّيَر أن شخصًا جاءَ للقاء أبي الحسن الخرقاني، ولما رجَع مِنْ عنده لَقِيَه أسدٌ فقال له: خَلِّ سبيلي لوجه الله تعالى، ولكنه تقدّمَ إليه للهجوم، فقال له: خَلِّ سبيلي لوجهِ أبي الحسن، فتركَه الأسد. فكدّر هذا الحادث صفو إيمان الرجل، فرجع إلى أبي الحسن وأخبَره بهذه المعضلة. فأجابه أبو الحسن: ليس هناك أدنى إشكال في الأمر، إنما حصل هكذا لأنك لم تكن تعرف الله تعالى حق المعرفة، ولم تكن هيبة الله وجلاله مسيطرينِ على قلبك حقا، ولكنك كنتَ تعرفني أنا، وكانت لي مكانةٌ في قلبك.
ففي لفظ الجلالة “الله” بركات ومزايا عظيمة شريطة أن يجعل المرءُ اَلله في قلبه وينقاد لأوامره تعالى.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الُخلقية أنه كانت لديه شياهٌ كثيرة، فقال له شخص: لم أرَ أحدًا يملك المال بهذا القدر، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القطيع كله. فلم يتمالك الرجل نفسه وقال من فوره: لا شك أنك نبي صادق إذ يستحيل أن يصدر هذا السخاء إلا من نبي صادق.
باختصار، كان النبي صلى الله عليه وسلم متخلقًا بأخلاق فاضلة جدا حتى قال الله تعالى في القرآن الكريم: “إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم:4).
على جماعتنا أن يتطوروا خُلُقا
فحريٌّ بجماعتنا أن يتطوروا خُلُقًا، إذ يقال “الاستقامة فوق الكرامة.” لو عاملهم أحد بقسوة فليُردّوا عليه برفق ولطف قدر الإمكان، ولا يلجأوا إلى القسوة والشدة على سبيل الانتقام. إن في الإنسان نفسًا، ولها ثلاثة أقسام: الأمّارة، واللوامّة، والمطمئنّة. وصاحب النفس الأمَارة لا يملك نفسه عند هيجان المشاعر والثوائر، فيخرج عن حد الاعتدال ويسقط أخلاقيا. أما صاحب النفس اللوّامة فيتمالك نفسه. تحضرني هنا حكاية ذكرها “سعدي” في كتابه “بوستان”، وهي أن كلبًا عَضَّ رجلًا صالحا، فعاد إلى البيت فعَلِمَ أهلُه أن كلبًا عضَّه، وكانت بينهم بنت صغيرة وبريئة، فقالت له: لماذا لم تعضّه أنتَ ؟ قال: يا ابنتي، لا يمكن للإنسان أن يعمل عمل الكلاب. هكذا يجب أن يتصرف المؤمن، فإذا شتمه شرير فعليه أن يعرض عنه وإلا سينطبق عليه مَثلُ الكلب المذكور آنفا. لقد تعرّضَ المقربون إلى الله تعالى لشتائم بذيئة وأُوذوا أذى شديدا، ولكن قيل لهم دومًا: “أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” (الأعراف:199). لقد أوذيَ الإنسان الكامل، أعني نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم أشد الأذى، وواجه أنواع السباب والبذاءة والوقاحة، فكيف تصرف ذلك الإنسان الذي كان خُلقًا متجسدا تجاه ذلك؟ لقد دعا لهم فقط. كان الله تعالى قد وعده أنه لو أعرض عن الجاهلين فسوف يعصمه ويحافظ على شرفه ولن ينجح هؤلاء السوقة في الهجوم عليه، وهكذا حصل تماما، إذ لم يتمكن المعارضون من المسّ بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم قط، بل خرّوا على قدميه أذلاء مهانين أو هلكوا أمام عينيه في نهاية المطاف.
فمن علامة النفس اللوّامة أن صاحبها يُصلِح نفسه في المواقف الصعبة أيضا. ترون يوميا أن جاهلا لو سبّكم أو شريرا أراد الشر بكم، فأعرضتم عنه، حافظتم على شرفكم، وكلما قاومتموه وخاصمتموه، تضررتم وتعرضتم للإهانة.
أما صاحب النفس المطمئنّة فيصبح مطبوعًا على فعل الحسنات والخيرات، وينقطع عن الدنيا وعما سوى الله كل الانقطاع. إنه يمشي في الدنيا ويلاقي أهلها ويجالسهم، ولكنه لا يعيش بينهم في الحقيقة، بل يعيش في عالم آخر سماؤه وأرضه غيُر هذه السماوات والأرض.
بشارة عظيمة
قال الله تعالى في القرآن الكريم: “وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (آل عمران:55. لقد قُطع هذا الوعد الباعث على الطمأنينة مع ابن مريم المولود في “الناصرة”، ولكني أبشّركم بأن الله تعالى قد خاطبَ وبشَّر بالكلمات نفسها ابنَ مريم هذا الذي جاءكم باسم يسوع المسيح. ففكّروا الآن هل يمكن للذين ما زالوا في درجة النفس الأمّارة ويسلكون سبل الفسق والفجور أن ينالوا نصيبا من هذا الوعد العظيم والبشارة العظيمة بالانتماء إلَّي؟ كلا، ثم كلا، إنما يشارك في هذا الوعد أولئك الذين يقدرون وعد الله حق قدره ولا يعدّون كلماتي أسطورة فارغة. ألا فاسمعوا وعوا بآذان القلب، وها إني أخاطب ثانيةً أولئك الذين ينتمون إلَّي وأقول: إن هذا الانتماء ليس عاديا، بل هو انتماء عظيم. إنه انتماء لا يظل تأثيره منحصرا في ذاتي، بل يصل تأثيره إلى ذات البارئ تعالى الذي ربطني بذلك الإنسان الكامل المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي جاء بروح الصدق والحق إلى الدنيا. لو كان تأثير هذه الأمور منحصرا في ذاتي لما أخذني هم ولا غم، ولم أكترث لها مطلقًا، ولكن هذا التأثير لا يبقى عندي، بل يصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، بل إلى ذات الله العلي العظيم. وما دام الأمر كذلك، فاسمعوا وعوا جيدا إنكم إن كنتم تريدون أن تنتفعوا من هذه البشارة وتتمنون أن تكونوا مصداقا لها، وتتعطشون حقًّا لتفوزوا بهذا الفوز العظيم -أعني أن تكونوا غالبين على المكفّرين إلى يوم القيامة- فأقول لن تنالوا هذا الفوز إلا إذا تجاوزتم مرحلة النفس اللوّامة ووصلتم إلى منارة النفس المطمئنّة.
لا أريد أن أزيد على قولي بأنكم قد ارتبطتم بشخص هو مأمور من الله تعالى، فأنصِتوا إلى أقواله بآذان القلوب، واستعِدّوا للعمل بها بكل ما أوتيتم من قوة، لكيلا تكونوا من الذين يسقطون في نجاسة الإنكار بعد الإقرار، ويشترون عذابً أبديا فقط.
(المصدر: تقرير الجلسة السنوية عام 1897 ، ترجمة ص 62-100)