آخر خطاب ألقاه حضرته عليه السلام في حياته (قبل عشرين ساعة من الوفاة تقريبا)
لقد أرسل المولوي إبراهيم السيالكوتي رسالة إلى حضرته بيد مبعوث خاص منه، طلب فيها الإذن بالتحدث شفهيا حول بعض المسائل المختلف فيها، ووعد أنه سيتكلم بمنتهى اللطف والرفق مراعيا الآداب.
قبل العصر، سأل حضرته عليه السلام حضرةَ مولانا المولوي سيد محمد أحسن المحترم عن أخلاق هذا المولوي، هل هو مغلوب الغضب، وسريع الثوران، أو حاد الطبع؟ فقال بعض الأصحاب ردًّا على ذلك: يا سيدي، هو ليس هكذا، بل في طبعه رفق، إلا أنه إذا رافقه حشد من العامة فيُخشى الخطر. فلما كان حضرته عليه السلام شخصيا مشغولا في كتابة “رسالة الصلح” ولم يكن عنده وقت، فقال لمولانا المولوي سيد محمد أحسن المحترم: اكتب الرد على رسالته، وسوف أرسل لك رسالته الأصلية، فتكلمْ معه في هذه المسائل برفق ولطف وهدوء. ولا يغيبِ عن البال أنه يجب أن لا يكون معه أكثر من بضعة نبلاء فقط ولا يكون لديه حشد من الناس، وتكلمْ أنت أيضًا معه جالسا على انفراد. فليس في ذلك أي حرج.
عندها قال أحد لحضرته: إن هذا الشيخ لا يعتقد بأن عيسى عليه السلام كان قد عُلق على الصليب وأنه يستدل بقوله سبحانه وتعالى ” إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ ” (المائدة:110).
تعليق عيسى عليه السلام على الصليب
فقال حضرته عليه السلام :
إن اتخاذ مسلكا لا يدعمه دليلٌ -غيَر مبال بمعارضته الأمورَ المشهودة المحسوسة المتواترة- ينافي العقل والإيمان أيضًا. أنا لا أقدم أي أمر جديد، ولا أسعى ليؤمن الناس بأمر لا يدعمه دليلٌ، ودون أن يكون عندي عليه إثبات قوي وشهادة بينة. فلشهادتي يرافقني مئات الألوف من الناس، فالأقوام بأسرها تقدِّم شهادتها المتواترة والمتفق عليها. إذا كان أحد يشكُّ فليسأل اليهود والنصارى ما هو معتقَدهم في هذا الخصوص، فكلا المتخاصمين موجود، فليسألهم هل هم أيضا يسلِّمون بما يقول؟ انظروا! إن معارضة التواتر القومي دون أي برهان قوي وحجة نيرة وعدم المبالاة به لخطأ فادح.
فمما يثير العجب والغرابة أن يصلب شخص آخر عنوة بلا ذنب ولا يعترض ويصرخ ويقول لهم: إني صاحبكم، لماذا تصلبونني دونما ذنب؟ فقد سلِم مجرمكم الحقيقي، أما أنا فأحد أصحابكم واسمي كذا، وأنا ابن فلان وفلانة، وهؤلاء أقاربي، فلماذا تقتلونني؟ وذلك لأنه سيخسر حياته ويواجه ميتة لعينة، وقد تخلص المجرم الحقيقي وصُلب شخص بريء عديم الذنب ولا علاقة له بالمجرم. والغريب أن لا يقول أي كلمة، فأنا لا أدرك هذا السر. بالإضافة إلى الوحي وعلم الغيب الذي كشفه الله علي بفضله المحض، وبإجراء الفيض الخاص بالمكالمة والمخاطبة، قد أعطانا العلم الحقيقي بهذه الأمور. إن ضميري لا يقبل بأي حال من الأحوال، أن يبطل التواتر العظيم وتبطل شهادةٌ اتفق عليها عشرات الملايين، وأن ما اعتقد به كل هؤلاء كان ظنا وخيالا باطلا. فانظروا؛ تانہ باشد چیز کے مردم نہ گویند چیزہا أي: ما لم يكن هناك أمر ما لا يتكلم الناس عنه كلاما كثيرا.
لا أفهم لماذا احتاج الله سبحانه وتعالى إلى هذا الموقف الضعيف، أفلم يكن قادرا على إنقاذ المسيح علنا، حتى اضطر لهذا الظلم، وأهلك بريئا دون مبرر؟ فتقديم طريق جديد معارض للقرآن والحديث إثباته مسؤولية على المدعي.
معنى التوفي
أقصد من ذلك أن هذه الأمور كلها قابلة للرد بسهولة، فخذوا كلمة التوفي الواردة في القرآن الكريم وحدها لتروا هل لها معنى آخر غير الموت في موضع، أم تعني الرفعَ إلى السماء بالجسد المادي؟ لقد استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة التوفي هذه نفسها بحق النبي صلى الله عليه وسلم تدبروا الآيةَ الكريمة: ” إِمَّا نُرِينَّكَ بَعضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ” (يونس:46) ثم وردت كلمة التوفي نفسها قد بحق يوسف عليه السلام أيضًا، فلا أدري لماذا تعطى ميزة لعيسى عليه السلام خلافا للنص القرآني وجميعِ الأنبياء.
لقد وردت كلمة التوفي هذه في كتب الحديث قرابة 300 مرة، ولم يُقصد بها في أي موضع الرفعَ إلى السماء بالجسد. فحيثما وردت فإنما بمعنى الموت فقط.
الحق أن الذي ليس طالبا للحق، وإنما يبدي هذه الرغبة بدافع الزهو والتكبر فقط فإني أشتمّ منه رائحة كريهة، ولا أريد أن أضيع وقتي من أجل من ليس عنده عطش صادق في الحق وليست حرقتُه لله ولا لدينه، بل يعبد نفسه ويستميت من أجل وجاهة نفسه. أما الذي يأتيني طلبا للحق وراغبا في الفوز بالقرب الإلهي، ويكون عنده الْتياع وولع لله فأجد منه رائحة طيبة فأمد له ساعدي، وأتقبله بالعين، وأرى خدمته مفخرة لي قدر المستطاع. لكن الإنسان خبيث القلب الذي يكن في نفسه شرا، وهو لا يريد الحق، بل يطلب الدنيا فأنا أشم منه رائحة كريهة، وبعد ذلك لا أحب الكلام معه.
وفاة عيسى عليه السلام
إن ما ثبَّتني الله سبحانه وتعالى عليه هو أن الله سبحانه وتعالى بيَّن وفاة المسيح عليه السلام صراحة عشرات
المرات في كلامه المجيد وليس مرة واحدة فقط، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم بفعله حيث رآه ضمن الموتى، ولم يذكر أي علامة فارقة بينه وبين الآخرين.
اليوم يوجد في الهند أكثر من مائة ألف مرتدّ بناء على هذا الأمر فقط، إذ قد أثبت النصارى أفضلية المسيح لغير الملمين بمعتقدات دينهم بناء على معتقدات المسلمين المزعومين الباطلة، وقدموا لهم معتقداتهم وبذلك أقاموا عليهم الحجة وهم لم يستطيعوا الرد. لكن تذكروا أن الله سبحانه وتعالى لم يترك أي ميزة لهم قائمة، بل قد فضحهم بدحض كل فكرة لهم.
لقد تمسَّك النصارى بمعتقَد أنه لما كان المسيح عليه السلام بلا أب، فهذا الأمر دليل قوي على ألوهيته، وكان اعتراضهم القوي على المسلمين وكانوا يحتجون بإثبات هذه الميزة على ألوهيته، ففنّد الله زعمهم بقوله: ” إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَم” (آل عمران:59)، أي إذا كنتم تستدلون بولادة عيسى عليه السلام بلا أب على ألوهيته فآدم أَولى بذلك لأنه كان بلا أبوَين. فآمِنوا بأن آدم كان إلها أكبر، وبعده يمكن أن تستدلوا بهذا الأمر على ألوهية عيسى عليه السلام . فبذلك دحض الله سبحانه وتعالى استدلالهم. باختصار قد دحض الله استدلال النصارى على ألوهية المسيح لكونه بلا أب، بتقديم مثال آدم.
وكان النصارى قد قدموا حياة المسيح، وجلوسه على يمين الله حيًّا بجسده المادي في السماء كدليل آخر على ألوهيته، وبذلك قدموا دليلا قويا على ألوهيته بإثبات ميزة للمسيح. فليخبرني أحد الآن أنه إذا كانت كلمة التوفي تعني الرفع إلى السماء بالجسد المادي حصرا، وإذا وردت هذه الكلمة بحق عيسى عليه السلام، فلا تعني الموتَ ، فأين فنَّد القرآن الكريم اعتراض النصارى هذا؟ أو كما دحض الله دليلهم الأول فأخرجِوا لنا أي مثال على هذا أيضًا قبل المسيح أو بعده؟ وإن لم تجدوا أي نظير فاعلموا أن الإسلام قد انقرض اليوم أو سينقرض غدا. فالنصارى يقيمون عليكم الحجة من معتقداتكم الخاصة، ويقولون لكم إنكم أيها المسلمون إنكم تؤمنون بأن عيسى عليه السلام حي في السماء بجسمه المادي، مع أن رسولكم قد دفن في الأرض في المدينة، فأخبرونا مَن منهما الأفضل، أعيسى أم محمد؟
الأسف كل الأسف على هؤلاء المسلمين بالاسم فقط، حيث يسلِّمون السكِّين للعدو بأيديهم ليجدع أنوفهم. تذكروا أنه لو أراد اُلله سبحانه وتعالى والقرآنُ الكريم والحديث أيضًا أن المسيح في الحقيقة حي في السماء بجسمه المادي، وكان هذا الاعتقاد أيضًا صحيحا عند الله مثل ولادة المسيح بلا أب، لبيَّن الله سبحانه وتعالى حتما نظيره، ليُسكت النصارى ويمنعهم من الاستدلال به على ألوهية المسيح. لكنه يبدو جليا من امتناع الله من بيان نظير هذا الأمر، أن الله سبحانه وتعالى لا يريد حتما ما تذهبون إليه وتلصقونه1 بكلام الله بافتراء محض. بل قد استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة التوفي بمعنى الموت حصرا، وهذه هي الحقيقة وواقع الأمر.
انظروا، قد فند الله سبحانه وتعالى حتما كل ميزة عُدَّت خاصة بأي إنسان دون غيره، فلماذا لم يفند هذه الميزة العظيمة؟ فبالتفرد فقط ينشأ الشرك.
هذا كان آخر خطاب ألقاه حضرته عليه السلام في حياته، فقد ألقاه بكل قوة وحماس شديد، كان وجهه في أثناء الخطاب متألقا ومتنورا لدرجة كان يصعب النظر إليه. فكان في خطاب حضرته عليه السلام تأثير وجاذبية متميزة. كانت الهيبة والجلال والرعب قد بلغ الذروة، ربما هذا الشأن الذي لوحظ اليوم لحضرته قد ظهر في مناسبات نادرة، بعد هذا الخطاب لم يلقِ حضرته أي خطاب.
(المصدر: جريدة الحَكَم؛ بتاريخ 1908/7/18م)
وقال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام أثناء الخطاب السابق أيضا :
فكذلك يستدل النصارى بكون المسيح ما زال حيا بجسمه المادي في السماء على كونه ابنَ الله، فلماذا لم يقدم الله مثالا له، لئلا يبقى عيسى عليه السلام وحيدا لا شريك له في أي أمر.
دعُوا عيسى يمتْ ليحيا الإسلام، وكذلك دعوا عيسى المحمدي ينزل بدلا من عيسى الموسوي ففي ذلك تكمن عظمة الإسلام. أقول لكم صدقا وحقا إنه إذا كان الوحي والإلهام قد انقطع في الإسلام فقد مات الإسلام.
(المصدر: جريدة بدر؛ بتاريخ 1908/6/2م)