Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

يرجى الاشتراك في الموقع ليصلكم جديد الموقع

يرجى الاشتراك في الموقع ليصلكم جديد الموقع

الموقع الرسمي للإمام المهدي ( المسيح الموعود )
ميرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام

الموقع الرسمي للإمام المهدي ( المسيح الموعود )
ميرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام

خطبة بتاريخ 30 ديسمبر 1897م

شفقته عليه السلام ومواساته لأحبابه

قال الإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد عليه السلام:

الواقع أن علاقة أصحابنا بنا هي كعلاقة الأعضاء بالجسد كله. ومِن تجاربنا اليومية أنه إذا اشتكى عضو صغير كالأصبع مثلًا من الجسد تداعى له الجسد كله. والله يعلم جيدا أنني أظل دائم التفكير والقلق على هذا النحو تماما، راجيا بأن ينعم أحبابنا بكل أنواع الراحة والرخاء. وليس في هذه الشفقة والمواساة ذرة من التكلف والاصطناع، بل أجد في قلبي لوعة ومواساة تجاه أحبابي ولوجه الله تعالى، كالأم الرؤوم التي لا تبرح قلقة وساهرة على راحة وخير كل واحد من أولادها مهما كثروا. وإن مواساتي هذه اضطرارية حتى إنني عندما أقرأ في رسالة بعض أحبابي أنه مصاب بأذى أو مرض، فأفقد الراحة والقرار ويلازمني الهم والغم، وكلما كثر أحبابي عددًا كثرت همومي، حتى لا يخلو وقت من أوقاتي من حزن وهم من أجلهم، لأن من الطبيعي أن يكون البعض من أحبابي الذين عددهم كثير مصابًا بهمٍّ وأذى، وعندما يبلغني خبره يصاب قلبي بالقلق وأفقد الراحة، ولا أستطيع أن أخبركم كم أقضي أوقاتي في الهموم. وبما أنه ليس هناك سوى الله تعالى مَن ينجي من الهموم والأحزان، فأظل منهمكًا في الدعاء دائما. وإن أول أدعيتي إنما هو أن يحفظ الله أحبابي من الهموم والأحزان، لأن همومهم وأحزانهم هي التي تصيبني بالغم. كما أني أواظب على الدعاء العام بأنه إذا كان أحد منهم في همٍّ أو أذى فلينجِه الله منه. إنما أكبر حماسي ونشاطي هو أن أدعو الله تعالى، وأعقدُ آمالا كبيرة على قبول الدعاء.

مبادئ استجابة الدعاء

بل إن الله تعالى قد وعدني صراحةً وقال: “أجيب كل دعائك.” غير أني أدرك جيدا أن المراد من “كل دعائك” هوكل دعاء يكون الضرر في عدم استجابته، أما إذا أراد الله تعالى تربية المرء وإصلاحه فإن رفْضه لدعائه يكون هو الاستجابة.

فأحيانا يصاب المرء بخيبة الأمل في دعاء معين، ويظن أن الله تعالى قد رفض دعاءه، مع أنه تعالى يكون قد استجاب دعاءه وتكون الإجابة بصورة الرفض، لأن الخير كامن له في رفض دعائه في الواقع. إن الإنسان قصير النظر ولا يفكر تفكيرا بعيد المدى، بل يتمسك بظواهر الأمور، فالأولى به أنه إذا دعا الله تعالى ولم يأتِ الدعاء بنتيجة مرضية، فعليه ألا يسيء الظن بالله تعالى فيقول بأنه تعالى لم يسمع دعائي. إن الله تعالى يسمع دعاء الجميع حيث قال: “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (غافر:60)، ولكن السر في عدم استجابة دعاء المرء هو أنه في بعض الأحيان يكون الخير والبركة كامنا للداعي في رفض دعائه.

هذه هي قاعدة الدعاء، فإن الله تعالى ليس تابعًا لرغبة الداعي وآماله. كم تحبّ الأمهات أولادهن، وكم يردن أن لا يصيبهم أدنى أذى، لكن لو أصر الولد على أمر خاطئ، فطالب أُمَّه باكياً أن يمسك بيده سكينا حادة أو شعلة نار مثلا، فهل تسمح له الأم مع حبها الصادق وحرقتها الحقيقية له، أن يمسك الشعلة ويحرق بها يده، أو يمسك السكين الحادة ويجرح بها يده؟ كلا. ومن هنا تستطيعون أن تفهموا مبدأ إجابة الدعاء. وإني صاحب خبرة بأنه لو كان في الدعاء ما هو ضار، فلا يستجاب أبدا. إننا يمكن أن ندرك جيدا أن علمنا ليس يقينيا ولا صحيحا، فكم

من عمل نعمله مسرورين باعتباره مباركا، ونظن أن عاقبته ستكون مباركة جيدا، ولكنه يتحول في نهاية المطاف إلى هَمٍّ ومصيبة ملازمة لنا. قصارى القول، إننا لا نستطيع الجزم أن كل ما يريده المرء هو خير له. كلا، بل الإنسان مركَّب من السهو والنسيان، لذا يجب أن يكون بعض ما يريده ضارا، وهذا هو الحق. لو قبل الله تعالى دعاءه كما طلب، لتعارض هذا مع رحمة الله تعارضا صارخا. فمن الحقائق الثابتة اليقينية أن الله تعالى يجيب أدعية عباده ويشرفها بالقبول، لكنه لا يقبل كل رطب ويابس منها، لأن الإنسان لا يبرح يدعوه تعالى من فرط حماسه بغض النظر إلى العواقب، ولكن الله الناصح الحقيقي والعالم بالعواقب، يرفض دعاءه نظرًا إلى ما في قبوله من مضار وعواقب وخيمة، ورفضُه لدعائه هو بمنزلة قبوله له. فالله تعالى يستجيب دعاء العبد ما دام قبوله سيحفظه من الآفات والصدمات، أما دعاؤه الذي فيه ضرر فيقبله الله تعالى برفضه له. لقد تلقيت الوحي التالي مرارا: “أجيب كل دعائك”، أي أن كل دعاء هو نافع ومفيد سوف يجاب. عندما أفكر في هذا الأمر تغمر روحي لذةٌ وسرور. عندما تلقيت هذا الوحي أول الأمر، قبْل حوالي 25 أو 30 عاما، فرحت فرحة كبيرة بأن الله تعالى سيستجيب أدعيتي لي ولأحبابي حتما، فقلت في نفسي لا ينبغي لي أن أكون بخيلا في هذا الأمر، لأنها نعمة ربَّانية، وقد قال الله تعالى في وصف المتقين: “وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ” (البقرة:3)، ولذلك فإنني أدعو لأحبابي بخير الدنيا والآخرة دوما، سواء ذكّروني بالدعاء أم لا، وسواء عرضوا عليّ أمرا خطيرا أم لا.

شروط استجابة الدعاء

غير أنه لا بد من أن يجعلوا نصب أعينهم دائما أن هناك شروطا لاستجابة الدعاء، منها ما يتعلق بالداعي، ومنها ما يتعلق بطالب الدعاء من الداعي. فأما طالب الدعاء فعليه أن تستولي عليه تقوى الله وخشيته ويخاف استغناءه تعالى كل حين، ويتخذ التصالح وعبادة الله شعارًا له، ويُرضي الله بالتقوى والصدق، ولو فعل ذلك لفُتح له باب استجابة الدعاء. أما إذا كان يُسخط الله تعالى ويفسد علاقته معه ويحاربه، فإن شروره وسيئاته ستقف في طريق إجابة الدعاء سدًّا منيعا وصخرةً ثقيلة، ويغلق أمامه باب استجابة الدعاء.

احفظوا أدعيتنا من الضياع

لذا فمن واجب أحبابنا ألا يدَعوا أدعيتنا تضيع، ولا يعيقوا طريق استجابتها بتصرفاتهم غير اللائقة. فليسلكوا سبيل التقوى، فإن التقوى هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُعَدّ لُبَّ الشريعة. فلو أردنا بيان الشريعة بإيجاز، فليس لبُّها سوى التقوى. والتقوى مدارج ومراتب كثيرة، ولكن لو تخطّى الإنسان المراحل الابتدائية بمثابرة وإخلاص، لارتقى إلى المدارج العليا نتيجة هذا السداد والطلب الصادق. يقول الله تعالى: “إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِيَن” (المائدة:27)، أي أنه تعالى لا يجيب إلا دعوات المتقين. وكأن هذا وعدٌ من الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد حيث قال: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ” (آل عمران:9) فما دامت التقوى شرطًا ضروريا لاستجابة الدعاء، فهل من شك في حماقة وسفاهة إنسان يريد أن يستجاب دعائه مع عيشه عيشةَ غفلة وانحراف؟

فيجب على كل فرد من جماعتنا أن يبذل أقصى جهده لسلوك سبل التقوى، لكي ينال لذة استجابة الدعاء ومتعتها، ويزداد إيمانًا على إيمان.

الحالات الثلاث للنفس البشرية

يتضح من القرآن الكريم أن لنفس الإنسان ثلاث حالات: الأمّارة، واللوّامة، والمطمئنة. في حالة النفس الأمّارة يكون الإنسان كأسير في قبضة الشيطان، ويميل إليه كل الميل. وأما في حالة النفس اللوّامة فيندم المرء على أخطائه وينيب إلى الله تعالى نادمًا، غير أنه يبقى في نوع من الصراع، فتارةً يخلد إلى الشيطان وأخرى يميل إلى الرحمن. وأما في حالة النفس المطمئنة فيدخل المرء في زمرة عباد الرحمن. وبتعبير آخر، إن النفس المطمئنّة هي أرفع نقطة وتقابلها من الأسفل النفسُ الأمّارة، وبينهما النفس اللوّامة التي هي كلسان الميزان، فكلما أخلد إلى الأسفل صار أسوأ وأرذل من الحيوانات، وكلما رجع إلى نقطة الرفعة اقترب من الله تعالى بقدر ارتفاعه، وخرج من الحالات السفلية والأرضية ونال نصيبا من الفيض العلوي والسماوي.

لا شيء في الدنيا خال من النفع

اعلموا جيدا أن كل شيء ذو نفع. ترون أن لا شيء في الدنيا يخلو من منفعة وفائدة للإنسان، بدءًا من النباتات حتى الديدان والفئران. وكل هذه الأشياء، سواء الأرضية منها أو السماوية، إنما هي ظلالٌ لصفات الله وآثار لها، وما دامت الظلال والصفات نافعة لهذه الدرجة، فيمكنكم تقدير مدى النفع والفائدة في ذات البارئ تعالى.

هنا ينبغي أن تتذكروا أننا إذا كنا نتضرر من بعض الأشياء أحيانا، فليس ذلك لأنها ضارة في حد ذاتها، إنما سببه خطأٌ وسوءُ فهم منا.كذلك نقع أحيانا في الآلام والمصائب لجهلنا ببعض صفات الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن الله تعالى ليس إلا رحمة وكرما. إن السر وراء تعرُّضنا للآلام والأحزان في الدنيا إنما هو أننا نلقي بأنفسنا في المصائب نتيجة سوء فهمنا وقصور علمنا. فمن خلال العيون الصفاتية فقط يمكن أن نجد الله سبحانه وتعالى رحيما وكريما ونافعا بما يفوق تصوُّرنا، ولا يتمتع بهذه المنافع أكثرَ إلا من يقترب من الله أكثر ويدنو منه أكثر، وما يلقَّاها إلا الذين يتقون ويحظون بقرب الله تعالى. فكلما ازداد المتقي قربًً من الله تعالى تلقَّى نورًا من الهدى يلقي على معلوماته وعلومه ضوءًا خاصا، وكلما ابتعد المرء عن الله تعالى سيطرت على قلبه ودماغه ظلمةٌ مهلكة، وأصبح مصداقًا لقول الله تعالى: “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ” (البقرة:18)، وصار عرضة للخزي والدمار. ولكن الذي يفوز بالنور والضوء، فينعم بأسمى أنواع الراحة والعزة، حيث قال الله تعالى: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً”(الفجر:27-28). والمراد من النفس هنا النفس المطمئنّة الحائزة على الطمأنينة التي نالتها في الله تعالى. ذلك أن بعض الناس ينال الطمأنينة والراحة بالحكم، وبعضهم بالمال والعزة، وبعضهم برؤية أولادهم وأحفادهم ذوي الذكاء والجمال، ولكن كل هذه اللذات والمتع المادية لا تجلب للإنسان الطمأنينة الحقيقية والسلوان الحقيقي، بل تولِّد فيه جشعًا نِجسًا وتزيده طلبًا وظمأً، ولا يزول عطشه هذا كالمصاب بمرض الاستسقاء، حتى يُهلكه. ولكن الله تعالى يذكر هنا تلك النفس التي تجد الطمأنينة في الله تعالى. وبلوغ هذه المرتبة ممكن للعبد، ومَن بلغها كانت سعادته كلها في الله تعالى رغم حيازته على المال والمتاع، والعزة والشوكة المادية والسطوة الدنيوية. هذه الأموال والمجوهرات وهذه الدنيا وأعمالها، لا تكون مدعاة راحة حقيقية لمثل هذا الإنسان. فمن المحال أن ينال الإنسان النجاة ما لم تكن راحته وطمأنينته في الله تعالى، لأن النجاة مرادفٌ للطمأنينة في الواقع.

لا نجاة بدون الفوز بالنفس المطمئنة

رأيت بعض الناس وقد قرأت عن كثيرين ممن كانوا يتمتعون في الدنيا بالمال والثروة وملذات الحياة الزائفة ونعمها الدنيوية بكل أنواعها من أولاد وأحفاد وغيرهم، ولكن حين قرب أجلهم وأحسّوا بفراق الدنيا ومتعها والانتقالِ إلى العالم الآخر، تأججت في قلوبهم نار الحسرات والأماني، وبدأوا يتأوَّهون نادمين. فهذه المتع المادية أيضا نوع من جهنّم، وإنها لا تجلب لقلب الإنسان راحة وسكينة، بل تبعثه على الاضطراب والقلق.

فلا يغيبّن عن بال أصدقائي أن الإنسان كثيرا ما يستغرق في حبّ الأهل والعيال والمال حبًّا باطلا، وفي نشوة حبه لها يرتكب في أحيان كثيرة أعمالًا غير مشروعة تجعل بينه وبين الله سبحانه وتعالى حجابًا، وتخلق له نوعًا من الجحيم من حيث لا يدري. ولكنه عندما يُفصَل عن كل هذه الأشياء فجأة، يصيبه غايةُ القلق والذعر. ومن الأمور البديهية أن الإنسان إذا أُبعدَ وفُصل عن شيء أحبَّه أصابه على فراقه بالغ الحزن والألم. وهذه القضية ليست مجردَ قول منقول، بل حقيقة معقولة بديهية، وقد قال الله تعالى “نَارُ الله الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الَأفْئِدَةِ” (الهمزة: 6-7). فنار حُبِّ غير الله هذه هي التي تحرق قلب الإنسان وتغادره رمادًا، وتلقيه في عذاب شديد وألم كبير. فها إني أقولها ثانية إن من الحقائق اليقينية أن نجاة الإنسان محال بدون الفوز بالنفس المطمئنّة.

كما قلت آنفًا إن الإنسان يكون عبدًا للشيطان عندما يكون في حالة النفس الأمّارة، أما في حالة النفس اللوّامة فيكون في جهاد وصراع ضد الشيطان، فيغلب الشيطانَ تارة ويغلبه الشيطانُ أخرى. وأما حالة النفس المطمئنّة فهي حالة الأمن والراحة، حيث يصبح فيها هادئا مطمئنا. فقوله تعالى: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ”(الفجر:27) يبيّن مدى السكينة والراحة التي تيسّر للمرء في هذه الحالة الأخيرة. فقول الله: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ”(الفجر:27-28) يعني في الظاهر أن مِثل هذا الإنسان يسمع عند احتضاره صوتًا من الله تعالى أنْ : “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ وهو راضٍ عنك وأنت راضية عنه. وحيث إن للقرآن ظاهرا وباطنا، فتعني هذه الآية من حيث الباطن: يا أيتها النفس التي قد بلغتِ مرتبة الطمأنينة والسكينة حتى صارت حالتَك الطبيعية، ولم يعُدْ بينك وبين الله بُعدٌ، ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية. في حالة النفس اللوّامة يكابد المرء العناء والمشقة، أما في حالة النفس المطمئنة فيجري حبُّ الله تعالى في كل ذرة من كيانه كماء يصبّ من الأعلى صبًّا، فيحيا بحب الله وحده، ويفنى فيه حبُّ ما سوى الله الذي كان يؤجج فيه سعيرا وجهنما، ويُملأ عوضًا عنه بضياء ونور، فتصبح مرضاة الله مرضاته، ومشيئة الله مشيئته، ويغدو حب الله بمنزلة روحه، وكما أن لوازم الحياة ضرورية لاستمرارها،كذلك تتوقف حياته على الله تعالى وحده دون غيره، وبكلمات أخرى يصبح الله تعالى جُلَّ راحته وكلَّ سعادته.

غاية حياة الإنسان

ومن علامات النفس المطمئنة أنها تأخذ، بدون تحريض خارجي، صورةً بحيث لا يستطيع صاحبها العيش بدون الله تعالى. وهذه هي غاية الحياة الإنسانية، وهكذا يجب أن يكون. الناس العاطلون يخترعون لأنفسهم مشاغل شتى من صيد وشطرنج وورق وغيرها، أما النفس المطمئنة فتكون قد ابتعدت عن كل ما هو غير جائز وعابر مؤقت ومغبّته الآلام والكروب في معظم الأحيان، فأنى لتلك النفس أن تتذكر العالَم الذي قد انقطعت عنه وابتعدت، ولذلك تصبح أسيرة حب الله وحده؟

ولا يغيبن عن البال أيضا أن الحب قسمان، أولهما الحب الذاتي، ثانيهما الحب المنوط ببعض الأطماع، أو بتعبير آخر، ببعض الدوافع الآنية التي إذا زالت فتر ذلك الحب وتسبب في الألم والحزن. أما الحب الذاتي فيبعث على السعادة الحقيقية. بما أن الإنسان خُلق لله تعالى بفطرته، كما قال تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الِْجنَّ وَالِأنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56)، لذا فقد أودع الله فطرتَه شيئا لنفسه تعالى، وجعَله لنفسه تعالى بأسباب جدّ خفية. فعندما يتخلى المرء عن أنواع الحب الكاذب والزائف والعابر والمؤدي إلى الأحزان، فإنه يصبح لله وحده، ولا يبعد عنه بطبعه، ويأتي إليه تعالى مسرعًا. فقوله تعالى: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً”(الفجر:27-28) إشارة إلى هذا الأمر نفسه. وليس المراد من نداء الله له إلا أن الحجاب الحائل قد رُفع ولم يعد بينه وبين الله تعالى بُعد. هذه هي الغاية القصوى للمتقي حيث ينال الطمأنينة والراحة. وفي آية أخرى سمى القرآن هذه الطمأنينة فلاحا واستقامة أيضا، وإن في قول الله تعالى: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة:6) إشارةً لطيفة إلى نفس الاستقامة أو الطمأنينة أو الفلاح،كما أن كلمة “المستقيم” نفسها تدل على ذلك.

المعجزات

الحق أن الله تعالى لا يفعل أي فعل بطريقة غير عادية، بل إنه يخلق له الأسباب، عرفناها أم لم نعرفها. باختصار، الأسباب تكون موجودة هناك حتمًا، لذا فإن معجزة شق القمر أو معجزة “يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا” (الأنبياء:69)، ليستا خارجتين عن الأسباب، بل هما نتاج أسباب خفية جدا، وهي مبنية على علوم حقيقية لا يقدر على إدراكها أصحابُ النظر القصير المشغوفون بالفلسفة المظلمة. إنه لمما يحيرني أنه ما دام عدم العلم بشيء لا يستلزم عدم وجود ذلك الشيء، فكيف يتجاسر الفلسفي المتعالم الغبي على نفي تلك المعجزات الحقيقية نتيجة جهله بأسبابها؟ غير أن مذهبنا هو أن الله تعالى قادر على أن يُطلِع عبدا من عباده على تلك الأسباب الخفية إن أراد، ولكنه ليس ضروريا. انظروا أن المرء إذا أراد بناء بيت، فإنه يضع في الحسبان ما يصنع فيه من صنوف أسباب الراحة، غير أنه يفكرّ أولًا أن يجعل للبيت بابًا للدخول والخروج، وإذا كان يملك أشياء كثيرة من قبيل الفيلة والخيول والسيارات وغيرها، فيجعل الباب بحجم هذه الحيوانات والأثاث لدخولها وخروجها، وليس أن يجعل ثقبا صغيرا كجُحر الحية. كذلك عندما نلقي نظرة واسعة وفاحصة على أفعال الله، أي على النواميس الطبيعية، نجد أنه تعالى لم يُرِد لمخلوقاته، بعد أن خلَقها، أن تنسى العبوديةَ وتنقطع عن صاحب الربوبية. كلا، لم ترد الربوبيةُ إبعادَ العبودية أبدا. هذه هي الفلسفة الحقة. إن الذين يظنّون أن العبودية شيءٌ مستقلٌّ ومخيٌَّر فإنهم يخطئون خطأ فادحا. إن الله تعالى لم يجعلها هكذا. إن معلوماتنا وأفكارنا وعقولنا متفاوتة الدرجات وعاجزةٌ عن إلقاء الضوء على كل أمر على أكمل وجه، وفي هذا دليلٌ بيٌّن على أن العبودية لا تبقى بدون فيضان الربوبية. إن كل ذرة من كياننا هي بمنزلة الملائكة، ولولا ذلك لأصبح قانون الدواء، بل قانون الدعاء بالمقام الأول، لغوًا وعقيما.

انظروا في الأرض والسماوات وما فيها، وفكِّروا فيما إذا كانت هذه المخلوقات مستقلة ومخيرة في قيامها وبقائها، أم أنها بحاجة في ذلك إلى غيرها. إن كافة المخلوقات، بدءًا من الأجرام الفلكية إلى الأشياء الأرضية، متصبغةٌ في خلْقها بصبغة العبودية. فكلُّ ورقة تنبئ، وكلُّ غصن يعلن، وكل صوت ينادي أن الألوهية تعمل فيها عملها. إن تصرفاتِ الألوهيةِ العميقةَ جدا والتي لا نقدر بفكرنا وقوتنا على بيانها بل يستحيل علينا استيعابها استيعابًا كاملا، تعمَل عملها. قال الله تعالى: “الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَْحيُّ الْقَيُّومُ” (البقرة:255)، أي أن الله تعالى وحده جامعُ للصفات الكاملة ومنزه عن النقائص كلها، وأنه هو وحده يستحقّ العبادة وأن وجوده هو بديهي الثبوت، لأنه حيٌّ بذاته وقائم بنفسه، ولا شيء سواه حيٌّ بذاته وقائم بنفسه. ما المراد من ذلك؟ المراد أنه ليس في العالم شيء – سوى الله تعالى- وُجد بذاته وقام بذاته من دون علّة موجبة له، أوكانَ علّةً موجبة لهذا العالم المخلوق بمنتهى الحكمة والترتيب المحكم الموزون. فتبين من هنا أن لا أحد سوى الله يقدر على أن يغيّر أو يبدّل شيئا في عالم المخلوقات هذا، أو يكون سبابا لحياة كل شيء أو قيامه.

المذهبان الصوفيان : الوجودي والشهودي

يكشف التدبر في هذه الآية أن مذهب “وحدة الوجود” قد ابتعد عن الحق، وقد تعثّر أهلُه في فهم صفات الله تعالى، وليس بوسعهم أن يدركوا أنهم قد تعثّروا في فهم العلاقةِ بين العبودية والألوهية نفسِها. يبدو أن أصحاب الكشوف والمجاهدات من أهل هذا المذهب أرادوا معرفة الله تعالى، ففشلوا في فهم طبيعة العلاقة بين العبودية والربوبية، فاعتقدوا بخلْق الأشياء.

كان القرآن الكريم يجري على اللسان بعد نزوله على القلب. كم كان القلب وثيق العلاقة بالوحي حتى صار موردًا لكلام الله تعالى، هذا هو الأمر الدقيق العميق الذي كان من الممكن أن ينخدعوا به. والواقع أن المرء إذا اتخذ خطوة خاطئة لسوء فهمه وقع بعدها في دوّامة المشاكل. وكما قلت آنفا إن التصرفات الإلهية مع الإنسان جدُّ عميقة بحيث لا تقدر قوة على وصفها وبيانها كما ينبغي، ولو جاز ذلك لما وُجدت ربوبية الله وصفاته الكاملة مذكورةً في القرآن الكريم. وكونُنا عَدمًا نفسُه الدليل على وجود الله تعالى. والحق أن الإنسان حين يصبح عاجزا من كل النواحي يصير بمنزلة المعدوم. وقد فشل البعض في فهم هذا السر العميق، فلم يلبث أن قال “خلْقُ الأشياء هو عين”. والفِرقة الُأولى أي الوجودية هي التي تقول وتؤمن: “خلقُ الأشياء هو عين.”

أما الفرقة الثانية أي الشهودية فهي تؤمن بالفناء النظري وتقول إن الإنسان يمكن أن يستغرق في حب الله تعالى بحيث يمكن أن يفنى في الله تعالى، فيجوز له أن يقول:

أي: أصبحتُ أنتَ ، وأصبحتَ أنا، وأصبحتُ الجسدَ وأصبحتَ الروحَ، لكيلا يقول أحدٌ بعد ذلك أني وأنك شخصان منفصلان.

ومع ذلك لم يجد هؤلاء أيضا في النهاية مناصًا من الإقرار بالتصرفات الإلهية، سواء في ذلك الوجودية أو الشهودية. إن كلمات بعض كبار أهل الصلاح والكمال منهم، بدءًا من بايزيد البسطامي والشبلي وذي النون وحتى محيي الدين ابن عربي رحمهم الله جميعا، قد اتخذت هذا المنحى عموما، بعضها ظاهرًا وبعضها خفاءً.

ومع ذلك أود أن أقول بمنتهى الصراحة إنه ليس من حقنا أن ننظر إلى هؤلاء باستهزاء وازدراء. كلا ثم كلا. لقد كانوا أهل عقل وفطنة. والحق أن هذا الأمر كان سرًّا عميقا من معرفة الله، ففشلوا في الإمساك بخيط هذا السر. هذا كل ما في الأمر لا غير. الحق أن الإنسان يبدو هالِكَ الذات إزاء التصرفات الإلهية العظيمة، ولقد رأوا الإنسان على هذا النحو، فخرجت من أفواههم مثل هذه الكلمات، وانصرفت أذهانهم إلى هذا الأمر.

ألا فاسمعوا وعوا جيدا أن الإنسان، وإنْ بلغ بسبب صفاء باطنه الدرجةَ العليا -كما بلغها نبينا الكريم عليه الصلاة والتسليم- حيث يعطَى القوة الاقتدارية، إلا أنه يظل هنالك فرقٌ بيّن وبون شاسع بين الخالق والمخلوق، فلا تدَعوا هذا الفرقَ يغيب عن قلوبكم أبدًا. إن الإنسان ليس منزهًا عن لوازم الحياة، لا هنا ولا هنالك. إنه يأكل ويشرب، ويرتكب المعاصي صغائرها وكبائرها، وسيكون بعضُ الناس في الجحيم وبعضهم في جنة الخلد في الآخرة. باختصار، ليس بوسع إنسان أن ينخلع من لباس العبودية أبدا، وما دام هذا هو الواقع فلستُ أدري بعد ذلك ما هو الحجاب الذي يخلعه الإنسان عن نفسه ليلبس بعده حلّة الربوبية؟ لقد ظلت العبودية ملازمة حتى لكبار الزهّاد وأهل المجاهدات. اقرأوا القرآن لتتأكدوا من ذلك.

عبودية النبي صلى الله عليه وسلم

دعُوا الآخرين جانبًا، فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم الذي لم ولن يوجد في الدنيا مَن هو أكمل منه أسوةً إلى يوم القيامة، كمْ أُعطيَ المعجزات الاقتدارية، ومع ذلك ظلّت العبودية ملازمة له على الدوام، ولم يفتأ يعلن مرة بعد أخرى: “قُلْ إِنََّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ” (الكهف:110)، حتى جعل الإقرار بعبوديته جزءًا لا يتجزأ من شهادة التوحيد التي بدونها لا يُعَد المسلم مسلما. ففكِّروا ثم فكِّروا، ما دامت أسوة الهادي الأكمل صلى الله عليه وسلم تعلِّمنا أنه لم يتخلَّ عن الإقرار بعبوديته رغم بلوغه أسمى مراتب القرب، فكم هو باطلٌ وعبثٌ أن يفكّر غيُره بمثل هذه الأمور أو تخطر بباله.

التصرفات الإلهية نوعان

غير أن الحق الذي لا يسع أحدًا إنكارُه هو أن التصرفات الإلهية لا تُحَد ولا تحصى. كلما ازداد الإنسان زهدًا ومجاهدةً ازداد من الله تعالى قربًا وزلفى، وبقدر هذا القرب تصبّغَ بصبغة التصرفات الإلهية، وفُتح عليه باب فهمِ التصرفات الإلهية ومعرفتها واستيعابها.

ومن المناسب هنا أن أبين أنّ التصرفات الإلهية مع الإنسان نوعان أيضا: نوع باعتباره مخلوقًا، ونوع آخر باعتباره مقرَّبًا إلى الله تعالى. ومن التصرفات التي تكون مع الأنبياء باعتبارهم مِن خلْق الله ما ورد في قول الله تعالى: “يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ” (الفرقان:7) ، فصحتهم ومرضهم وغيرهما تكون بيد الله نفسِه.

ثم هناك تصرف إلهي جديد آخر معهم نظرًا إلى مراتب قربهم من الله تعالى، وهو أن الله تعالى يتقرب إليهم بحيث تبدأ معهم سلسلة المخاطبات والمكالمات الإلهية، ويتلقون من الله الجواب على أدعيتهم، ولكن بعض الناس لا يستطيعون استيعابَ هذا الأمر. ولا يقتصر الأمر على المكالمة والمخاطبة الإلهية فقط، بل يأتي بعد ذلك مرحلةٌ يُلقَى فيها رداءُ الألوهية عليهم، ويُريهم الله تعالى نماذجَ شتى لوجوده. وخيُر مثال لهذا القرب والعلاقة هو أننا إذا وضعنا قطعة حديدية في النار فإنها تتراءى بتأثير النار عليها قطعةً من النار، حيث تضيء كالنار وتوجد فيها صفة الإحراق أيضا التي هي من صفات النار، ومع كل ذلك يظل الواقع البيّن هو هو، أعني أنّ تلك القطعة الحديدية لا تكون نارًا أو جزءًا منها في الحقيقة.

صدور أفعال متصبغة بصبغة الألوهية من أهل الله

كذلك قد جرّبنا أن أولياء الله يبلغون من قرب الله مقاما تُواري فيه صبغةُ الألوهية في طياتها صبغةَ بشريتهم كليةً، وكما أن النار تُواري الحديدَ في طياتها حتى لا يتراءى شيئًا سواها باديَ الرأي، كذلك فإنهم يتصبغون بصبغة الصفات الإلهية على وجه الظِلّيّة، فعندها تصدر منهم بدون أي دعاء والتماس أفعالٌ متصبغة بخواصّ الألوهية، وتخرج من أفواههم كلمات تتحقق كما يقولون تماما. وقد تحدث القرآن الكريم صراحةً عن صدور مثل هذه الأمور على يد ولسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال الله تعالى: “وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اَلله رَمَى” (الأنفال:17). كما أن معجزة شقِّ القمر وشفاء كثير من المرضى على يده صلى الله عليه وسلم لأمرٌ ثابت. وإن ما ورد عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ” (النجم:3) إنما هو إشارة إلى ذلك القرب الشديد والأسمى، وهو دليل على كمال تزكية نفسه وقربه من الله تعالى.

ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يكون يدَ عبده المؤمن ورجلَه وعينَه وغيَرها من الجوارح، وإنما معناه أن جوارح المؤمن كلها تأخذ طابع طاعة الله وكأنها جوارح الله التي تصدر منها أفعالُ الله من حين لآخر، وأنها مرآة صافية تنعكس فيها جميع المشيئات الإلهية بمنتهى الصفاء والجلاء. وبتعبير آخر إن مثل هؤلاء الناس يتجردون عندها من بشريتهم كل التجرد؟ عندما يلقي المرء خطابًا فإنه يطمع أن يثني الناس على فصاحته وحسن بيانه وتمكُّنه من ناصية الكلام، أما عباد الله هؤلاء فلا ينطقون إلا بإنطاق الله، فإذا هاجت أرواحهم جاء من الله نفسِه موجٌ ليُحدِث فيهم تموجًا وهيجانا، فلا يتكلمون بصوتهم ونطقهم، بل يتكلمون بتأثير الله وتهييجه، وعندما يرون فلا يكون في رؤيتهم دخلٌ للفكر كما هو حال غيرهم من الناس، وإنما يرون بنور الله الذي يُريهم ما لا يستطيع أن يراه غيرهم حتى بنظرةٍ عميقة فاحصة أيضا.

اتقوا فراسة المؤمن

وذلك كما ورد: “اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ”. (الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذلك لأنكم تتكلفون فيما تفعلون، أما أفعال المؤمن فتلقائية عفوية، وإنكم أصحاب أقوال أما هو فصاحبُ خبرة. ومثل المؤمن كمثل الساعة التي تعمل بتحريك مِن شتى آلاتها. من الممكن أن تخطئوا في تقدير الوقت حين تكون السماء غائمة، فتقولوا مثلًا نحن في الساعة السابعة مع أنكم في الساعة الثالثة في الواقع، أما هذه الساعة المصنوعة لهذا الغرض فلن تخطئ، بل ستنبئكم عن الوقت الصحيح، وليس لكم إلا الندم إن خاصمتموها وخطّأتموها. كذلك تذكَّروا أنه لا يليق بالمتقي أن يجادل قومًا مقربين عند الله وينادَون في الدنيا بأسماء شتى. فاتّقوا محاربةَ المؤمن عملًا ب. “اتقوا فراسة المؤمن” مخافةَ أن تصبحوا من أهل الباطل، فتذوقوا أسوأَ العواقب على خطئكم. ذلك أن المؤمن يرى بنور الله، ولكنكم محرومون من ذلك النور، ويمكن أن تكونوا منحرفين عن جادة الصواب، ولكن المؤمن يسلك الصراط المستقيم دوما. بالله عليكم، أخبروني هل بوسع الشخص الماشي في الظلام أن يباري إنسانًا يمشي على ضوء سراج. كلا، لقد قال الله تعالى بنفسه: “هَلْ يَسْتَوِي الَْأعْمَى وَالْبَصِيُر” (الأنعام:50). كلا، فما دمنا نرى حولنا الأسباب، فمن الخطأ الفادح ألا نستفيد من ذلك.

باختصار، يجب اتقاء فراسة المؤمن. إن التصدي للمؤمن ليس من دأب العاقل. وإن معرفة المؤمن ممكنة بالعلامات والآثار التي بيّنتها آنفا. كان رعب هذه الفراسة الموهوبة من الله مستوليا على وجوه الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ويكون هذا الرعب مصاحبًا للأنبياء كآية من الله تعالى. كان الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مختلف الأمور ويقولون له إذا كان هذا وحيًا من الله فلا نعارضه، وكانت الهيبة مستولية عليهم.

يتّسم كلام المتكلم بالعظمة والهيبة بحسب مرتبته. انظروا كيف يقاسي المرء نوعا من الأذى والرعب عند المثول أمام الحكام الدنيويين، لأنه يفكر أن القلم بأيديهم. كذلك فإن الذين يعرفون أن الله مع المؤمن فإنهم يتركون معارضته، وإذا لم يفهموا من قوله شيئا يتفكرون ويتأملون فيه منعزلين بهدوء، أما غيرهم فيعارضونه أولًا ثم يفكِّرون.

لا بد أن يتّبع الناس مَن كان خبيرا بالطريق وحاملًا للضوء، وهذا هو المراد من الحديث: “اتّقوا فراسة المؤمن”، أي إذا قال المؤمن شيئا، فاتّقوا الله، لأنه لا يتكلم إلا بأمر الله تعالى.

قصارى القول إن المؤمن إذا أحبّ اَلله تعالى أحاط به نورُ الله. ومع أن هذا النور يواريه في داخله ويحرق بشريته إلى حد ما، شأنَ القطعة الحديدية الملقاة في النار، إلا أن عبوديته وبشريته لا تنعدم أبدًا. وهذا هو السر الكامن وراء قول الله تعالى: “قُلْ إِنََّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ” (الكهف:110). لا شك أن العبودية تبقى في المؤمن، ولكنها تتوارى تحت صبغة الألوهية، وتمتلئ جُلُّ قواه وجوارحه بمشيئة الله في سبل مرضاته تعالى، لتصبح صورةً متجسدة لمراداته سبحانه وتعالى. هذه هي الميزة التي تؤهّله لتربية ملايين الناس وتجعله مَظهرًا لربوبية الله التامة. ولولا ذلك لما استطاع النبي أن يكون هاديا ومرشدا لهذا القدر الهائل من البشر.

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم المنقطعة النظير

وبما أن نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم قد بُعث للتربية الروحانية لكافة الناس في العالم، فكان متحليا بهذه الميزة على أكمل وجه. وهذه مرتبة قد شهد بها القرآن الكريم بحق النبي صلى الله عليه وسلم في آيات عديدة، حيث نَعَتَه إزاء صفات الله بصفات مماثلة، فقال: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:107)، وقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” (الأعراف:158).

ويكشف التدبر في آيات أخرى من القرآن الكريم أن الله تعالى قد وصف النبّي صلى الله عليه وسلم أُمّيًّا، إذ لم يكن له معلِّمٌ سوى الله تعالى. ورغم كونه صلى الله عليه وسلم أُمّيًّا فقد أدخل الله تعالى في دينه كبار الفلاسفة والعلماء، بالإضافة إلى أميين وأناس متوسطين. وهذا ما يكشف لنا، وعلى أروع وجهٍ، معنى قوله تعالى: “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” (الأعراف:158). فلفظ “جَِميعًا” له معنيانِ، الأوّل: البشر كلهم، أو الخلْق كلهم، والثاني: الناس مِن كل شريحة، أي بسطاء العقل، ومتوسطو الذكاء، وكبار الفلاسفة أيضا. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كل شخص، أيا كان طبعه، يمكنه الارتباط والتعلق بي.

يصاب المرء بالذهول برؤية القرآن، لأن ذلك النبي الأمي صلى الله عليه وسلم لم يعلِّم الكتابَ والحكمة فحسب، بل هدى إلى سبل تزكية النفس أيضا، حتى بلغ بصحابته درجة قال الله تعالى عنها: “وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ” (المجادلة:22). فانظروا وانظروا بإمعان كيف أن القرآن الكريم يوصل الطالب من أي نوع إلى غايته، ويروي غليل كل متعطش للحق والصدق. ولكن فكِّروا مليًّا مَن كان هذا الذي نزل عليه نهرُ الحكمة والمعرفة هذا وينبوعُ الصدق والنور هذا. لقد نزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان أمّيًّا، ومع ذلك جرت على لسانه من المعارف والحقائق ما لا نظير له في تاريخ البشر. وكان هذا فضلا عظيما من الله تعالى، ليعلَم الناس مدى ما يمكن أن يصل اُلله في قربه مع عبده.

إن قصدي من هذا البيان أن علاقات الله مع عباده المقربين تصل أحيانا إلى حد عظيم جدا، حيث تصبح لهم علاقة بالألوهية بحيث يظنّهم عَبَدَةُ المخلوق آلهة. ولله در القائل:

أي: أن عباد الله ليسوا آلهة، ولكنهم ليسوا منفصلين عن الله أيضا.

وتكون لهم مع الله علاقة عجيبة بحيث إنه تعالى يعينهم بدون أي دعاء منهم أيضا. مجمل القول إن أعلى مراتب الإنسان هي حالة النفس المطمئنة التي تحدثت عنها في البداية. وفي هذه الحالة بل في الحالات كلها، يتطور الإنسان ويرتقي، لتتحول علاقته العادية مع الله تعالى إلى علاقة خاصة، وهي لا تكون أرضية سطحية، بل تكون عُلْويةً سماوية. أعني أن هذه الطمأنينة التي يقال لها الفلاح والاستقامة أيضا، والتي قد أشير إليها في قوله تعالى: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة:6)، والتي قد عُلِّمْنا الدعاءَ للاهتداء إليها، أقول إن صراط الاستقامة هذا هو صراط المنعَم عليهم الذين شرّفهم الله بفضله وإكرامه.

والحكمة في ذكر صراط المنعَم عليهم خاصةً هي أن سبل الاستقامة مختلفة، ولكن الاستقامة التي هي اسمٌ آخر لسبل النجاح والفلاح إنما هي سبلُ الأنبياء عليهم السلام.

وثمة إشارة أخرى في ذلك، وهي أن دعاء “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” هذا إنما ينطلق من لسان المرء وقلبه وفعله. وإنه حين يدعو ربه من أجل صلاحه فإنه يشعر بالخجل، ولكن هذا الدعاء هو وحده يسهِّل عليه هذه المعضلات، أعني دعاءه: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”.

ضرورة بذل كل القدرات قبل الدعاء

وقد قُدِّمت “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” على “إِيَّاكَ نَسْتَعِيُن”، ذلك أن الإنسان يأتي إلى الله تعالى للدعاء بعد بذْل كل القوى والكفاءات الموهوبة له، إذ من سوء الأدب والوقاحة أن يدعو الله تعالى بدون الاستعانة بما وهب له من القوى والكفاءات وبدون العمل حسب نواميسه الطبيعية. فالفلَّاح مثلًا لو بدأ يدعو الله تعالى ويقول إلهي اجعلْ حقلي هذا نضرًا خضرًا ومزهرًا ومثمرًا بدون أن يبذر فيه البذر، كان تصرفه هذا تجاسرا واستهزاء، وهذا ما يسمى اختبارَ الله وامتحانه الذي قد نُهينا عنه. وقيل: لا تمتحنوا الله تعالى، وقد ورد هذا الموضوع صراحة في قصة سؤال المسيح عليه السلام المائدةَ. ففكِّروا في هذا الأمر وتدبروا.

الحق والحق أقول إن الذي لا يقوم بالأعمال فهو لا يدعو الله تعالى بل يختبره، لذا فلا بد للمرء من بذل جميع القوى والقدرات قبل الدعاء، وهذا هو مفهوم هذا الدعاء القرآني. فلزامٌ على المرء أن يفحص معتقده وأعماله قبل الدعاء، لأن من السنة الإلهية أن الإصلاح يتمّ بالأسباب، حيث يخلق الله تعالى سببا ما يتمّ به الإصلاح. والذين يقولون ما الحاجة إلى الأسباب مع الدعاء، عليهم أن يتوقفوا هنا على وجه الخصوص وقفةً تأمُّلية. يجب أن يفكر هؤلاء الأغبياء أن الدعاء بحد ذاته سببٌ خفيٌّ يؤدي إلى أسباب أخرى. وقد قُدّمت جملة “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” على جملة “إِيَّاكَ نَسْتَعِيُن” -التي هي دعاء- لبيان هذا المعنى خاصة.

باختصار، إن من سنة الله التي نراها دائما أنه تعالى يخلق الأسباب، فيهيئ الماء لإزالة الظمأ والطعامَ لسدّ الجوع، ولكنه يهيئهما من خلال الأسباب نفسها. فسلسلة الأسباب هذه قائمة على هذا المنوال، وتُخلَق الأسباب حتما، لأن لِله تعالى اسمين: العزيز والحكيم، كما ذكَرهما المولوي محمد أحسن المحترم بقراءة قول الله تعالى: “وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا” (النساء:165). والعزيز مَن يفعل ما يشاء، والحكيم مَن يكون فعله في محله الملائم والمناسب لحكمة ما. فمثلًا، تجدون في النباتات والجمادات أنواع الخواص، فتناولُ مقدار ضئيل جدًا من التُْربَد (Turpethum) يسبب الإسهال، ونفس الحال بالنسبة للسَقْمونيا (Scammonia) ومع أن الله تعالى قادر على أن يجعل بطن المرء يجري بدون سبب، أو يقطع عطشه بدون ماء، ولكن كان لا بد من كشْف عجائب قدرة الله للإنسان، لأنه كلما ازداد معرفةً بعجائب قدرة الله ازداد علمًا بصفات الله، مما يساعده على التقرب إلى الله تعالى. فعلم الطبّ والفلك مثلًا يكشف آلافًا من خواص الأشياء.

ليست العلوم إلا اسما لخواص الأشياء

ما هي العلوم حقيقةً؟ إنْ هي إلا خواص الأشياء. ولولا أن الله تعالى قد جعل في الأجرام والنجوم والنباتات تأثيرات شتى لتعذر على الإنسان الإيمانُ بصفة الله

العليم. من المؤكد أن أساس علمنا هو خواص الأشياء، وذلك لكي نتعلم الحكمة. والعلوم تسمَّى حكمةً أيضا حيث قال الله تعالى: وَمَنْ يؤُْتَ الِْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتَِي

خَيًْرا كَثِيًرا” (البقرة:269 ).

الهدف من دعاء “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”

فليس الهدف من دعاء “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة:6) إلا أن يقلد الداعي فئةَ المنعَمَ عليهم في أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم. على المرء أن يهتمّ بإصلاح عقائده وأخلاقه وأعماله قدر المستطاع. بوسعكم أن تدركوا بالمشاهدة أن الإنسان لا يتقدم ما لم يستغلّ كفاءاته وقواه، أو لو أنه سخّرها فيما لم تُخلَق له فأيضا لن تتطور. وعلى سبيل المثال، لو تُركت العين مغلقةً أربعين يوما فسوف تفقد قوة البصر. لذا فلا مناص لكم من تسخير قواكم في أعمالها الفطرية الطبيعية أولًا، وعندها تنالون المزيد أيضا. ونعلم بخبرتنا الذاتية أن المرء كلما سخَّر قواه العمَلية أنزل الله عليه البركة.

 غاية القول، أَصْلِحوا عقائدكم وأخلاقكم وأعمالكم أولًا، ثم ادعوا: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”، وعندها سيظهر تأثير الدعاء على أكمل وجه.

سبب تسمية الأمة ب “الأمة المرحومة”

يتضح لنا بوجه خاص أن هذه الأمة المرحومة قد ظهرت في زمن تظهر فيه الآفات بكثرة، ويسارع الناس إلى الذنوب والمعاصي سرعةَ الحجر المتدحرج إلى الأسفل. لقد سميت هذه الأمة بالمرحومة لأن المعاصي كثرتْ في عهدها، كما قال الله تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ” (الروم:41)، وقال أيضا: “يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا” (الحديد:17). ويتبين بالإمعان في هاتين الآيتين أن الله تعالى قد رسم فيهما صورتين، ففي الآية الأولى رسَم صورةَ العصر الذي وُلد فيه نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم، فلأن حالة الدنيا في ذلك العصر اقتضت الرحمةَ جدا، إذ كانت الأخلاق والأعمال والمعتقدات قد صارت معدومة عندها، فسُميت هذه الأمة مرحومةً لأن وضع الدنيا كان يقتضي رحمة الله بشدة، ومن أجل ذلك قال الله تعالى لرسوله :صلى الله عليه وسلم “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيَن” (الأنبياء:107). ولا شك أن الذي يؤمَر بالمرور بأرض الثعابين، أي يكون عرضةً لأهوال عظيمة وآفات شديدة، هو الجدير بالرحمة. فسُمّيت هذه الأمة بالمرحومة لأنها جديرة بالرحمة. إن الذي يُعهَد إليه مهمة صعبة يستحقّ الرحمة. لقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يواجه أشرارًا كُبّارا وجُهّالًا يتربصون به الدوائر. ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان أُمّيًّا، كما قال :صلى الله عليه وسلم نحن الأمّيّون الذين لا يعرفون الحساب. فكان على الأمّيّين أن يواجهوا أمًما شريرة خبيرة بنسج المكايد والشرور، ومن أجل ذلك سُِّمينا بالأمة المرحومة. فكم بالحري بالمسلمين أن يفرحوا بأن الله تعالى قد عَدَّهم أهلًا للرحمة. لقد جاء الأنبياء والوعّاظ السابقون في عصورٍ لم يكن الناس فيها خبراء جدا في الكيد والشر، كما بُعث بعض هؤلاء الأنبياء إلى قومهم فقط، أما اليوم فأصبح الناس مهرةً في العلوم والفنون والفلسفة المادية، وأما الصالحون فليس لهم إلا إلمام ضئيل جدا بعلوم الدنيا وعقولها ومكايدها وحيلها الملتوية. ورد في حديث أن الله تعالى قال: يا عيسى، سأخلق بعدك أُمّةً لا تعقل ولا تعلم شيئا، أي أنها أُمّةٌ أُمّيةٌ. قال: يا رب، فكيف يعرفونك؟ قال: أنا سأمنحهم العلم والعقل.

أهل الإسلام ذو انسجام مع علوم السماء

وإن في ذلك لبشارةً عظيمة، فكما أن لمعارضي الإسلام انسجامًا مع العلوم الأرضية، فإنّ لأهل الإسلام انسجاما مع العلوم السماوية. إن رؤى ومناماتِ مُسْلِمٍ بسيطٍ ساذج أقوى من منامات كبار الفلاسفة والقساوسة والبانديتات. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فعلى المسلمين أن يشكروا محسنهم الحقيقي، لأن الله تعالى يقول: “لَئِنْ شَكَرْتُم لََأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” (إبراهيم:7). واعلموا أن الله تعالى ما دام قد سّمى هذه الأمة أمة مرحومة وشرّفها بالعلوم اللدنية الروحانية فيجب عليها أن تشكر على ذلك شكرًا عَمليا.

باختصار، إن قوله تعالى “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” يحتِّم على كافة المسلمين مراعاة ما قيل لهم في “إِيَّاكَ نَعبُدُ”، لكونه مقدَّمًا على “إِيَّاكَ نَسْتَعِيُن” فعليهم أن يقوموا بالشكر العَملي أولًا، إذ هذا هو المراد من قوله تعالى “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”، أعني أنه لا بد لهم من الأخذ بالأسباب المادية أولًا ثم التوجه إلى الدعاء. فأولًا لا مناص لهم من إصلاح العقائد والأخلاق والعادات، ثم عليهم الإقبال على الدعاء.

حسن الأخلاق علامة صلاح الإنسان

وأودّ الآن بيانَ أمرٍ هامّ وضروري جدا، وعلى جماعتنا ألا يسمعوه باستهانة وعدم مبالاة. اعلموا أن الأخلاق علامة صلاح الإنسان. إن تعريف المسلم الذي ورد في الحديث الشريف عموما هو: “مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ.”

لما وصل حضرة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إلى هنا في حديثه حانت صلاة العصر، فصلى هو والحضورُ كلهم ببالغ الخشوع والحماس. ثم استأنف الحديثَ مرة أخرى، فأخذوا يستمعون إليه بأذن صاغية. (المحرر)

كنت أبيّن أن الله تعالى قد أراد بتعليمنا دعاءَ “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” أنه لا بد لنا من مراعاة ثلاثة أمور: الأخلاق، والعقائد، والأعمال. وبتعبير آخر شامل: يجب على المرء أن يهتم أولًا بإصلاح نفسه باستخدام ما وهبه الله من قوى وكفاءات، ثم يتوجه إلى سؤال الله سبحانه وتعالى. وهذا لا يعني أنه لا حاجة به إلى الدعاء بعد إصلاح النفس. كلا، بل عليه أن يواصل الدعاء بعد إصلاح نفسه أيضا، ذلك أنه لا يوجد أيُّ فاصل بين قول الله “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوله “وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيُن”، وإن كان قوله تعالى “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” متقدّما زمانًا، حيث خلَقَنا الله برحمانيته أناسًا ومنحَنا شتى القدرات والكفاءات في وقت لم يكن فيه أي دعاء وسؤال من قِبلنا، إنما كان عندها محض فضل الله، وهذا هو سبب تقدُّمِ كلمةِ “إِيَّاكَ نَعْبُدُ”.

الرحمانية والرحيمية

واعلموا أن الرحمة نوعان: أحدهما يسمَّى الرحمانية، والآخر الرحيمية. والرحمانية فيضانٌ بدأَ حتى قبل أن نُخلَق ونوجَد. فمثلًا إن الله تعالى، وبناءً على عِلْمه الأزلي،

قد خلق في البداية الأرض والسماء وما فيهما من أشياء، وهي كلها كانت نافعة لنا وتنفعنا بالفعل، والإنسان هو الأكثر انتفاعا منها كلها عموما. إن الخراف والماعز وغيرها من الحيوانات نافعة للإنسان، فانتفاع هذه الحيوانات من الأشياء الأخرى ليس ذا بال إزاء انتفاع الإنسان. ففي الأمور الجسمانية مثلا ترون كيف يأكل الإنسان ما لَذَّ وطابَ من الأغذية المتنوعة، فهو يأكل ما طاب من لحم الحيوان، وأما الكلاب فتأكل ما تبقى من اللحم الرديء والعظام. فثبت أن الحيوانات وإن كانت تشارك الإنسان في المتع واللذات الجسمانية المتيسِّرة، إلا أن الإنسان هو الأكثرُ حظًّا واستمتاعًا بها، أما المتع الروحانية فلا تشاركه فيها الحيوانات بتاتا. 

باختصار، هناك نوعان من الرحمة، أوّلهما ما خلَقه الله تعالى حتى قبل وجودنا من الأشياء من عناصر وغيرها كمقدمة وتوطئة، وهيكلها مسخرة لنا، وهي مخلوقة بمقتضى رحمة الله قبل وجودنا ورغبتنا ودعائنا. والنوع الآخر من الرحمة هو الرحيمية، بمعنى أننا حين ندعو الله تعالى فإنه يعطينا ما نسأله. 

والتدبر يكشف لنا أن الدعاء هو من صميم النواميس الطبيعية. إن البعض يعتبر الدعاء بدعةً اليوم، لذا أودّ بيان علاقة دعائنا بالله تعالى. عندما يبكي الرضيع من شدة الجوع ويصرخ للحليب، يتدفق الحليب في ثدي الأم. لا يعرف الطفل حتى اسم الدعاء، ولكن ترون كيف تستدرّ صرخاتُه الحليبَ. هذا أمرٌ قد جرّبه الجميعُ. وقد لوحظ في بعض الأحيان أن الأم لا تشعر بوجود الحليب في ثديها، ولكن صرخة رضيعها تجلبه تلقائيا. فهل صرخاتنا أمام الله تعالى عاجزةٌ عن جلب شيء من عنده؟ كلا، بل إنها تجلب وتجلب كلَّ شيء، ولكن العميان الذين يدّعون أنهم علماء وفلاسفة لا يقدرون على رؤية ذلك. لو فكّر الإنسان في فلسفة الدعاء واضعا في الحسبان ما بين الطفل والأم من علاقة، لفَهِمَ موضوع الدعاء بمنتهى السهولة.

فالقسم الثاني من الرحمة يخبرنا أن هناك رحًما ينشأ بعد السؤال، فلو ثابرتم على السؤال لوجدتموه. فقول الله تعالى: “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (غافر:60) ليس كلامًا فارغا، بل هذا هو مقتضى الفطرة البشرية.

السؤال خاصية الإنسان والاستجابة صفة الله

إن السؤال خاصيةُ الإنسان والاستجابةُ صفة الله تعالى، ومن لم يفهم هذا الأمر وأنكره فهو كاذب. إن مَثَل الرضيع الذي ذكرتُه آنفًا يبين فلسفة الدعاء أيما بيان. واعلموا أن الرحمانية والرحيمية متلازمتان لا تنفصلان، فمن أراد إحداهما دون

الأخرى فلن ينال شيئا. إنما مقتضى الرحمانية أن تجعلنا قادرين على الانتفاع من فيوض الرحيمية، ومَن لم يستفد من الرحمانية فهو كافرٌ بنعمة الله. إنما مفهوم “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” هو أننا نعبدك وحدك آخذين بالأسباب المادية التي وهبتَ لنا. خذوا مثلا هذا اللسان المخلوق من عروق وأعصاب، فإنه إن لم يكن مخلوقا على هذا النحو لما قدرنا على الكلام. لقد رُزقنا من أجل الدعاء لسانًا قادرا على التعبير عما يختلج في قلوبنا من أفكار وأحاسيس. فإن لم نستخدم اللسان من أجل الدعاء فهذه شقاوتنا. هناك أمراض كثيرة لو أصابت اللسان لتعطّلَ دفعةً واحدة وصار الإنسان أبكمَ. فما أعظمَ رحمةَ الله إذ أعطانا اللسان. كذلك لو حصل خلل في الأذن لم نسمع شيئا. والحال نفسها للقلب؛ فلو أصابه المرض لفسد كل ما خلق الله تعالى فيه من قوة الخشوع والخضوع والتفكر والتدبر. انظروا إلى المجانين كيف تصير قواهم العقلية عاطلة. أفليس واجبا إذنْ أن نقدر هذه النعم الإلهية حق قدرها؟ لو تركنا هذه القوى التي أعطانا الله بكمال فضله عاطلةً، كنا ناكرين لنعمة الله حتما. فاعلموا أننا لو دعونا الله تعالى معطلين ما وهب لنا من القوى والقدرات فلن ينفعنا الدعاء شيئا. فما دمنا لم نستفد من العطية الإلهية الأولى فأَنَّى لنا أن نستفيد من الأخرى وننتفع منها؟

ضرورة طلب البصيرة الحقة

فقولنا “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” يعني: يا رب العالمين، إننا لم نبطل عطيتك الأولى ولم نعطّلها. أما قوله تعالى: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” فقد أمر الله تعالى فيه الإنسان أن يسأله البصيرة الحقة، إذ لولا فضل الله ولطفه لما كان بوسع الإنسان الضعيف المحاط بالظلمة والغواية تماما أن يقوم بالدعاء أصلا. فما لم يدعُ الإنسانُ اَلله تعالى مستفيدا من فضله الذي أصابه بفيض الرحمانية لن يحقق النتيجة المحمودة.

قبل مدة كنتُ قرأت في القانون الإنجليزي أنه لا بد للمرء للحصول على القرض الزراعي من الدولة من إثبات ما يمتلكه من أموال وعقارات. فعليكم أن تنظروا إلى القانون الإلهي أيضا على هذا النحو لتروا ماذا حققتم بالاستفادة مما أوتيتم من قبل. فإن كنتم لم تنحرفوا ولم ترتكبوا الحمق والغباء بسبب ما أوتيتموه من قبل من عقل ووعي وبصيرة وسمع، فادعوا الله تعالى فيعطيكم مزيدا من فيوضه. وإن لم تفعلوا فاعلموا أن مصيركم الحرمان والشقاوة حتما.

معنى الحكمة

سيواجه أحبابُنا المسيحيين كثيرا، وسيرون أنه ليس لدى هؤلاء الأغبياء ما يمكن عزوُه إلى الله الحكيم. ما هي الحكمة؟ إنما الحكمة: “وضعُ الشيء في محله”، ولكن لن تجدوا عند هؤلاء القوم فعلًا أو حُكْمًا يتفق مع مفهوم الحكمة هذا.

عند التأمل في “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” يتضح لنا كإشارة النص أن فيه أمرًا بالدعاء، أي أن ندعو الله تعالى للاهتداء إلى الصراط المستقيم، ولكن تقديم “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيُن” على “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” يشير إشارةً واضحة إلى ضرورة الانتفاع من ذلك، أعني من واجبنا استخدام القوى السليمة الموهوبة لنا في الاستعانة بالله من أجل سلوك منازل الصراط المستقيم.

المراد من الأخلاق

والآن علينا أن نتأمل ونرى ما هي الأمور التي ينبغي أن نسأل الله إياها. إن أول ما يجب أن يسأل المرء هو الأخلاق التي تجعله إنسانا. لا تظنوا أن الأخلاق تعني الرفق واللين فقط. كلا، بل هناك لفظان: الَخلْق والُخلْق، وهما يدلان على معان متقابلة. فالَخلْق هو التكوين المادي، ويندرج فيه الأذنُ والشعرُ وما إلى ذلك، أما

الُخلق فهو اسم للتكوين الباطني، ويشتمل على كل القوى الباطنية من عقل وفكر وغيرهما مما يميز الإنسان عن الحيوان. وبالخلُق يصلح المرء إنسانيتَه. فلولا الأحكام المفروضة على البشر لقلنا أنهم ربما أناسٌ أو حمير أو غيرها. ولو فسد خُلق الإنسان لم يبق منه إلا صورة من اللحم والدم. فلو اختلّ عقله مثلا سُِّمي مجنونا، وإن سّموه إنسانًا بالنظر إلى ظاهر صورته.

فالمراد من الأخلاق ابتغاءُ مرضاة الله تعالى كما نرى ذلك متجسدا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لذا فعلى المرء أن يسعى ليجعل حياته خاضعة لأسوة النبي صلى الله عليه وسلم. إن الأخلاق هي بمنزلة الأساس، ولو ظل الأساس متزعزعًا لما قام عليه البناء. إن الأخلاق هي بمنزلة لبِنة على لبنة أخرى، ولو وُضعت واحدة منها غيَر مستقيمة اعوجّ الجدار كله. ولله در القائل:

أي: إذا وضع البنّاء أول لبنة معوجّةً كان الجدار كله معوجًّا وإنْ وصل إلى الثريا.

يجب أن تستمعوا لهذه الأمور بآذان صاغية. لقد رأيت أكثر الناس ودرست أوضاعهم بنظرة فاحصة، فوجدت أن بعضهم يكون سخيا، لكنه يكون عصبيا سريع الغضب. وبعضهم يكون حليمًا لكنه يكون بخيلا. وبعضهم يثور غضبًا وغيظا حتى يجرح خصمه بضربات قاسية بالعصي، ولا يوجد فيه ذرة من التواضع والتذلل.

وبعضهم يكون جَمَّ التواضع والانكسار، لكن تعوزه الشجاعة كلية، حتى ينخلع قلبه هولا بمجرد سماع اسم الطاعون أو الهيضة. أنا لا أقول أنْ لا إيمانَ لمن يفتقر إلى الشجاعة لهذه الدرجة، إذ كان بين الصحابة أيضا من لم يكن فيه قدرة ولا خبرة للقتال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعذره.

إن هذه الأخلاق كثيرة، وقد تناولتها كلها في محاضرتي في مؤتمر الأديان ببيان واضح ومفصل. لا يكون كل إنسان جامعا للصفات كلها،كما لا يكون محرومًا منها نهائيا.

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السامية

إن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان كاملا في الأخلاق كلها هو الأسوة الأكمل، ولذلك قال الله تعالى في بيان عظمته: “إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم:4). فنجده صلى الله عليه وسلم حينًا يذهل جموع الناس بفصاحته وبلاغته وكأن على رؤوسهم الطيور، وحينا آخر يُبدي شجاعته تحت ظلال السيوف والسهام، وتارة يجود بالمال فيهب جبلًا من الذهب، وأخرى يتجلى حلمه العظيم فيطلق سراح قوم استوجبوا القتل بجرائمهم. باختصار، إن أسوة النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة والمنقطعة النظير التي قدمها الله لنا تشبه شجرة عظيمة يستظل الناس بظلالها ويسدون كل حوائجهم بكل جزء من أجزائها، فثمارها وأزهارها وقشورها وأوراقها كلها نافعة ومفيدة. إن مثل نبينا صلى الله عليه وسلم كمثل دوحة عظيمة يلوذ بظلها ملايين المخلوقات ويستريحون، كما تلوذ الفراريج تحت أجنحة أمها وتستريح. كان أقربُ الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة يُعَدّ أشجعَهم، إذ كان صلى الله عليه وسلم في أخطر موطن فيها. سبحان الله، ما أعظمَ شأنَ النبي صلى الله عليه وسلم. انظروا كيف كانت السيوف تقع عليه باستمرار في غزوة أحد، وكان الوطيس قد حمي بحيث لم يستطع الصحابة الصمود، ولكن رجل الأزمة هذا صلى الله عليه وسلم ظلّ يقاتل العدو صامدًا غيَر زائل من مكانه. لم يكن للصحابة فيما فعلوا ذنبٌ ، وقد عفا الله عنهم، وإنما كان السرّ والحكمة في ذلك أن تنكشف شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي غزوة أخرى كانت السيوف تقع الواحد تلو الآخر، ومع ذلك ظل ينادى بصوت عال: إني محمد رسول الله. يقال أنه أصيب في جبينه سبعين إصابة، ولكنها كانت جروحا خفيفة. هذا هو الخلق العظيم.

وذات مرة كانت في حوزته صلى الله عليه وسلم خراف كثيرة جدا ربما لم توجد بهذه الكثرة عند قيصر وكسرى أيضا، فوهبها كلها لبعض السائلين. فلو لم يكن عنده شيء فماذا عسى أن يهبه للناس، ولو لم يُؤتَ صلى الله عليه وسلم الُحكم والملك فما الدليل على عفوه عن كفار مكة الذين استوجبوا القتل مع قدرته عليهم. كانوا قد آذوه  صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ذكورا وإناثا، أذى شديدا، ولكنهم لما مثلوا أمامهم قال لهم: “لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ” (يوسف:92). فلو لم تسنح له هذه الفرص لما ظهرت أخلاقه صلى الله عليه وسلم الفاضلة. وإن رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي قد تحلى بكل خُلق من الأخلاق السامية على أكمل وجه.

أما المسيح عليه السلام فنضطر برؤية حياته للقول بأن أخلاقه ظلّتْ طيَّ الكتمان كلية. إن اليهود الأشرار الذين كانت تقدم لهم الكراسي عند رجال الحكومة الرومية التي كانت تكرمهم لكثرة عددهم ظلّوا يضايقون المسيح، أما هو فلم يأت في حياته وقت نال فيه الُحكم حتى يقال إنه كان يعفو عن الناس مع قدرته عليهم. في حين نجد أخلاق رسولنا صلى الله عليه وسلم ثابتة تماما بالمشاهدة والتجربة. وهذا ليس مجرد كلام فارغ، بل نملك على صدقه أدلة صحيحة ويقينية كصحة ويقين مبادئ الهندسة والحساب، ونستطيع إثباتها كما نثبت أن 2و2 تساوي 4. الأمر الذي لا يقدر على إثباته تابعُ أيِّ نبي آخر في حقّه. ومن أجل ذلك قد شبّهتُ النبي صلى الله عليه وسلم بشجرة كلُّ شيء من أجزائها من جذور وقشور وثمار وأزهار وأوراق نافعٌ غاية النفع وباعثٌ على السرور والراحة.

ولكن لما افترقت أمةُ سيد الكون صلى الله عليه وسلم بعده فِرقًا فلم تعُدْ متحلية بتلك الأخلاق كلها، بل تفرقت تلك الأخلاق في أفرادها، ومن أجل ذلك يتحلى البعض ببعض هذه الأخلاق بسهولة، لكن لا يتحلى بها كلِّها.

تزكية النفس والفلاح

مع أننا كنّا عُلّمنا: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” (الشمس:9-10)، أي لقد فاز من قام بتزكية نفسه، وهلك من أفسدها. علمًا أن الفلح يعني الشقّ، والفِلاحة هي الزراعة، وتزكية النفس أيضا نوع من الفلاحة، لأن المجاهدة تطهِّر أرض النفس من مفاسدها وقسوتها وتجعلها صالحة لزرع بذور الإيمان الحق فيها على ما يرام، لتصبح شجرة الإيمان قابلة لحمل الثمار. والمتقي لا بد له من مواجهة كبار الشدائد والصعوبات في منازل سلوكه الأولى، ولذلك قد عُبِّر عن ذلك بالفلاح.

وقال الله تعالى في آية أخرى: “قُتِلَ الَْخرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ” (الذاريات:10-11)، وقد بين الله تعالى هنا حالة الكفار. والغمرة تعني كلّ ما يغشى الشيءَ ويثقل عليه ولا يدَعه يرفع رأسه. وثمة غمرةٌ تغشى سطح الحقل وتقسّيه، وتسمى بلغتنا “كرند.” فالله تعالى يقول في وصف الكفار: ويل لهؤلاء الخراصين الذين نفوسهم لا تزال في غمرة وغشاء. وبذكر هذا المثال قد حذر الله المؤمنين بأنهم لن يستطيعوا العمل على وجه البصيرة ولن يُعَدّوا من أولي الأبصار ما لم تزُلْ الغمرة عنهم.

وقد استخدم الله تعالى هنا كلمة “قُتِلَ”، لأن هذا الموطن يتطلب الرحمة والشفقة، وكأنه تعالى يقول: إنهم هم الفاعلون لهذا الفعل ويهلكون أنفسهم بأنفسهم. ذلك أن بعض الناس دأبهم التخريص والتخمين، لا يعملون ببصيرة وبُعدِ نظرٍ، بل يعملون بناء على ظنون فاسدة ومجرد تخمين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

كنت أود من هذا البيان تقديم أسوة النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة في الأخلاق. لقد كان الفردَ الأكمل خُلقًا، ثم أخذ الناس بعده نصيبًا من أخلاقه، فهذا أخذ خُلقًا وذاك أخذ خلقًا آخر، وصارا في غمرة بالنسبة لأخلاقه صلى الله عليه وسلم الأخرى. على المرء أن يزيل عنه هذه الغمرة الروحانية، وإلا فهناك احتمال أن يفقدَ صفاته الحسنة الأخرى أيضا، شأنَ الفلاح الذي لا مناص له من إزالة الغمرة عن الأشجار التي أصابتها وإلا تضررت بها الأشجار الأخرى أيضا.

المفهوم الواسع “لكل داءٍ دواءً”

من الخطأ القول بأن الإنسان قادر على تغيير بعض أخلاقه ولكنه ليس بقادر على تغيير بعضها الأخرى. كلا، بل إن “لكل داءٍ دواءً” من المؤسف أن الناس لا يقدرون هذا القول النبوي حق قدره، ويظنون أنه ذو صلة بالأسقام المادية فقط. يا لجهالتهم وخطئهم! فما دام الله تعالى قد هيأ لإصلاح الجسد الفاني ونفعه كل نوع من الأسباب، فكيف لا يهيئ الدواء للأسقام الروحانية. كلا، إن الدواء موجود يقينا. إنه لمن الحق اليقين أن الله يكون في عون العبد الذي يكون في عون نفسه، أما الكسالى والمتساهلون فيهلكون في نهاية المطاف.

نوعان من الشيخوخة

عندما يأتي على الإنسان زمان النقص في الخلْق، أعني زمان شيخوخته، فلا تعمل عيناه عملها، ولا تسمع أذناه على ما يرام، ويصبح كل عضو من أعضائه شبهَ معطل لا يؤدي وظيفته كما ينبغي. واعلموا أن هذه الشيخوخة نوعان: طبيعي وغير طبيعي. فأما الشيخوخة الطبيعية فهي ما ذكرته آنفًا، وأما الشيخوخة غير الطبيعية فهي ألا يهتمّ المرء بما أصابه من أمراض، فتضعفه وتجعله شيخًا هرمًا قبل الأوان. والنظام الباطني الروحاني مماثل للنظام الجسماني الظاهري، وإذا لم يسْعَ المرء لتغيير أخلاقه السيئة بأخلاق حميدة وشمائل محمودة، فإنه يتردى من حيث الأخلاق كلية. إن الثابت من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن تعاليم القرآن الكريم جليًّا أن لكل داءٍ دواءً، ولكن إذا صار الإنسان مغلوبًا بالكسل والتهاون، فليس مصيره إلا الهلاك. إذا عاش غير مكترث لما ألّم به كما يعيش العجائز، فكيف ينجو من الهلاك؟

تغيير الأخلاق ممكن بالمجاهدة والدعاء

والغمرة التي تغشى قلب الإنسان لا تزول إلا بالمجاهدة والدعاء. قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد:11)، أي: لا يكشف الله عن قوم أي نوع من الآفات والمصائب ما لم يسعوا لإزالته. فما لم يرفعوا الهمم ولم يتشجعوا لذلك فكيف يصُل التغيير؟ إنها سنة الله تعالى التي لا تتغير حيث قال: “وَلَنْ تَِجدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا” (فاطر:43). فسواء كانت جماعتنا أو غيرها، فليس بوسعهم تغيير أخلاقهم إلا أن يجاهدوا ويدْعوا، أما بدون ذلك فالأمر محال.

مذهبان حول تغيير الأخلاق

هناك مذهبان للحكماء حول تغيير الأخلاق، فهناك فئة ترى أن الإنسان قادر على تغيير أخلاقه، بينما تقول فئة أنه ليس بقادر على ذلك. والحق أن تغيير الأخلاق ممكن شريطة أن يتخلى المرء عن الكسل والتهاون وأن يسعى لذلك سعيا. تحضرني هنا حكاية أن شخصًا جاء لزيارة أفلاطون الفيلسوف اليوناني الشهير ووقف على بابه وأرسل إليه. وكان من عادة أفلاطون ألا يسمح للزائر بالدخول إلا بعد أن يرتاح إليه ويطمئن بالاطلاع على حليته وملامح وجهه، إذ كان قيّافًا يعرف حقيقته بمعرفة ملامحه. فجاء الخادم ووصف لأفلاطون ملامح الزائر، فقال له أفلاطون: قل له إني لا أريد لقاءه لأنه ملطخ برذائل كثيرة. فلما سمع الزائر ذلك قال للخادم: ارجعْ إلى سيدك وقل له: إن ما يقوله صحيح، ولكني قد قمت بالإصلاح وأقلعت عن عاداتي الرذيلة. فقال أفلاطون: نعم، هذا ممكن، فاستدعاه ولقيه بحفاوة وتكريم عظيمين.

الحق أن العلماء الذين يقولون باستحالة تبديل الأخلاق مخطئون. لقد رأينا أن بعض الموظفين يرتشون في أول أمرهم، ثم يتوبون توبة نصوحا، ولا يلتفتون بعدها إلى الرشوة ولو عرض عليهم أحد جبلًا من الذهب.

ثلاثة شروط للتوبة

الحق أن التوبة دافعٌ قوي ومساعد كبير على التحلي بالأخلاق الفاضلة، وتجعل الإنسان كاملا. أعني أن الذي يريد تغيير أخلاقه السيئة عليه أن يتوب بصدق القلب والعزيمة القوية.

واعلموا أن للتوبة ثلاثة شروط لا تتيسر بدونها التوبةُ الحقيقية التي تسمى بالتوبة النصوح.

وأول هذه الشروط الثلاثة يسمَّى بالعربية الإقلاع، أي إزالة الأفكار الفاسدة الدافعة إلى الخصال الرديئة. والواقع أن التصورات لها تأثير قوي، لأن كل فعل يكون مجرد تصوُّرٍ قبل تحوُّله إلى حيّز العمل. فالشرط الأول للتوبة هو أن يقلع المرء عن الأفكار الفاسدة والتصورات السيئة. وعلى سبيل المثال، إذا كان على علاقة غير مشروعة مع امرأة فلا بد له قبل التوبة أن يستكره ويستبشع صورتَها ويستحضر في ذهنه رذائلها كلها، لأنه كما قلتُ آنفا إن للتصورات تأثيرا قويا جدا. وقد قرأت في سوانح الصوفية أنهم بلغوا في التصور بحيث رأوا الإنسان على صورة قرد أو خنزير. باختصار، إن الإنسان يتصبغ بصبغة تصوراته، لذا عليه أن يقتلع نهائيا الأفكار التي هي السبب وراء تلك الملذات المنكَرة، وهذا هو الشرط الأول. والشرط الثاني للتوبة هو الندم. إن ضمير كل إنسان قادر على تحذيره عند كل سيئة، ولكن الشقي يترك ضميره عاطلا. لذا على المرء أن يندم على ارتكاب معصية وسيئة ويفكّر أنها ملذات آنية عابرة. ثم عليه أن يتذكر أيضا أن الاستمتاع بتلك الملذات الفانية يضعف ويتضاءل في كل مرة، حتى أنه يتخلى عنها في الشيخوخة نهائيا حين تضعف قواه وتتعطل. فما دامت كل هذه المتع ستزول في حياته تلقائيا في نهاية المطاف، فما الفائدة من تعاطيها أصلا؟ فيا لسعادة امرئ يلجأ إلى التوبة ويفكر في الإقلاع أولًا، أي يقتلع الأفكار الفاسدة والتصورات السخيفة الدنيّة، وبعد التطهر من هذه النجاسة والقذارة يخجل ويندم على ما صدر منه من قبل.

والشرط الثالث هو العزم، أي أن يصمم المرء على ألا يعود إلى تلك السيئات أبدا. وحين يداوم على ذلك فإن الله تعالى سيوفّقه إلى التوبة الصادقة حتى يتخلص من المعاصي نهائيا وتحلّ محلَّها الأخلاقُ الحسنة والأفعال المحمودة. وهذا هو الانتصار في مجال الأخلاق. أما التوفيق في ذلك فهو بيد الله تعالى، فهو الذي يملك القوة والقدرة كلها كما قال: “أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا” (البقرة:165). إن القدرة كلها لله تعالى، أما الإنسان الضعيف البنية فما هو إلا كائن ضعيف، وليست حقيقته إلا كما قيل: “خُلِقَ الِْإنْسَانُ ضَعِيفًا” (النساء:28).

فمن أجل الاستعانة بالله فعلى الإنسان أن يوفِ بالشروط الثلاثة المذكورة أعلاه، وأن يتخلص من الكسل والتهاون، وأن يدعو الله تعالى بكل النشاط والخشوع، فسوف يغيّر الله أخلاقه.

من هو البطل حقا؟

إن جماعتنا ليست بحاجة إلى الأبطال الأشدّاء، وإنما هي بحاجة إلى الذين يسعون إلى تحسين أخلاقهم. فليس البطل القويّ مَن يقدر على نقل الجبل من مكانه، إنما الشجاع من يقدر على تحسين أخلاقه. فعليكم أن تستنفدوا جُلَّ هّمتكم وقوتكم في تحسين الأخلاق، لأن هذه هي القوة والشجاعة الحقيقية.

الخلق العظيم كرامة عظيمة

لقد بينت أمس أو أول أمس أن الُخلق العظيم كرامة عظيمة تتضاءل أمامها الخوارق أيضا. فمثلًا لو وقعتْ اليوم معجزةُ شق القمر لسارع علماء الهيئة والطبيعة والمشغوفون بالعلوم إلى النيل من عظمة هذه المعجزة باعتبارها من قبيل الكسوف والخسوف، أما معجزة شق القمر الماضية التي يقدمها المسلمون فهي مجرد قصة عند هؤلاء القوم. خذوا مثلًا هذا الكسوف والخسوف الذي وقع في رمضان والذي كان آية سماوية من آيات المهدي، فقد بلغني أن قومًا يقولون: إن وقوع هذا الكسوف والخسوف في رمضان كان معلومًا سلفًا بحسب علم الهيئة والفلك، ذلك سعيًا منهم للنيل من عظمة الحديث الذي رواه الإمام محمد الباقر عليه السلام. ولا يفكر هؤلاء الحمقى أن النبوءة لا يقدر عليها كل من هبّ ودبّ . النبوءة تعني التنبؤ بشيء، وليس بوسع كل إنسان الإدلاء بالنبوءات. لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا الكسوف والخسوف في رمضان سيكون في زمن شخص يدّعي المهدوية والمسيحية. ولم يحدث هذا منذ خلق السماوات والأرض حتى اليوم. فإذا كان المعارضون تساورهم أية شبهة في هذه النبوءة عقلًا، فعليهم أن يقللوا من عظمتها تاريخيا، أعني عليهم أن يدلُّونا على زمن وقع فيه الخسوف والكسوف في رمضان على هذا النحو، أعني أن يكون هناك مدّعٍ قد قام بالدعوى أولا، وأن تكون هناك نبوءة من أحد الأنبياء عن وقوع الخسوف والكسوف في رمضان تصديقا لما ادعى به هذا المدعي. ولكن من المستحيل أن يأتي أحد بهذا البرهان.

إنما هدفي من ذكر هذه الواقعة هو أن الناس يمكن أن يقدّموا بعض الأعذار والشبهات حول الخوارق لإنكارها، أما الأخلاق الفاضلة فهي كرامة لا يسع أحدا توجيه إصبع الاتهام إليها، ولذلك كان أعظم وأقوى معجزة أُعطيَها رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم هي معجزة أخلاقه كما قال الله تعالى: “إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم:4). لا شك أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بكل أنواعها هي أقوى وأوكد من معجزات جميع الأنبياء عليهم السلام، إلا أن معجزة خُلقه هي الأعظم درجة، ولم ولن يأتي تاريخ العالم بنظير لها أبدًا.

وعندي أن كل من يتنزه عن أخلاقه السيئة ويقلع عن عاداته الذميمة ويتحلى بخصال حميدة مكان الرذائل، فإن هذا في حد ذاته كرامة بالنسبة له. لو ترك الشخص العصبُّي الفَظّ غليظ القلب فظاظته وعصبيّته وتحلى مكانها بالحلم والعفو، أو لو ترك البخيل بخله وتحلى بالجود والسخاء، أو لو تخلص الحاسد من حسده وتخلق بالمواساة، أو لوكفَّ الأناني المتكبر عن زهوه وكبره متحليا بالتواضع والتذلل، فلا شك أن هذه كرامة منه. ومن منكم لا يريد أن يكون من أهل الكرامات؟ إني أعلم أن كل واحد منكم يريد ذلك. فإصلاح المرء أخلاقه كرامة حيّة خالدة، لأن أثرها لا يزول، ونفعها يطول. وعلى المؤمن أن يكون صاحبَ كرامة عند الَخلْق والخالق. فكم من منغمس في ملذات الدنيا ومتعها لم يقتنع بأية آية خارقة، ولكن خضع عنقه برؤية الأخلاق، ولم يجد مناصًا من الاعتراف بالحق. ستقرأون في سوانح كثير من الناس أنهم لم يؤمنوا بالدين الحق إلا برؤية كرامات الأخلاق.

بينما كان المسيح الموعود عليه السلام يلقي هذا الخطاب إلقاءً حماسيا ومؤثرا جدا إذ جاء بعض السيخ السكارى في ثياب النساك، وتكلموا بكلام كله هذر وهذيان كاد يكدّر صفو جو هذا المجلس المشابه بمجالس أهل الجنة، ولكن إمامنا الصادق عليه السلام أرى بعمله تلك الكرامة الُخلقية التي كان يتحدث عنها، مما ترك على الحضور وقعًا عظيما وجعل أكثرهم يبكون ويصرخون من فرط الخشوع، أما السيخ السكارى الأشرار فوقعوا أخيرا في أيدي الشرطة التي جعلت سكرهم يتبخر في الهواء. (المحرر)

لا تضيعوا كلماتي

فها إني أناديكم يا أصحابي بصوت عال مرة أخرى بأن استمعوا وعوا، ولا تضيعوا كلماتي، ولا تعُدُّوها كقصة قاصٍّ فحسب، فإني قد قلتها بمنتهى الحرقة والمواساة الصادقة المودعة في روحي فطرةً، فاستمِعوا لها بأذن صاغية واعملوا بها.

 ألا فاعلموا جيدا، والحق أقول، إنه لا مناص من المثول أمام الله تعالى، فلو غادرنا هذه الدنيا بحال حسنة فطوبى لنا وسعادة، وإلا فإن الوضع خطير. اعلموا أن الذي يغادر هذه الدنيا بحال سيئة فإن هذا العالم نفسه يصبح بمنزلة “مكان بعيد” بالنسبة إليه، أعني أنه يبدأ فيه التغير وهو في حالة النزع والاحتضار، وقال الله تعالى: “إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ” (طه:74). وما أوضحَه من بيان! فالمتعة الحقيقية إنما هي في سعادة الحياة وراحتها، بل إن الإنسان لا يُعَد حيًا إلا إذا كان مستمتعًا بكل نوع من الأمن والراحة. أما إذا كان يقاسي الآلام نتيجة مرض القولنج (القولون العصبي) أو وجعٍ في السنّ، فيكون أسوأ حالًا من الأموات، ولا يُعَدّ حيًّا ولا ميتا. فيمكن أن تقيسوا على ذلك مدى شدة العذاب الأليم في الجحيم.

المجرم من قطع صلته عن الله تعالى

إنما المجرم من يقطع صلته عن الله تعالى في الحياة. لقد أُمر أن يكون لله ويكون مع الصادقين، ولكنه عاش عبدًا للأهواء موافقًا لأعداء الله ورسوله الأشرار، وبرهنَ بسلوكه هذا على قطع علاقته عن الله تعالى. ومن سنة الله أن المرء إذا ذهب في جهة، ابتعد عن الجهة المعاكسة، وإذا انقطع العبد عن الله وصار عبدًا لأهواء نفسه، وابتعد عن الله تعالى، وكلما ازداد تعلقًا بأهوائه ضعفت علاقته بالله تعالى. هناك مثل سائر:

 أي أن من القلب إلى القلب دليلا.

 فإذا تبرأ المرء من الله تعالى بعَمله، فليعلم أن الله أيضا قد تبرأ منه، وإذا أحب الله تعالى ومال إليه كما يميل الماء، فليعلم أن الله رحيم ويحب مَن يحبه أكثرَ من حبّه له تعالى. إنه ذلك الإله الذي ينزل بركاته على محبيه ويُشعرهم أنه معهم، ويبارك في كلامهم وفي شفاههم، حتى يتبرك الناس بثيابهم وبكل شيء لهم.

الساعي إلى الله لا يفشل أبدا

 يوجد اليوم في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم الدليل على أن من كان لله كان الله له. إن الله لا يضيع جهود من يسعى إليه. من الممكن أن يضيع الفلاحُ زرعه، وأن يضرّ الخادم سيدَه بعد عزله، وأن يفشل الطالب في امتحانه، ولكن الساعي إلى الله تعالى لا يفشل أبدا، لأن الله تعالى قد وعدَ ووعدُه الحق: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت:69). فمن بحث عن سبل الله وصل غايته المنشودة في نهاية المطاف. إذا كنا نشفق على الطلاب الذين يسهرون الليالي ليعدّوا عُدّتهم لامتحاناتهم الدنيوية، فكيف يمكن أن يضيع الله الذي لا حدّ لرحمه ولا نهاية لأفضاله مَن يأتي إليه؟ كلا، ثم كلا. إن الله لا يضيع سعي ساعٍ حيث قال الله تعالى: “إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيَن” (التوبة:119)، وقال تعالى: “مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ” (الزلزلة:7). نجد آلاف الطلاب يبكون وقد ينتحرون حين تضيع جهودهم التي بذلوها عبر السنوات، ولكن فضل الله عميم، فهو لا يضيع مثقال ذرة من عمل الإنسان. فيا أسفا على الإنسان الذي يسعى في الدنيا سعيًا حثيثًا من أجل أمور ظنية وهمية ناسيًا راحة نفسه ومتكبدًا آلاف المعاناة والآلام على أمل ضئيل بالنجاح، فالتاجر مثلًا ينفق مئات الآلاف أملًا في الربح مع أنه لا يكون موقنا بالربح، ولكني لا أرى الذين يريدون وصال الله يعملون بهذا الحماس والسعي، مع أن الله تعالى قد وعد وعدًا يقينيًّا أكيدًا أنه لن يضيع من جهود الذين يسعون إليه مثقالَ ذرة. لَِم لا يفهم هؤلاء؟ ولماذا لا يخافون بأنه لا مناص لهم من الموت يوما ما؟ أليس حريًّا بهم، بعد رؤية أنواع الفشل، أن يهتموا بهذه التجارة التي لا خسارة فيها، بل الربح فيها مؤكد يقيني؟ كم يتكبد الفلاح في الفلاحة، ولكن من يضمن له أن النتيجة ستكون الراحة حتما.

كم هو رحيم ربنا، وكم هو رائع مستودعه، حيث يمكن أن تدّخر فيه فلسًا وروبية ودينارا أيضا، مِن دون أي خطر من سارق ولا من إفلاس. ورد في الحديث أن من أماط عن الطريق شوكة أو غيرها فسوف ينال أجره، ومَن أخرج بدلوه الماء من البئر وملأ به جرة أخيه فلن يضيع أجره. فتذكروا أن الطريق الذي لا يفشل فيه المرء هو طريق الله. أما طرق الدنيا فمليئة بصخور العثار والفشل عند كل خطوة. لم يكن الذين تركوا الحكم والسلطان لوجه الله أغبياء، مثل إبراهيم بن أدهم، والشاه شجاع، والشاه عبد العزيز الذي كان من المجددين. لقد تخلَّوا عن الحكم والسلطان والجاه الدنيوي، وليس ذلك إلا لأنه يوجد حجر عثرة عند كل خطوة. إن الله تعالى لجوهرةٌ، ومَن نال معرفته نظر إلى الأشياء المادية محتقرا مزدريا بحيث إنه لا ينظر إليها إلا بعد كثير من الجبر والإكراه على نفسه. فمعرفة الله اطلبوا، وإليه امضوا قدمًا، ففي هذا النجاح.

كرامة الأخلاق

إن طلب الإصلاح من الله تعالى والسعي لذلك هو السبيل للإيمان. ورد في الحديث الشريف أن من يرفع يديه للدعاء موقنًا فلا يردّ الله دعاءه. فاسألوا الله واسألوه بيقين وصدقِ نية.

وأنصحكم ثانية أن التحلي بالأخلاق الحسنة هو الكرامة. ومن قال إني لا أريد أن أكون من أهل الكرامات، فليعلم أن الشيطان يخدعه. الكرامة لا تعني أن يصاب المرء بالعُجب والغرور. الكرامة تساعد الناس على معرفة صدق الإسلام وحقيقته وهدايته. وأقول لكم ثانية إن العُجب والكبر لا يمتّ إلى الكرامة الُخلقية بصلة. إنها وسوسة شيطانية. انظروا إلى ملايين المسلمين القاطنين في شتى بقاع الأرض، فهل دخل هؤلاء في الإسلام بحد السيف جبًرا وإكراها؟ كلا، إنه زعمٌ باطل كلية. إن تأثير كرامات الإسلام هو الذي جذبهم إليه جذبًا. والكرامات صنوف وأنواع، منها الكرامة الُخلقية، وهي نافعة في كل مجال. إن هؤلاء الذين أسلموا لم يروا إلا كرامة الصالحين، فأُعجبوا بها، ونظروا إلى الإسلام بتعظيم، ولم يروا أي سيف قط. لقد اضطر كبار الباحثين الإنجليز للاعتراف بأن روح الإسلام تمتلك من التأثير ما لا يجد أمامه الشعوب الأخرى مناصًا إلا أن يدخلوا في الإسلام.

لا تصدوا الناس عن الإيمان بسبب سوء أخلاقكم

إن الذي يُري جارَه أنه قد أصلح أخلاقه وصار إنسانا مختلفا تماما، فكأنه يُريه كرامةً، وسوف يكون لتغييره الُخلقي تأثير طيب على جاره.

يعترض الناس على جماعتنا ويقولون لم نر أي تطور حققه أبناؤها، ويتهموننا بالافتراء والغيظ والغضب. ألا يبعث قولهم هذا أبناءَ جماعتي على الندم؟ إنهم قد انضموا إلى جماعتي باعتبارها جماعةً صالحة، شأنَ الابن الرشيد الذي ينسب إلى والده كل ما هو خير. والمبايع بحكم الابن، ومن أجل ذلك قد سُميت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم المطهرات أمهاتِ المؤمنين، باعتباره صلى الله عليه وسلم أبًً لعامة المؤمنين. إن الأب المادي يكون سبابا في نزول ابنه إلى الأرض وفي حياته الظاهرة، أما الأب الروحاني فيرفعه إلى السماء ويرشده إلى مقامه الحقيقي. فهل ترضون أن يشوّه الابنُ سمعة أبيه، ويذهب إلى المومسات، ويلعب القمار، ويشرب الخمر، ويتورط في المنكرات الأخرى المسيئة إلى أبيه؟ إني لأعلم أنه لن يرضى بذلك أحد. ولكن إذا تورط الابن السيئ في هذه المنكرات فلا يمكن أن تسكت الخلائق، بل سيقول الناس إن ابن فلان يرتكب هذه المنكرات. فالحق أن ذلك الابن الشرير هو الذي يلطّخ سمعة أبيه. كذلك تماما من دخل في هذه الجماعة ثم لا يبالي بعظمتها وكرامتها، ويخالف تعاليمها، فهو مأخوذ عند الله تعالى، لأنه لا يلقي نفسه فقط إلى التهلكة، بل يقدم للآخرين مثالًا سيئا ويحول دون سعادتهم وهدايتهم.

لذا فاستعينوا بالله ما استطعتم، واسعوا للتخلص من تقصيراتكم بكل ما أوتيتم من قوة وهمة، وحيثما عجزتم فارفعوا أكفّ الضراعة بصدق ويقين، لأن الأيدي المرفوعة بخشوع وخضوع وبدافع الصدق واليقين، لا ترجع خائبةً. وأقول لكم بناءً على خبرتي إن آلاف أدعيتي قد استجيبت ولا تزال تستجاب.

إن الذي لا يجد في نفسه حماسًا لمواساة بني جنسه فهو بخيل يقينا. فلو رأيتُ طريق الصلاح والخير، فمن واجبي أن أدعو الناس إليه بصوت عال، بغض النظر عما إذا كان أحد يلبي ندائي أم لا. ولله در القائل:

أي: إني أتكلم سواء استمعَ لي أحد أم لم يستمع.

فلو صار إنسان واحد منكم ذا فطرة سليمة حيّة فهذا يكفي. ها إني أخبركم صراحة أنه لا يليق بي أن أقول لكم ما أقول طمعًا في الثواب. كلا، بل إني لأجد في نفسي حماسا والتياعا إلى أقصى الحدود. إني لا أدري سبب هذا الحماس، ولكنه حماس يستحيل أن يخمد. لذا فمن واجبكم العمل بما أقول لكم باعتباره وصايا رجل قد لا تلقونه بعد اليوم، واعملوا بها حتى تكونوا قدوة للآخرين، واشرحوا هذا الأمر للذين هم بعيدون عنا من خلال أعمالكم وأقوالكم. إذا لم يكن هناك حاجة للعمل بما أقول، فبالله أخبِروني ما الهدف من حضوركم هنا. إني لا أريد تغييرا خفيًا، بل أريد تغييرا واضحا بيّنا، لكي يندم المعارضون، ولكي يرى الناس الضوء مِن طرفنا نحن فقط، ولكي ييأسوا من معارضينا مدركين أنهم في ضلال. لقد تاب على يد النبي صلى الله عليه وسلم كبار الأشرار. لماذا؟ لأنهم خجلوا برؤية الثورة العظيمة التي حصلت في نفوس الصحابة، وبرؤية أسوتهم الحسنة الجديرة بالتأسي بها.

نموذج طيب من عكرمه رضي الله عنه

لا شكّ أنكم قد سمعتم قصة عكرمة. كان هو الرأس المدبر وراء البليّة التي حلّت بالمسلمين يوم أحد، ولكن أسوة الصحابة الكرام جعلته يخجل في نهاية المطاف. وأرى أن الخوارق لم تعمل في الناس ما عملته قدوة الصحابة الحسنة وتغييراتهم الطيبة. لقد أذهلتهم المكانة السامية التي بلغها أبناء أعمامهم، فأدركوا في الأخير أنهم كانوا مخدوعين. في وقت هجم عكرمة على النبّي صلى الله عليه وسلم، وفي وقت آخر بدد عنه جيشَ الكفار.

باختصار، إن النماذج الطيبة التي قدّمها الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نستطيع بكل فخر أن نقدمها كأدلة وآيات. خذوا مثلا عكرمة نفسه، فكان في أيام الكفر موصوما بالكفر والكبر وغيرهما من الرذائل، وكان يتمنى محو أثر الإسلام من الدنيا إن استطاع لذلك سبيلا، ولكن لما أخذ الله تعالى بيده فضلا منه وشرَّفه بالإسلام، تحلى بأخلاق حميدة بحيث لم يبق فيه أثر من الكبر والزهو، وتخلق بالتواضع والتذلل بحيث صار حجة للإسلام ودليلا على صدقه. وقعت معركة بين المسلمين والكفار مرة وكان عكرمة يقود الجيش الإسلامي، وكان القتال شديدا مريرا وكاد أن ينهزم المسلمون، فلما رأى عكرمة ذلك نزل من حصانه، فسأله الناس لماذا ترجّلت؟ قد يساعدك الحصان على التحرف في القتال عند الحاجة؟ فقال تذكرتُ الزمن الذي كنت أحارب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أريد أن أكفّر ذنوبي بتقديم حياتي الآن. فشتان بين حالة عكرمة الأولى وحالته الأخيرة! حتى إننا لا ننفكّ نذكر محامده في مناسبة وأخرى.

فاعلموا أن رضا الله يحالف قوما يجمعون رضا الله في أنفسهم. لقد وصف الله الصحابة مرارا بقوله (رضي الله عنهم) فنصيحتي لكم أن كلّ واحد منكم يجب أن يتحلى بهذه الأخلاق.

العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة

هذا، وهناك أمران آخران ينبغي للمخلص الصادق مراعاتهما أيضا، أحدهما: المعتقدات الصحيحة. إنه لمن فضل الله العظيم أنه أرانا صراط المعتقدات الصحيحة والكاملة بواسطة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بدون أي مشقة أو جهد منا. والسبيل الذي أُريتموه في هذا الزمن، لا يزال كثير من المشايخ والعلماء محرومين منه حتى الآن. فاشكروا الله على فضله ونعمته هذه، وإنما سبيله أن تعملوا الصالحات بصدق القلب لأنها تحتلّ المرتبة الثانية بعد المعتقدات الصحيحة، وادعوا الله تعالى مستعينين بحالتكم العَملية أن يثبّتكم على المعتقدات السليمة، ويوفقكم لفعل الصالحات.

أما الأمر الآخر فيتعلق بالعبادات من صوم وصلاة وزكاة وغيرها. خذوا الصلاة مثلًا، فإنها قد جاءت إلى هذه الدنيا ولكنها ليست من هذه الدنيا. لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : “قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ” (مسند أحمد، مسند أنس بن مالك).

مواقيت الصلاة انعكاس لحالاتنا الروحانية

واعلموا أيضًا أن هذه المواقيت الخمسة المحددة للصلاة ليست من قبيل الجبر أو الإكراه، بل لو تدبرتم فيها لوجدتم أنها في الواقع صورةٌ تعكس حالات الإنسان الروحانية. لقد قال الله تعالى: “أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ” (الإسراء:78). وترون هنا أن الله تعالى قد ربط إقامة الصلاة بدلوك الشمس. ومع أن هناك اختلافا في معنى الدلوك، إلا أن الدلوك هو وقت زوال الشمس. فما السر والحكمة في أن الله تعالى فرض خمس صلوات بدءًا من الدلوك؟

اعلموا أن القانون الطبيعي يكشف لنا أن مراحل التذلل والتواضع الروحاني أيضا تبدأ من الدلوك نفسه، وأنها خمس حالات. فأول ميقات الصلاة أيضا يبدأ في وقت تأخذ فيه بوادر الهم والغم والحزن في الظهور. فكَمْ يتواضع المرء ويتذلل عند حلول آفة أو مصيبة! ويمكنكم تقدير الرقة والتواضع اللذينِ يستوليان على المرء حين يهزّه الزلزال مثلًا.كذلك عندما يستلم المرء إخطارًا أو استدعاءً من المحكمة يعلم أن قضية رُفعتْ ضده بحسب القانون الجنائي أو المدَني، وبعد قراءة هذا الإخطار تستولي عليه حالة كحالة زوال الشمس بعد نصف النهار، إذ لم يكن يعرف عن القضية المرفوعة ضده شيئا قبْل اطلاعه على الإخطار، ولكن بعد ذلك تحيط به الأفكار والهموم بأن الخصم ربما قد استعان بمحامٍ ولا يدري ماذا يحدث الآن؟ ولا جرم أن الزوال الذي يصيبه عند هجوم هذه الأفكار والهموم عليه يماثل الدلوك تماما، وأن حالتَه الأولى هذه تشبه صلاةَ الظهر وتنعكس فيها. ثم تطرأ عليه حالة أخرى حين يكون ماثلًا في غرفة المحكمة ويواجه شتى الأسئلة والتهم من قبل الخصم والمحكمة أيضا، فتكون حالة غريبة حقا، وهذه الحالة أو هذا الوقت يماثل صلاة العصر، لأن معنى العصر دقُّ الشيء واعتصاره. ثم عندما يزداد وضع المرء سوءًا وخطورةً ويُدان، فيزداد يأسًا وقنوطا، حيث يفكر أنه سيُحكَم عليه بالعقاب الآن. وهذا الوقت يعكس صلاة المغرب. وحينما يصدر الحكم عليه ويُسلَّم إلى الشرطة أو مفتّش المحكمة، فحالته تلك تعكس صلاةَ العشاء من الناحية الروحانية. إلى أن ينبلج الفجر ويأتي وقتٌ يتحقق له فيه قول الله تعالى: “إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” (الشرح:6)، وتشابه حالته تلك من حيث الروحانية وقتَ صلاة الفجر، وتكون صلاة الفجر انعكاسًا لوقت ذلك الفرج.

فها إني أخاطبكم ثانية وأقول: يا مَن تنتمون إلَّي بصدق، فإنما الهدف من هذا الانتماء أن تُحدثوا في أخلاقكم وخصالكم تغييًرا طيّبًا بيّنًا يكون سببا لهداية الناس وسعادتهم.

(المصدر: تقرير الجلسة السنوية عام 1897، ترجمة ص130-167).

هذا الموقع هو موقع علمي لا يتبع الجماعة الإسلامية الأحمدية التي تسمىى الطائفة القاديانية ولا يتبع أي فرقه من الفرق المنتسبه للإمام المهدي والمسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني

 MirzaGhulamAhmed.net © 2025. All Rights Reserved.

 MirzaGhulamAhmed.net © 2025.

All Rights Reserved.

E-mail
Password
Confirm Password